حين صدر القرار السّعودي بـ«السماح» للنساء بقيادة السيارات، وبدأت ردود الفعل عليه في بلادنا تتوارد، لاحظ أسعد ابو خليل الأسلوب الذي تعتمده النّخب الإعلاميّة في لبنان، حين تحاول الترويج لسياسات معيّنة أو خدمة مموّليها، في «خلق الإجماع» وطرح «موقفٍ صحيح»، كلّ من يختلف معه لأيّ سببٍ هو متخلّفٌ ومجرمٌ وبلا أخلاق، وتكراره بحرفيته على نطاقٍ واسع وبنبرةٍ عدائية فارضة حتّى يتكرّس.
الموضوع هنا كان «مباركة» الخطوة الملكيّة، والمساهمة في «حملة علاقات عامّة على مستوى كوني» لصالح الحكم السعودي، كما وصّف محلّلٌ غربي لوكالة «بلومبرغ» السياسات الأخيرة لمحمّد بن سلمان. «الخطوة الأولى» في هذه العمليّة هي في أن تؤكّد على فوائد القرار وأنّه سعيٌ في الطّريق الصحيح وأنّه يجب أن نكون ايجابيين وننظر الى الجانب المشرق من الموضوع، ونشجّع مثل هذه المبادرات التقدّمية (وهمّنا هنا فقط هو النساء السعوديات، طبعاً). الخطوة الثانية هي في أن تربط بين القضيّة وبين الشّعب، فالكلام هنا ليس مديحاً لمحمّد بن سلمان، بل هو فرحٌ لانتصار الناشطات السعوديّات ونضالهنّ ــــ مع أنّي لم أتطرّق اليهنّ مرّة في حياتي من قبل ــــ والذي كان القرار الملكي ثمرته (فلو شكّكت في هذه الرواية، ولم تصدّق أنّ الملك قد اتّخذ القرار مجبراً تحت الضغط الشعبي، فأنت لا تحترم النساء السعوديات وتبخّس قضاياهنّ). لحسن الحظّ أنّ في بلادنا، ايضاً، فريقاً إعلاميّاً موالياً لقطر، وهو في هذه الأيّام يتربّص للسعوديّين لدى كلّ منحنى، وهو ما منع تحقّق «الإجماع»ــــ كما جرى مع قضايا أخرى ــــ والّا لكنّا نتكلّم الى اليوم عن نسويّة الملك سلمان.

كلامٌ مكرور

المسألة هي أن هذا الخطاب عن الملك الذي يريد أن «يحدّث» السّعوديّة ــــ بمفرده ــــ ويعصرنها ليس جديداً، بل استخدم في حالة كلّ الملوك السابقين: ألا تذكرون أنّ عبد الله كان رائد «التحديث» وبناء الجامعات والمدن الجديدة والبنى التحتية، ومن سيرفع السعودية الى مكانةٍ عالمية؟ أمّا الملك فهد، فقد مثّل عهد «النهضة» السّعوديّة، فيما الملك خالد هو «باني السعودية الحديثة»، وفيصل قاد نظاماً رجعياً وموغلاً في اليمينيّة على سمعة أنّه تحديثي وعروبي ويحبّ الشباب. بمعنى آخر، هذه السردية ــــ حتّى يثبت العكس ــــ ليست شيئاً جديداً يميّز سلمان وابنه، بقدر ما هي منطقٌ دائريّ، يتكرّر مع كلّ عهدٍ جديد ويشكّل جزءاً من بناء صورة الملك وتشريع حكمه. بالمعنى الأعمق، فكرة «الطّاغية التحديثي» الرؤيوي، الذي يتسلّم دولة موغلةً في التقليد فينقلها الى «العصر الجديد» بمبادرته الفرديّة، ويبني الطرقات وسكك الحديد ويفتح البلد على الخارج، ليست نموذجاً واقعياً أو صالحاً للعالم الحديث (ونحن لم نعد في القرن التاسع عشر). السّعوديّة هي، أصلاً، بلدٌ حديثٌ ومندمج في السوق العالمي بالكامل، المشكلة هي في نمط الحداثة القائم وليست في «الوصول» اليها.
في كلامه عن «رؤيته»، يتبنّى محمّد بن سلمان سرديّة شائعة تقول بأنّ السّعودية عموماً، منذ اكتشاف النفط فيها، كانت تتطوّر بشكلٍ لا يمكن تفريقه عن حال أيّ دولة أخرى في الاقليم، من البيروقراطية الى التلفزيون والفنون وأسلوب الحياة، ولم يكن التديّن الوهابي عائقاً اشكالياً أمام نشوء هذا «القطاع الحديث». ثمّ حصل «انعطافٌ حاسم» عام 1979، مع تمرّد جهيمان العتيبي، «تنازلت» بعده الدولة للمتطرّفين وأعطت السلطات الدينية حقّ رقابة و«فيتو» على مناحي الحياة (يتجنّب بن سلمان الكلام على حادثة جهيمان ومشكلة الشرعية، فيلوم الخميني وثورة ايران، التي قامت في السنة ذاتها، معتبراً أنّها قد أدّت ــــ بشكلٍ ما ــــ الى تغيير القوانين والمؤسسات في السعودية). الحلّ، اذاً، هو في عكس هذه العمليّة و«تصحيح التاريخ» وتجاوز آثار تلك المرحلة، وفهم أنّ المتديّنين المتطرّفين هم أقليّة، لا يمكن أن تهدّد الحكم أو تشنّ «ثورة دينية»، كما يتخيّل بعض المراقبين الأجانب. عندها، فقط، ستعود المملكة الى سكّة التاريخ.
المشكلة هنا ليست فقط في أنّ التحديات الملحّة في السعودية ليست مرتبطة بالحريات الاجتماعية وافتتاح دور السينما، بل هي ايضاً في المسافة بين الخطاب والواقع. محمّد بن سلمان يتكلّم على سدّ عجز الدولة واستنهاض القطاع الخاصّ، كأننا في بلدٍ شيوعيّ تنقصه الحرية الاقتصادية وسيختبر ــــ للمرة الأولى ــــ سحر السّوق. القطاع الخاص موجودٌ أصلاً في السعودية وفاعل، مع سوقٍ كبيرةٍ للأسهم وباقي المنتجات المالية، وأنت لن «تخلق» رساميل جديدة، بل ستنقل استثمارها من مكانٍ الى آخر (ودعوة المستثمرين الأجانب الى البلد، مع سنواتٍ من الركود، تضعف القطاع الخاص المحلّي ولا تقوّيه). أمّا أن تخلق قيمةً وأعمالاً جديدة وشبكات انتاجٍ توظّف النّاس والرّساميل، فهذا هو التحدّي الحقيقي وهو (كما جرّب كلّ عهدٍ سعوديّ سابق) لا يأتي عبر شعاراتٍ تحديثية وقرارات ملكية.

تقشّف واسراف

في الواقع، فإنّ الأمر الأساسي الذي سيتغيّر، لو طبّقت «اصلاحات» بن سلمان، هو مستوى حياة السعوديين. الدّولة السّعودية انفتحت ــــ لتغطية عجز الموازنة ــــ على أسواق الدّين، لتجنّب تجفيف الاحتياطات الماليّة. في الشّهر الماضي، باعت المملكة سندات دينٍ في السوق العالمية بقيمة 12.5 مليار دولار، بعد أن أصدرت ــــ قبلها بأشهر ــــ صكوكاً اسلامية بقيمة تقارب الـ10 مليارات دولار، واستدانت مثلها من البنوك السعودية المحليّة لتغطية الانفاق العام؛ وهذا بعد إصدارٍ دوليّ سابق بـ17.5 مليار دولار في تشرين 2016. الحكومة السّعودية، اذاً، قد استدانت ما يقارب الـ50 مليار دولارٍ في أقلّ من سنة، أي أكثر من ثلثي الدين العام الذي راكمه لبنان على مدى عقود. الدّولة السّعودية، بمعنى ما، هي ماكينة ضخمة لتوزيع الدّعم الحكومي، للشعب السعودي كما للمستفيدين الخارجيين، وإن كانت الحكومة لا تنوي تخفيض الإنفاق العسكري، فإنّ عبء موازنة المالية السعودية سيقع حصراً على المواطنين. كما يحاجج الكثيرون، فإنّ المصدر الحقيقي لشرعية الحكم السعودي ودوام السّلم الاجتماعي ليس في الدّين أو الايديولوجيا (وهو بالطبع ليس في كاريزما الحاكم)، بل في نظام الرّعاية الذي موّله النّفط، والذي أمّن لأكثر السّعوديين حياةً مستقرّة وضمان الحدّ الأدنى. في بلادٍ الضرائب فيها شبه معدومة، والخدمات والطاقة رخيصة، والاستيراد سهل، فإنّ الأسعار والإيجارات وكلفة الاستهلاك اليومي تكون منخفضة، ولأنّ الطبابة والتعليم بالمجّان، فقد كان في وسع المواطن السعودي ــــ في عصر الوفرة ــــ أن يعيش حياةً مرفّهةً ومطمئنة نسبياً، ولو براتبٍ حكوميٍّ بسيط. هذه العناصر كلّها مهدّدة في «رؤية» محمّد بن سلمان، وهذه القرارات ــــ وإن تمّ تأجيلها وتقسيطها ــــ ستعني دخول السّعوديين من الجيل الصاعد في سياقٍ جديد، البطالة فيه شائعة والأسعار مرتفعة، ومستوى الخدمات التي تتلقّاها يعتمد على قدرتك الماليّة.
تبرير اجراءات التقشّف هذه يصبح أصعب حين لا يطال هذا التغيير حياة الأمراء والحكّام، وحين يدفع الأمير أكثر من نصف مليار دولار ثمناً ليختٍ في اندفاعة حماسيّة، حين رآه في جنوب فرنسا (بحسب «نيويورك تايمز») فأعجبه وأصرّ على شرائه على الفور، عارضاً على مالكه الروسي سعراً يفوق قيمته بكثير. على الهامش: هناك كتابٍ يجب أن يُكتب عن أسلوب حياة آل سعود وفنون الترفيه والملذّات في قصورهم. الخطاب العربي «التقدّمي» يميل، منذ بداية الطفرة النفطية، الى استفظاع نمط حياة الأمراء النفطيين واعتباره نموذجاً للإسراف والخلاعة. ولكنهم لا ينتبهون الى التطوّر المستمرّ في أسلوب حياة الأمراء والبطانة، فبعد ان كان الثراء، في بداية عهد النفط ووصولاً الى الستينيات، يتلخّص ــــ مثلاً ــــ في بناء القصور، أصبح السّفر في السبعينيات والثمانينيات (الى لندن واميركا، وليس الى مصر والبصرة وبيروت) هو علامة المال النّفطي؛ وحين شاهدت صوراً في الوكالات الدولية لـ«قصر الاجازة» لمحمّد بن سلمان، أيقنت بأنّ الاسراف والترف هو المجال الحقيقي الذي تميّز فيه آل سعود وبرعوا (الامارات، من جهتها، تبني حالياً «قصراً رئاسياً»، أو مجمّع قصور، في أبو ظبي يكفي لإدارة دولةٍ بحجم الامبراطورية العبّاسيّة، ويمكن بسهولة وضع كامل البيروقراطية الاماراتية ومؤسساتها فيه؛ ولكنّ أكثره، على الأغلب، سيكون عبارة عن غرف استقبال وطعامٍ وضيافة).

خاتمة

في السّوق العالمي اليوم، يمكنك شراء أو استيراد أي خدمةٍ أو سلعة، ولكنّ التنمية لا يمكن شراؤها، والانفاق النفطي لا يؤمّن غير «واجهةٍ» تشبه التنمية، وتدوم بدوامه. حكومة الامارات، مثلاً، التي تقدّم نفسها كـ«نموذجٍ» للتنمية والنجاح الاقتصادي، وتفتح كيس المال لكلّ شركةٍ أجنبيّة تقترح بناء مشاريع فيها توحي بـ«الحداثة»، من المعماريين العالميين الى ايلون ماسك، تعاقدت منذ سنوات (وسط حملة دعايةٍ كبيرة) على انشاء مفاعلات نووية لانتاج الطاقة في ابو ظبي. الخبر الذي لن تسمعه هو أنّ أوّل المفاعلات، التي بناها الكوريون بكلفةٍ ضخمة، قد اكتمل منذ أشهر ولكنّه لم يشغّل بعد، ولن يدخل الخدمة قبل نهاية السنة، لأنّ الشركة الاماراتية لم تتمكن من تحضير الكوادر البشرية لإدارة مشروعٍ كهذا، وهو من المجالات القليلة في العالم اليوم التي لا يمكنك، ببساطة، أن توكّلها الى شركةٍ أجنبية وأن تطلب من الكوريين إدارة المفاعل الذي بنوه. في الوقت ذاته، تنشر الوكالات العالمية خبراً عن عزم الامارات استيطان المرّيخ وبناء مدنٍ فيه (هذا خبرٌ جادّ، نشرته صحفٌ بريطانية مؤخّراً).
النموذج الذي يمثّله الجيل الجديد من حكّام الخليج ليس «حداثياً» يقطع مع سابقيه، بل هو نسخةٌ متطرّفة عن آبائهم: تبعيّة أكبر لأميركا، تقاربٌ علني مع الصهيونية (وتجاوز التطبيع الى التعاون والتحالف)، وثقةً مطلقة بالسّوق العالمي. لحسن حظنا، نحن أهل المنطقة التي تعيش في ظلّ مشروع الهيمنة الأميركي ــــ السعودي، أنّ محمّد بن سلمان، وليس أميراً محنّكاً مدرّباً، خبيراً بواقع بلاده وبالعالم، هو أمل هذه السلالة والمكلّف بتجديدها. الصدام مع المتدينين أو الليبراليين لن يهدّد النظام السعودي، ولا الاحتجاجات في المنطقة الشرقيّة، أو حتّى السياسات الخارجية وخدمة المستعمرين. أمثولات التاريخ تقول بأنّ شعباً مستقرّاً مرفّهاً من الصعب أن يخرج في حركة احتجاجية أو يخاطر بما يملك ويبادله بالمجهول. من جهةٍ أخرى، يقول دارسو الثورات (كثيدا سكوتشبول وبارينغتون مور) إن ما يفقد النظام شرعيته هو تلاقي عوامل مثل الأزمة الاقتصادية والهزيمة الخارجية وتغييرات اجتماعية لا يقدر النظام على احتوائها وضبطها. سياسات محمد بن سلمان، من «الاصلاحات» الاقتصادية الى حرب اليمن الى الحرب على الناشطين في الداخل ورفض الكلام على التمثيل الشعبي، تبدو وكأنّ الأمير يحضّر مملكته ــــ قصداً ــــ لكلّ عوامل الانحدار.