بالخط الأسود العريض، تحمل علب السجائر ومشتقات التبغ تحذير من مضار التدخين و"التدخين يقتل". يقرأها المدخن صدفة او لا يلاحظها عندما يستل السيجارة لتدخينها. يقضي التدخين على الرجال والنساء رغم أنف المخطوطات والرسوم الفاقعة على علب الدخان. وبكل انواع المعلومات يتم شرح أهمية وسائل منع الحمل للرجال والنساء، وضرورة استخدامها بشكل نظامي، لتبقى اكثر من ثلث الحمول غير مرغوبة والقسم الأكبر منها ينتهي بتوقف الحمل وما يعني ذلك من مخاطر جدية لصحة المرأة وحياتها الانجابية وحتى وفاتها في بعض الأحيان.
أما الحديث عن مضار الوزن الزائد والبدانة وفوائد النحافة فيملأ الشاشات وعروض الأزياء وأغلفة الطعام وكل ما تقع عليه العين تقريباً، لكن انتشار "النصاحة" و البدانة الى ارتفاع، ومعه تزداد الإضطرابات الصحية وتتكاثر كل التدخلات العلمية، والطقوس والشعوذات المتعلقة بإنقاص الوزن وقهر السُمنة.
يتلاقى ذلك مع دعوات وحملات التقصي المبكر عن السرطانات أكانت تهاجم النساء ام تفتك بالرجال، وعن بساطة الفحوصات السنوية وتوافرها لكشف المرض الخبيث والقضاء عليه. لكن السرطان يبقى وينتشر ويهاجم بطرق مختلفة ولا يحرك الناس ساكناً كما يجب. تُضاف الى تلك اللائحة الأمراض المزمنة والتي أصبحت وباءً خصوصاً مع ازدياد معدل الأعمار، فترى الناس يرزحون تحت وطأة ضغط الدم والسكري وهشاشة العظام والألزهايمر وغيره وغيره، وكأنهم مستسلمات ومستسلمون؟
سيكون هناك شهرياً حملات ودعوات للحماية من مرض او للوقاية من اعتلال، وسينهمر على الناس - وهم في خضم صراعهم اليومي مع لقمة العيش والتعصيب، والبطالة، والفساد، ومشاكل الحياة- تحذيرات يومية من عشرات الأمراض السارية والمزمنة والمرتبطة بنمط الحياة، تدعوهم احياناً الى خيارات وخطوات ليس بإمكانهم القيام بها لأنهم يفتقدون المهارات المطلوبة والتي لم تُمنح اليهم لغياب القدرات والتمكين.
لا يمكن لكل هذه الأحداث ان تتواجد وتستمر تحت أعين الأنظمة الصحية في أغلب بلاد العالم دون تحديد مكامن الخلل في فهم محددات صحة الناس ودور النظام الصحي في ذلك. ولا يمكن لتلك الأنظمة ان تستمر بتقديماتها الصحية بنفس النمط والاسلوب.
بيّن العديد من الدراسات ضرورة تطور وتغير الخدمات الصحية بما يضع المريضة/المريض وعائلاتهم في صُلب النظام الصحي المتجدد من خلال تعزيز برامج الرعاية الصحية المنزلية، وتثقيف المرضى بما يتلاءم مع خصوصياتهم (استعمال خصائصهم الثقافية والاستعانة بها حجةً ودليلاً كما حدث مع المسلمات في كندا والولايات المتحدة لناحية تحسين استعمال الكشف المبكر لسرطان الثدي)، وربط الأفراد والمرضى بالخدمات الاجتماعية الأخرى.
منظمة الصحة العالمية دعت الى خدمات صحية متكاملة ترتكز على الفرد وحاجاته وخياراته. يتطلب ذلك ازدياد الاعتماد على مقدمي الرعاية للتواصل مع المرضى حول صحتهم الشاملة وإشراك المجتمع في مبادرات حول الحياة الصحية ودوام تعزيزها وتطويرها.
الحملات الوطنية جهد مميز لرفع الوعي حول الوقاية والسلامة وواجبنا جميعاً التطوع لأجلها. لكن "الجهاد الأكبر" في الصحة يبقى في الإشراك الدائم. للناس، خصوصاً أولئك الناس الذين لشدة فقرهم وقساوة ظروفهم لا يَرَوْن صحتهم اولوية، الا بما تسمح به الأحوال الإقتصادية والإجتماعية.
مقاربة الصحة المتكاملة والتواصل والوصول الى الناس والمرضى هم مستقبل الأنظمة والرعاية الصحية، عندما تنتقل الصحة من الحق الحصري الى الحق العام.
لا يلتزم الناس بدعوات الوقاية والحماية لأنهم يرغبون بالمرض والموت المبكر. لا يلتزم الناس لأنهم لا يمتلكون القدرات اللازمة والحس الصحي الكافي للقيام بذلك، ولأنهم تاريخياً لم يتسنى لهم العيش في بيئة صحية وإعطائهم تربية وثقافة صحية مستمرة. لأجل ذلك غابت القدرات وحضرت "القدرية"، وحضرت ذهنية "المكتوب ما في منو مهروب" وغاب سلوك "إعقل وتوكل".
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحة جنسية