ربّما لم يَعلم الحاكم البوليفي، قبل خمسين عاماً، أنّه سيُخلّد ذكرى عدوّه. تلك الصورة، بعد مقتله، ممدّداً فوق ما يُشبه المذبح، التي ستُعيد للعالم طيف المسيح مُمدّداً، نازفاً، كما رسمه فيليب دي شامبين قبل ثلاثة قرون. ستُصبح لوحة «اللوفر» ضئيلة الأثر أمام وجه «تشي» الذي غزا الكوكب. في مثل هذا اليوم، أُعدِم أرنستو غيفارا. نصف قرن على «ولادة» الأسطورة.
مَن أشهر مِنه؟ مَن كان الرئيس الأميركي آنذاك، الحاكم على الحاكم البوليفي، مَن يذكره؟ مَن لا يحفظ اليوم، وإلى قرون لاحقة، اسم غيفارا؟ اليوم تكرّمه كوبا في سانتا كلارا، مِن هناك، حيث بدأ كلّ شيء، بحضور رفيق سلاحه راؤول كاسترو. أمّا فيديل، القائد الأعلى، فلن يحضر «اليوبيل الذهبي». لقد رحل قبل عام. أبناء «تشي» سيحضرون، أيضاً، في بوليفيا اليوم الاثنين. الرئيس إيفو موراليس نظّم كل شيء للذكرى الاستثنائيّة. قبل أيّام قال: «التاريخ واضح. الاستخبارات الأميركية اضطهدت وعذّبت واغتالت غيفارا. تصرّفت القوّات المُسلّحة الخاضعة للولايات المتحدة بقرار من الرئيس البوليفي حينها ريني بارينتوس». قيل الكثير عن «الثائر الأرجنتيني» (الأممي) على مدى العقود الماضية. لم تبق حبكة مؤامرة إلا افتُرِضت، ولا دعاية إلا نُفّذَت، عن القتلة الذين دارت مروحتهم مِن الإمبرياليّة إلى الحليف الأقرب. كلّ هذا تفاصيل. كان صنفاً مِن البشر. لم يكفّ العالم عن الحبَل به. نادرٌ، لكنّه لا يُعدم، إذ هو «البطل» في تفسيرٍ لحركة التاريخ. تزداد ندرة المقتول في مثل هذا اليوم بأنّه مِن طينة النقاء الخالص، وقد «وصل». لم يكن يجدر به أن يصل. الأنقياء، على شاكلته، لا يصلون. مجانين تعوزهم «الحكمة». لا يصلون إلى منصب. يموتون قبل ذلك. تنتهي أعمارهم، فجأة، أو يقضون في ظروف غامضة. يُصلبون في وجه الشمس. يَنتحرون، أو «يَنتحرهم» أحدهم، وهكذا. كان «طفرة تاريخيّة». لم يطق البقاء مديداً، فعاد ليُكمل دوره، ذاك الدور الذي خطّه ناموس العالم لأمثاله.
لِمَ أحبّه العالم؟ لِمَ يخجل مَن لا يُحبّه أن يتبجّح بذلك؟ ما الذي حاكاه في وجدان الناس على مساحة الأرض؟ لم يعش كثيراً. دون الأربعين رحل. ساهمت الرأسماليّة في شهرته؟ هذا صحيح. فتّاكة هي إلى هذا الحد. تهضم وتعيد إنتاج عدوّها. لكنّها أيضاً لم تكن قادرة على القفز فوقه. كان قد أصبح قيمة. ربّما لم يفهم لعبة العالم، لعبة السياسة، لعبة المحاور. كان يُريد للسوفيات أن يكونوا مثله. أن يكون الصينيون مثله أيضاً. أن يشعلوا «الألف نار» حتى «يبقى الثوار يملأون العالم ضجيجاً فلا ينام العالم بثقله فوق أجساد الفقراء». ربّما، أيضاً، فهم كلّ تلك الألعاب، فهم الواقع، لكنّه بكلّ بساطة أراد، حتى الطلقة الأخيرة، أن يكون نفسه. مَن ينكر اليوم أنّه «عاش»؟ عاشها كما أراد. لقد فهم العالم، كما ينبغي لأمثاله أن يفهموه، عشرينيّاً في غواتيمالا التي وصلها بدراجة نارية خربة. هناك فهم تماماً كيف تسحق أميركا شعباً. جال على شعوب قارته الأم وفهم مِن هناك العالم.
لِمَ يُحبّه الشبّان أكثر مِن سواهم؟ طيش الشباب؟ أمّ أنّه يُحاكي في البشر ما يكونون عليه وهم في مراحلهم العمريّة الأكثر صفاء! لم يُصبح عجوزاً لنعرف إنّ كان الرجل سيُصاب بـ«الحكمة». كثيراً ما غلّف الجبناء جبنهم بـ«الحكمة». اليوم، في كوبا، تبدأ المدارس صباحها بصيحة الناشئة: «سنكون مثل تشي». تحدّثت مرّة حاضنته، وكان دون العاشرة، عن سؤاله لها: «لِمَ هذا الاختلاف بين الناس، أحدهم يتقاضى 20 بيزو، فيما يتقاضى آخر 100 بيزو؟». كأنّ في هذا الرجل ما حمله معه إلى العالم بتكوينه. كَرِه سياسة الولايات المتحدّة شاباً، وإلى رحيله، كما لم يكره شيئاً في العالم مثلها. ودّ لو يمحوها عن الخريطة. هي أصل الشرور عنده. لم يكن غريباً أن يرى فيه بعض رفاق السلاح «ساذجاً». هكذا يبدو هذا الصنف مِن البشر لأصناف أخرى. وإلا كيف سيفسّرون ذهابه إلى الكونغو، في وسط أفريقيا، لصنع ثورة؟ فشل هناك. الشرط الموضوعي للثورة لم يكن متحققاً. ليست كل بقعة فيها ظلم هي كوبا في شرطها التاريخي. فهم هذا. ختمها في بوليفيا. ضاقت به الأرض. هناك حيث بقيت عظامه، في مكان مجهول، نحو ثلاثين عاماً. نُقلت لاحقاً، بعد العثور عليها، إلى كوبا... حيث كانت ولادته كأسطورة.
رُفعت صورته في مدن أوروبيّة ضمن غضبات الستينيات الشعبيّة. التقاه سارتر مرّة. يقول عنه: «إنّه الإنسان الأكثر كمالاً في عصرنا». فتاة بورجوازية غربيّة، ستصبح ثوريّة، وتقول: «لا يمكنني العيش بلا غيفارا». أفريقيا لاحقاً رفعت صورته. فهموا، إلى حد ما، ذاك الذي كان بينهم يوماً. في بوليفيا، في القرية التي أُعدم فيها، أصبح قديساً عندهم. هو «سانت تشي». نصبُ وجهه يرتفع إلى جانب صليب وحولهما الشموع. صار «الحجّ» إليه طقساً سنويّاً. يأتون للبركة. الماركسي القديس. مَن فعلها غيره! أراد أن يُغيّر العالم. كان للعالم رأي آخر. لم يعش كثيراً ليشهد على ما آل إليه كوكبنا. لقد أفرغ جسده، بقرار واعٍ، في جسد العالم. لو لم يكن هنالك غيفارا، حقّاً، لكان لا بدّ للبشريّة من أن تخلق غيفارا، كفكرة، كضرورة، كحلم، ذلك ليستقيم شكل العالم... ولو قليلاً.