تونس | في محاولة انتحار تعكس صعوبة الوضع الاجتماعي والاقتصادي في تونس، اعتلى، أمس، شابّ الساعة الشهيرة الواقعة في الساحة الممتدة من شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة تونس، حاملاً بيده رغيف خبز، وهدّد بإلقاء نفسه كتعبير عن اليأس إزاء وضعه المعيشي المتردي.
في الأثناء، وعلى بعد بضع مئات الأمتار فقط، كان رئيس الحكومة يوسف الشاهد يجتمع بوزرائه لمناقشة وتبني مشروع قانون المالية (الموازنة) لسنة 2018، الذي يُرجّح أن يتسبّب في انفجار اجتماعي لما سوف يحمله للطبقات الفقيرة والمتوسطة من زيادة مهمة في الضرائب و»الأداءات»، وهو الأمر الذي لا بدّ من أن يُعمِّق انهيار القدرة الشرائية للتونسيين المتراجعة في السنوات الأخيرة.
رغم التكتم الشديد على مشروع قانون المالية المذكور، فإنّ تسريبات تؤكد أنه سوف يشكِّلُ إطاراً لتنفيذ «إصلاح جبائي شامل» بهدف تخفيض العجز في موازنة الدولة المتوقّع أن يبلغ حوالى ملياري دولار (5345 مليون دينار تونسي) بنهاية العام الجاري، أي ما يعادل 5.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك في حين يتوقع «البنك الدولي» بلوغ عجز الموازنة التونسية حدود 6.2 في المئة من الناتج المحلي بنهاية السنة. وتفيد التسريبات أيضاً بأنّ النقاش يدور حول أنّ الزيادة في الضرائب والأداءات هي الحلّ الذي أوجدته حكومة الشاهد للتخفيض في عجز الموازنة.
هذا «الإصلاح الجبائي الشامل» الذي سوف تُشكِّل الضرائب أساسه، يُمثّل أحد «الإصلاحات» التي يريدها «صندوق النقد الدولي» كي يصرف بقيّة أقساط قرض قيمته الإجمالية 2.8 مليار دولار (حوالى 7 مليارات دينار تونسي)، كان «الصندوق» قد وافق على منحه لتونس في 20 أيار/ ماي 2016، ويمتد على أربع سنوات في إطار ما يُسمى «تسهيل الصندوق الممدد» (برغم التأخير بسبب تأخر «الإصلاحات»، صُرف من القرض قسطان بقيمة 638.5 مليون دولار، ومن المنتظر أن يُفرَج عن قسط ثالث بقيمة 875.350 مليون دولار خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل).
ويبقى صرف القسط الثالث دائماً رهن تقدّم الحكومة التونسية في تنفيذ «حزمة الإصلاحات» المتّفق عليها مع «صندوق النقد»، والتي تشمل أساساً إصلاح الصناديق الاجتماعية وبيع أو خصخصة جزء من المؤسسات العامة وتطبيق قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ، إضافة إلى التخفيض في كتلة الأجور عبر تجميد الدولة للانتدابات، بالتوازي مع اعتماد برامج للتخفيض في عدد الموظفين العموميين (العامين).

تحتاج الحكومة
لتنفيذ «الإصلاحات المؤلمة» إلى دعم سياسي واضح

وفي هذا السياق، إنّ هدف حكومة الشاهد، أو إنّ أحد التزاماتها تجاه «صندوق النقد»، هو التخفيض في كتلة الأجور من قرابة نسبة 15 في المئة من الناتج المحلي حالياً إلى حدود 12 في المئة ببلوغ سنة 2020، إذ ارتفع عدد العاملين في الوظيفة العمومية (العامة) أساساً خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2014 بنحو 155.7 ألف عامل، ليصل عددهم حالياً إلى حوالى 650 ألف موظف من أصل 12 مليون نسمة (كان عددهم قبل «ثورة يناير» يبلغ نحو 440 ألف موظف).
وقد انطلقت الحكومة التونسية فعلياً في تخفيض أعداد الموظفين عبر برنامج أطلقت عليه اسم «برنامج الإحالة على التقاعد الطوعي»، وهو يشمل الموظفين الذين لا يزال يفصلهم عن التقاعد 3 سنوات. لكن عدد المطالِب التي تلقّتها الحكومة «للخروج الطوعي» ضمن هذا البرنامج، كان في حدود الأربعة آلاف طلب، في حين أنّ التوقعات كانت تدور حول عشرة آلاف طلب.
برغم ذلك، لا تزال في جُعبة الحكومة برامج أخرى للتخفيض في عدد الموظفين العموميين، وأهمها ما كُشف عنه خلال الأيام الماضية بشأن وجود مشروع لـ«التسريح الطوعي» لموظفي الدولة في مقابل مكافأة مالية تتراوح بين 24 و26 أجر شهري. وهذا البرنامج لن يكون مرتبطاً بسنّ الموظف أو عدد سنوات عمله، بحيث سيكون جميع موظفي الدولة التونسيين معنيين به بهدف تسريح 120 ألف موظف عمومي ببلوغ سنة 2020، مع الإشارة إلى أنّه في الوقت الحالي يبلغ عدد العاطلين من العمل قرابة 630 ألفاً!
أيضاً، هناك الصناديق الاجتماعية الموضوعة بين أهداف الحكومة و«إصلاحاتها»، عددها ثلاثة، وهي مفلسة. وستكون هذه الصناديق محور محاولة إصلاح لتعبئة مواردها المالية المختلّة، إذ يبلغ عجزها خلال سنتي 2016 و2017 أكثر من 400 مليون دولار. وتقترح حكومة الشاهد في خطتها لإنقاذ الصناديق الاجتماعية إحداث ضريبة بعنوان «ضريبة اجتماعية تضامنية» تَقتطعُ نسبة 1 في المئة من الدخل الفردي السنوي للتونسيين، إضافة إلى إجراءات أخرى تسعى إلى زيادة إجبارية في عدد سنوات العمل والمساهمة الاجتماعية للأجراء، وسط تخفيض معاشات (جرايات) التقاعد.
أما المؤسسات العامة في تونس، فهي، في تقدير «صندوق النقد الدولي»، تُمثّل عبئاً ماليّاً على الدولة، إذ شأنها شأن الصناديق الاجتماعية تسجّل أغلبها خسائر مادية سنويّاً، ما يستوجب من الدولة ضخ أموال من الموازنة العامة. وفي هذا الصدد، تمرّ خطة الحكومة عبر الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ، إذ تقترح رسملة 104 مؤسسات عامة تونسية «مفلسة» (في تقديرها) بالتساوي بين الدولة والمستثمرين في القطاع الخاص، وهو ما يعني البيع الجزئي لهذه المؤسسات.
كل تلك الإصلاحات التي تُعرف في تونس بـ«الإصلاحات المؤلمة» يحتاج الشاهد لتنفيذها إلى دعم سياسي واضح من قبل الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية الكبرى، وخاصة «اتحاد الشغل» (المنظمة النقابية الأكبر في العالم العربي). إلا أنّ الأخير يرفض إلى اليوم كل مشاريع خطط الإصلاحات، باعتبار أنّ «التضحيات» المُقترحة ستكون عبئاً على العمال والأجراء من عموم الشعب، في حين أنّ التضحية يجب أن تكون موزعة ومقسّمة في تقدير المنظمة النقابية القوية في تونس.
وبرغم اقتراب حلول الآجال الدستورية لتقديم رئيس الحكومة مشروع قانون المالية لسنة 2018، إلا أنّه لا توجد مؤشرات تفيد بحصوله على دعم سياسي لتمرير حزمة «إصلاحات صندوق النقد»، إنّما على العكس. وإلى اليوم، لم يُقدّم رئيس الحكومة نسخة عن مشروع قانون المالية المنتظر إلى أي من الأحزاب السياسية أو المنظمات الموقِّعة على «وثيقة قرطاج» التي قامت على أساسها هذه الحكومة. ويجري ذلك برغم أنّ هذه الأطراف تُمثِّل الحزام السياسي والاجتماعي للحكومة والمدافع عن مشاريعها القانونية (طبعاً بشرط عرضها ومناقشتها معهم لإضفاء بصمتهم عليها فتصبح مشاريعهم، وخاصة بالنسبة إلى مشروع قانون المالية الذي من المتوقع أن يُحدِث رجة في تونس).
وإلى الساعة، لا يزال مشروع قانون المالية لسنة 2018 مشروع رئيس الحكومة ووزير ماليّته، فقط، إضافة إلى «صندوق النقد» الذي قام وفد منه بزيارة تونس قبل أسبوع، وأكد في أعقابها رئيس البعثة، بيورن روتر، التزام السلطات التونسية بإدراج الإصلاحات المطلوبة من الصندوق ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2018. ومن الجدير ذكره أنّ النقاشات بشأن السياسات الاقتصادية لتونس ستتواصل في إطار إجراءات القرض أو عقد «تسهيل الصندوق الممدد» خلال الاجتماعات السنوية للصندوق التي ستقام في واشنطن من 13 (اليوم) إلى 15 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وهو تاريخ يتزامن مع الأجل الدستوري الأقصى لإحالة مشروع قانون المالية لسنة 2018 على البرلمان لمناقشته وتبنيه.