«انتم، ايها الرفاق، قد بنيتم برجوازية. ايّاكم أن تنسوا: البرجوازية لا ترغب بالاشتراكية، بل هي دوماً تريد الرأسمالية»(ماو تسي تونغ متحدثاً الى كوادر الحزب الشيوعي الصيني عام 1963. مقتبس في كتاب سمير أمين «روسيا والانتقال الطويل من الرأسمالية الى الاشتراكية» ص.35).

الاستحقاق

لغايات نقاشنا هنا، يجب أن نحتفظ بفكرتين أساسيّتين من كلام سمير أمين عن روسيا. الفكرة الأولى هي أنّ «الاستحقاق»، أو السّبب الذي يجعلنا نطرح هذه الأسئلة أساساً، هو سياقٌ جديدٌ نشأ منذ سنوات، وغيّر نظرة الشعوب الى واقعها واحتمالات المستقبل.

ما حصل، يقول أمين، هو أنّ الناس قد فهمت في روسيا واوروبا الشرقيّة (وهذا ينطبق ايضاً على شعوب الشرق الأوسط، وأكثر أقاليم العالم الثالث التي «تحوّلت» الى الليبرالية والاندماج في النظام العالمي) أنّ حالة الإفقار والتقشّف، والتضحيات التي اختبرتها منذ سقوط الاشتراكية، لم تكن مجرّد «ثمنٍ» للانتقال الى اقتصادٍ حرٍّ مزدهر وثريّ، أو مرحلة «اصلاحات» مؤلمة لا بدّ منها، بل هي طبيعة عالمهم الجديد وواقعهم الذي يجب أن يعتادوا عليه ــ ولسنا في حالة «انتقالٍ» مؤقّت، الانتقال قد حصل بالفعل. هذا يشبه، بمعنى ما، ما جرى في مصر في مرحلة مبارك أو في لبنان، حيث استفاق المواطنون في أواخر التسعينيّات، تدريجيّاً، من «الحلم الحريري» الذي أعاد ترتيب البلد والاقتصاد بعد الحرب الأهليّة. وفهموا أنّه لا ازدهار قادم ولا حلَّ سحريّ، بل إنّ وضعية الركود والبطالة والانحدار، مضافاً اليها قيدٌ ثقيل من المديونيّة، هي الواقع الذي سيتعيّن عليهم أن يتعايشوا معه ويدفعوا أكلافه طوال حياتهم.
هذا السّقوط لبروباغاندا ووعود التسعينيّات، مرحلة صعود الهيمنة وتسيّدها الكوكب، لا يضمن في ذاته شيئاً، فهو سينتج ردود فعل متنوّعة ومتناقضة: هناك من سيطالب بتغيير هذا النظام بعد أن اختبره وهناك من سيقاتل من أجل الإبقاء عليه وتكريسه (هذا، بالمعنى السياسي، يمثّله الخيار السعودي ــ الاماراتي في الاقليم اليوم: يتخيّلون الاقليم دولاً «مستقرّة» تعيش في ظلّ «باكس اميريكانا» مطلقة، يحكمها طغاة ولا مكان فيها للتمرّد، وتديرها قواعد السّوق العالمي). هناك من سيطالب بإعادة النّظر في وعود الليبرالية الاقتصاديّة وأسُسها، وهناك من سيدعو الى مزيدٍ من الليبراليّة، ويزعم أنّ المشكلة كانت في عدم تطبيقها في بلادنا «حقّاً» وكما يجب. هناك من سيذهب صوب حلولٍ غيبيّة وهناك من سيبحث عن الخلاص الفردي والهروب والهجرة؛ أو الدّخول الى مصاف هذه النخبة المعولمة المحظيّة بصفة «وكيل»، بحيث يتم تجنيبه ــ على الأقل ــ المصير البائس لغالبية شعبه («ان لم تتمكّن من التغلّب عليهم، انضمّ إليهم» هو الشّعار الحقيقي للطبقة الوسطى على مرّ التاريخ). هذا، باختصار، هو السّياق الذي نجد أنفسنا أمامه اليوم.

كيف لا تبني الاشتراكية

الفكرة الثانية التي نستعيرها من سمير أمين هي عن التعلّم من أخطاء من سبقنا. نظرة أمين الى سقوط الاتحاد السوفياتي، بتبسيط، هي أنّ ما جرى في التسعينيات من تفكيك للاشتراكية، وتخصيصٍ ونهبٍ للثروة العامّة وهدمٍ لمنجزات الماضي، لم يكن «انقلاباً» على النظام السوفياتي المتأخّر بقدر ما كان «تسريعاً» لعمليّة ابتدأها الحكّام السوفيات منذ الستينيات، وهي كانت ستنتهي ــ على أيّ حال ــ والاتّحاد السوفياتي قد أصبح دولةً رأسماليّة تقوم على الملكيّة الفرديّة الخاصّة. بسبب غورباتشوف وسقوط الاتحاد السوفياتي، جرى هذا التخصيص و«الانقلاب اليميني» على نحوٍ سريعٍ وعنيفٍ ومدمّر، ولكنّ الخطّ العريض للتاريخ كان يشير الى ذلك الاتجاه في كلّ الأحوال. يكتب أمين أن النخبة السوفياتيّة بعد ستالين كان أمامها خياران: امّا أن تميل يساراً، صوب تعميق التجربة الاشتراكية (أو محاولة تحقيقها والسعي اليها فعلاً)، عبر التأسيس لمشاركة شعبية وتسييس الناس، أو أن «تنحو يميناً»، فتعتمد ايديولوجيا نخبوية «تكنوقراطية» تقيس شرعيّة النظام عبر أدائه الاقتصادي، وتسعى الى تنميةٍ تقارن نفسها بالنمط الرأسمالي الغربي، وتنكفىء في السياسة الدولية وتتجنّب الصّدام مع الغرب. هذا ما حصل وختم، في رأي أمين، مصير التجربة الاشتراكيّة في روسيا (مثل الان باديو، يعتبر سمير أمين أنّ هناك «مقياساً» لتقييم التجربة الاشتراكيّة، أو مدى اشتراكيّتها، وهو ليس النّجاح الاقتصادي أو ما يدّعيه النظام «الاشتراكي» عن نفسه. ولكن، فيما المعيار عند باديو هو النّجاح في بناء مجتمعٍ لا يقوم على الملكيّة الفرديّة، فإنّه لدى سمير أمين سياسيّ في العمق، فالاشتراكيّة لديه هي «الديمقراطية الحقيقيّة»، أي أن يتمكّن شعبٌ من اختيار أسلوب معاشه ومستقبله بشكلٍ جماعيٍّ وحرّ - ومن هذه الزاوية، فإن التكنوقراطية الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي المتأخّر لا تختلف جوهرياً عن السوق الرأسمالي الحاكم في أميركا).
قلب المشكلة في التجارب الاشتراكيّة «الفوقيّة»، في رأي سمير أمين، هي أنّها تنزع الى اخراج النّاس من السّياسة (de-politicization) بسبب طابعها السّلطوي. هذا ينطبق على النظام السوفياتي كما ينطبق على عبد النّاصر، يكتب أمين، بمعنى أنّ هذه الأنظمة، حتّى لو طبّقت سياسات اشتراكيّة مثاليّة، وكانت لها شرعيّة ثورية وشعبية وتأييد، فهي - بطبيعتها السلطوية - ستُخرج الجماهير من السياسة وتحصرها في النخبة الحاكمة. حين تصبح نقابات العمّال - كما شبّه أمين حالتها أيام الاتحاد السوفياتي - مجرّد منظّمات ل»تسيير العمل» والتأكد من تطبيق القانون، وحين يصبح الدّفاع والسّلاح في يد جيشٍ نظاميّ «محترف»، وحين تضحي الايديولوجيا والعقيدة والحزب محض استظهارٍ و»واجبٍ اداريّ»، لا يعود النّظام شعبيّاً ولو ادّعى أنّه اشتراكيّ. في سياقٍ كهذا، حين تصبح الجماهير خارج السياسة والفعل، والمواطن مجرّد موظّفٍ أو رقمٍ، لا علاقة له بالقرار، تصبح أولويّتك هي في الاهتمام بنفسك وعائلتك، والمناورة حول هذا النظام البيروقراطي واستخلاص ما أمكن منه. وأنت لن تشعر تجاهه بملكيّة أو رابطٍ عقائديّ، ولن تنهض للدفاع عنه حين يتمّ تهديده. هذا، يقول سمير أمين، هو ما جعل هدم النظام السوفياتي يسيراً، فالجماهير الطيّعة لم تخرج للدّفاع عن الاشتراكيّة وراقبت تفكيكها بخضوعٍ وصبرٍ مدهشين. لهذا السّبب ايضاً، لم تقاوم الطبقات المصريّة الشعبية، في السبعينيات، انقلاب السّادات (وهذا ممكن الحصول في أي نظام عربي)، حيث تمّ أخذ البلد من ضفّةٍ الى أخرى بسلاسة وسهولة، وظلّت المعركة محصورةً أساساً بين النّخب - وهو يشبه تماماً ما حصل في الاتحاد السوفياتي السّابق.

الحليف والعدوّ

حين نكرّر أنّ الفقراء والمهمّشين هم القاعدة الوحيدة لأيّ مشروع تغييرٍ، وأن الهدف الشرعي الوحيد في السياسة هو تنظيمهم وتسليحهم حتّى يتحرّروا ويرثوا الأرض، فإنّ المسألة لا علاقة لها برومانسية تجاه «العمّال والفلّاحين» والطبقات الدنيا، ولا بفكرة أنّ الفقير ــ بسبب فقره ــ يعرف أفضل من غيره ما هو الحلّ لمشاكلنا. المسألة هي أنّ الجذريّة الوحيدة الممكنة في سياقنا العربيّ هي عبر هؤلاء النّاس، وإنّ ضحايا النّظام القائم ــ تحديداً ــ هم من لهم مصلحة في هدمه. طريفٌ أنّه ما زال هناك بين النّخب العربيّة من يدعو الى الاعتدال في السياسة والى حلولٍ «وسطيّة» كأنّنا في اوروبا، نعيش في استقرارٍ ونبني ونُراكم. الواقع العربي العنيف، والنظام الفاسد الذي تمّ فرضه على شعوبنا، يستدعي ردّاً على المستوى ذاته من الجذريّة والعنف، وأيّ خياراتٍ أخرى هي طرقٍ متعدّدة توصل الى نقطة نهاية واحدة. هذا الاحتمال لا يمكن أن تضطلع به غير حركةٍ شعبيّة مسلّحة، والمهمّة الضروريّة في المرحلة القادمة هي الهدم وليس البناء. لا يمكن أن تحرّر وطناً من الاستعمار بالتسويات، و«الوسطيّة» لن تنتزع اقتصاداً سرقه التخصيص ونُهبت فيه الملكية العامّة؛ انت لن تتمكّن من تغيير علاقتك مع السوق المعولم عبر «الاعتدال» ولن تجعل المصارف وطنية عبر التفاوض. ولن تُطلق ــ في ألف سنةٍ ــ مشروعاً لإعادة التوزيع داخل المجتمع ولبناء المنطقة من جديد فيما النخب المستحكمة سعيدةٌ وراضية.
كما شرحنا في المقال السابق، فإنّ النخبة هنا هي العدوّ، والأصل في الرأسمالية المعولمة اليوم أنّ الطّبقة الكومبرادوريّة ــ التي كانت موجودة تاريخيّاً وقوية في بلاد الجنوب، ولكنّها كانت صغيرة وهزيلة وتنافسها برجوازيات محليّة مضادّة ــ أصبحت أكبر بما لا يقاس من الماضي، وليس لها «عدوٌّ طبيعي» من بيئتها كما في الماضي: «برجوازية وطنية» منافسة تتناقض مصالحها مع الرأسمالية المعولمة وتعادي الامبريالية والتغريب. هذه الشبكة تستوعب تدريجياً أكثر الفئة «التكنوقراطية» في المجتمع، والمثقفين والفنانين والاعلام بالطّبع، وستضمّ قريباً كلّ من يتلقّى راتباً جيّداً في هذه البلاد. النتيجة لا تتلخّص فحسب في «تجنيد» فئةٍ كاملة من النخب لصالح المشروع الغربي (أو تابعه الخليجي)، بحيث لا يعود هناك ارتباطٌ بين مصالحها ومصلحة مجتمعها (بل تضحي الحروب والأزمات والتهجير «فرصةً» لتدفّق الاستثمار الأجنبي وخلق الوظائف في المنظمات الدولية)، النتيجة الأهمّ هي في «تحييد» القسم الأكبر من النّخب والفاعلين والمؤثّرين، وإخراجهم من السياسة والاحتمالات الجذريّة ــ لو كنت أطمح الى عملٍ في شركةٍ عالميّة، أو الى منحٍ غربيّة وتمويل، وهذه أصبحت وقود المبادرات الجديدة في الثقافة والفن والسياسة، فهل سأقول بأنّ اميركا هي العدوّ ومقاومتها واجبة؟ هل سأطالب بتحرير فلسطين وأدعم المقاومة المسلّحة؟ هناك استحالةٌ منطقيّة هنا، تلزمني بالصّمت حتّى ولو لم أكن «غرباوياً» متحمّساً.
بنية الحوافز واضحة، ومن الصعب أن تتغيّر في ظلّ فشل وتقزيم الدولة الوطنيّة؛ وهي تجعل المعركة داخل الطبقة العليا، بالنسبة لأيّ مشروعٍ سياديٍّ مقاوم، خاسرة سلفاً. بل إنّ بناء عالمٍ جديد، بالمعنى الفعلي الأعمق، يبدأ من هدم عالم هؤلاء. هذه النّخب لا تكتفي بلعب دورها الخارجيّ فحسب، بل هي وصلت الى مرحلة تصارح فيها مجتمعها بالكراهية والانفصال، فهي لا تحتاجه. أصبح اعتياديّاً أن يقوم هؤلاء ــ الذين يحظون بأفضل ما في بلادنا، وينالون التقدير بلا استحقاق، ويرفّهون بلا عملٍ وجهد ــ بـ«احتفالاتٍ» حين يرسلون أبناءهم الى الغرب، للدراسة في جامعاته الخاصّة، مؤكّدين فرحتهم بأنّ أولادهم قد خرجوا ــ أخيراً ــ من هذه البلاد، وتخلّصوا من برم الحياة معنا، في مشاهد تذكّر باحدى شخصيّات الروائي في. اس. نايبول، الذي كان أقصى طموحه ومنتهى نضاله أن يولد له في آخر الأمر، في بريطانيا، حفيدٌ أشقر. نظرة «النخبة المعولمة» في بلادنا الى شعبها هي دليلٌ على المعادلة التي اكتشفها السوفيات بثمنٍ باهظ: كلّما دلّلت الطبقة البرجوازيّة وفضّلتها، فهي لا تكتفي وتشعر بالامتنان والحظّ، بل تزداد جشعاً وفوقيّة.

خاتمة

يذكّر سمير أمين بأنّ النخب الكمبرادوريّة، مهما حازت من موارد ودعمٍ وهيمنة، فهي لا يمكن أن تتسرّب الى وعي الغالبية أو أن يتبعها الشّعب أو تنشئ حركات جماهيريّة. فالأكثرية تفهم بسرعة أن قضايا هؤلاء الناس ليست قضاياهم، وأنّهم لا يقدّمون حلولاً لمشاكلهم الحقيقيّة. لهذا تظلّ العلاقة بين النخب ومجتمعها، في دول الجنوب، خارجيّةً يسودها النّفور ــ أو، في أحسن الأحوال، فإنّ المجتمع المحلّي في نظر هؤلاء هو مجالٌ لتطبيق نظرياتهم ومُثلهم: ذكوريّ يحتاج الى التوعية، جاهل يحتاج الى التنوير، وتائهٌ ينقصه قادةٍ مثلهم. هذا لا يغيّر حقيقة أنّه في غياب بديلٍ، والبديل لا يمكن أن يأتي من هذه النخبة، فهم سيحكمون في نهاية الأمر. المهمّشون اليوم، أبناء الأرياف في العراق وسوريا ولبنان واليمن، أبناء الأحياء الفقيرة ومدينة الصدر والضاحية، يقاتلون ويستشهدون ويهدون شعبهم تحريراً ونصراً. ولكن، حين تنتهي الحرب، ويحين وقت إعادة البناء، ويجلس القادة ويستدعون المخطّطين، فمن الذي سيستعينون به لتقديم الخطط والخبرة والإدارة؟ هذه النّخبة ذاتها، ومعارف البنك الدولي والمنظمات الغربية، ومن الممكن التنبؤ بمسار الأمور من هنا.
البديل، ببساطة، يعني أمرين: أن لا يخرج من يقاتل ويضحّي اليوم من السياسة والقرار، وأن تبني مشروعاً سياديّاً لغالبيّة الشّعب حتّى تضمن ذلك. واذا ما بنيت السلطة على أساسٍ نخبويٍّ فوقيّ، متصالح مع الرأسمالية والنظام العالمي، لا يعود مهمّاً ان سمّت نفسها اشتراكية أو اسلامية أو ديمقراطيّة، فهي لن تكون غير تكرارٍ بأسماء جديدة لوصفةٍ قديمة. أمّا الفئة التي يخدمها النّظام العالمي وتخدمه، وتضع قدماً في (على) بلادنا والأخرى في برلين أو واشنطن، فإن عالمها وثقافته يجب أن ينتهيا، ولا أحد أقدر من الفقير المسلّح على «ثورة ثقافية».