قيل الكثير عن الأهداف القريبة المدى أو المتوسطة المدى لقرار الأحزاب النافذة في «إقليم كردستان» بالسير نحو الانفصال عن العراق. وتعكس التحركات والمواقف والاتصالات الجارية بين الدول المجاورة للعراق، في ما بينها أو مع حكومة بغداد، القلق الكبير من هذا التحوّل، وسط مؤشرات لا تحسم عدم حصول مواجهة عنيفة في حال شعور الأطراف المتضررة من الخطوة بحتمية الانفصال.
وفق متابعين في العاصمة العراقية، فإن بغداد تصرفت بدايةً، ومعها تركيا وإيران، وفق منطق أنّ خطوة حكومة مسعود البرزاني تستهدف ابتزاز بغداد بهدف توسيع صلاحيات الإقليم، والحصول على المزيد من المكاسب المالية من الدولة المركزية، وانتزاع حق السيطرة على المناطق المتنازع عليها، بما فيها كركوك.
لكن تلك العواصم انتقلت إلى مستوى آخر، بعدما تبيّن أن أربيل تعمل وفق خطة منسقة بقوّة مع الأميركيين والسعوديين وإسرائيل وبعض العواصم الغربية، وأنّ مصلحة داعمي الانفصال ليست في تحصيل حقوق إضافية للأكراد، بقدر ما تستهدف خلق جبهة جديدة تستنزف قوى محور المقاومة، كما تضع الحكومة التركية أمام استحقاقات تحول دون أدائها دوراً مركزياً في إعادة تنظيم الاستقرار في المنطقة، وهو الدور الذي لا يمكن أن يكون واقعياً إلا من خلال الاتفاق مع روسيا وإيران.

تحدث ماكرون مع العبادي بصيغة أنّه مفوّض من الأميركيين وغيرهم لإفساح المجال أمام المفاوضات


وبناءً عليه، استنفرت بغداد بصورة كبيرة. ووصل الأمر إلى حدّ تعزيز القوات العسكرية التي توجهت سابقاً لتحرير قضاء الحويجة من «داعش»، وأظهرت أنّ قوات الجيش العراقي، كما قوات «الحشد»، تستعد للدخول إلى كامل منطقة كركوك، وطرد «البشمركة» منها. ويقول المطلعون من بغداد إنّ التوتر قارب لحظة المواجهة، وهو كان يترافق مع خطوات متسارعة استهدفت عزل سلطات أربيل اقتصادياً وسياسياً، الأمر الذي تمثل في خطوات إقفال منافذ برية وجوية وتعطيل التواصل التجاري اليومي، إضافة إلى التواصل المباشر مع قوى كردية وازنة، على رأسها «الاتحاد الوطني» بقيادة الراحل جلال طالباني. وفيما كان الجميع في أربيل يستشعر مستوى غير مسبوق من التهديدات، فإنّ الأمور لامست حدّ المواجهة المباشرة، وإن كان العراقيون كما إيران وتركيا، يعرفون أنّ قوات «البشمركة» المنتشرة في منطقة كركوك، تتبع بمعظمها للموالين لطالباني.
على أنّ المفاجأة، وفق المطلعين أنفسهم، تمثلت بتدخل عاجل جاء من الغرب، وخصوصاً من فرنسا التي استغلت زيارة رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي لباريس، بهدف التوسط وفتح باب الحوار وعدم السير في المواجهة المباشرة.
وبرغم أن الحكومة العراقية تنسب إلى الأميركيين أنّهم لن يقاتلوا دفاعاً عن حكومة أربيل، وأنّ قواتهم المنتشرة في كركوك أو في الإقليم ستقف على الحياد، إلا أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحدث مع العبادي بصيغة أنّه مفوض من الأميركيين وغيرهم من العواصم، وأنه يطلب إفساح المجال أمام مفاوضات قد تقود إلى معالجة الأمر، وهو أمر لم يرفضه العبادي بصورة مطلقة، إنما عاد وتوصل إلى خطة تفاوض مع أربيل، بدأها رئيس المجلس أسامة النجيفي. لكن حكومة العبادي تقول إنّها أبلغت كل من يهمه الأمر أنّ إلغاء الإجراءات العقابية، أو سحب القوات من قرب كركوك، رهن خطوات عملية تقوم بها أربيل وتتمثل في:
* أولاً: الإعلان عن عدم السير بنتائج الاستفتاء، وبالتالي العودة إلى تأكيد اعتبار الإقليم جزءاً لا يتجزأ من العراق.
* ثانياً: تأكيد العودة الفورية إلى ما قبل ١٢ حزيران ٢٠١٤ في المرحلة الأولى، أي ما قبل قيام «داعش» بانقلابه الشهير، وإخلاء كامل منطقة كركوك.
* ثالثاً: عودة الأكراد إلى الخط الأزرق لعام ٢٠٠٣، أي ما قبل استغلالهم للاحتلال الأميركي وانفلاشهم خارج مناطقهم التقليدية، وكذلك مناطق في غرب الموصل، بما في ذلك مناطق سنجار ومحيطها.

قلق كردي

في انتظار ما ستؤول إليه المفاوضات بين بغداد وأربيل، فإنّ حكومة بغداد ومعها طهران وأنقرة ودمشق أيضاً، ينظرون بعين الحذر الشديد، ويريدون المواءمة بين أولوياتهم الميدانية وبين مواجهة مخاطر الانفصال الكردي. وهم يعملون على الأرض، إذ إن هناك انقساماً داخلياً غير معلن بين جماعة البرزاني وجماعة طالباني حول الموقف، بالإضافة إلى صعوبات اقتصادية واجتماعية بدأت بالبروز في الإقليم، مع ارتفاع الأسعار لسلع يومية في بعض مناطقهم نتيجة التضييقات الحدودية مع تركيا وإيران.

ووفق المتابعين، فإنّ صورة الموقف عند الأكراد المعارضين لخطوة البرزاني تستند إلى عوامل عدة، من بينها أنّ الخطوة سوف تُدخل الإقليم في مواجهة غير مريحة وغير مربحة. فقوات «البشمركة»، لديها خشية حقيقية من أي مواجهة، سواء مع القوات الحكومية أو مع «الحشد الشعبي»، وأنّ قيادة «البشمركة» تتحدث علناً عن أن الجيل الحالي من مقاتليها ليس جيل قتال. وآخر المعارك التي خاضها مع «داعش» كان الدور الأساسي فيها للجانب الأميركي الذي وفّر الغطاء الجوي الاستطلاعي والمعلوماتي، إضافة إلى توفير الغطاء الناري الذي أتاح لتلك القوات التقدم في مواجهة «داعش».
معارضو الانفصال يعبّرون أيضاً عن خشيتهم من كون المواجهة ستنعكس بصورة سلبية على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ما سيؤدي إلى خسارة استقرار وازدهار احتاجا إلى سنوات طويلة من الجهد والبناء. ويشدّد هؤلاء على أنّ التجارب كلها لا تؤكد أنّ الجيش الأميركي سيقف إلى جانبهم، وأنّ إمكانية تدخّل قوى إقليمية لمصلحتهم مجرد وعود في الهواء.
يشار هنا إلى أن حكومة البرزاني لجأت منذ ما قبل إجراء الاستفتاء إلى حملة قمعية لمنع بروز أي موقف مخالف. وقد وصل الأمر بها إلى حدّ تهديد عائلة الراحل جلال طالباني بأنه في حال مرور الجثمان في بغداد، فإنّه لن يكون له تشييع قومي في الإقليم. وهناك عمل حثيث من جانب البرزاني لمنع انتقال سلس لقيادة «الاتحاد الوطني» بغية إضعاف قيادة «العائلة».

حماسة بغداد

في المقابل، يظهر أنّ الحماسة عالية في جانب الجيش و«الحشد الشعبي» العراقيين. ونُقل عن أركان قيادة «الحشد»، أنّ القوات التي قاتلت «داعش» في الحويجة لديها الاندفاعة نفسها إذا تقرر الانفصال. ويبدو أن هناك «ثأراً» مبيّتاً عند «الحشد» تجاه «البشمركة»، يتصل بما هو موجود أكثر عند الجيش العراقي الذي لا يزال قسم كبير من قياداته يُظهر الحقد الكبير على قيادات كردية نتيجة لما فعلته بهم في حزيران ٢٠١٤، إذ عمدت قوات «البشمركة» إلى استغلال انتشار «داعش» الكبير، وصادرت كل الأسلحة الثقيلة والخفيفة من قوات الجيش، لا بل وصل بهم الأمر إلى حدّ إلزام الضباط والجنود العراقيين على خلع ثيابهم العسكرية، وإجبارهم على الرحيل من المناطق الكردية بلباسهم الداخلي. ويتحدث العسكريون العراقيون اليوم عن أنّ كمية الأسلحة التي صادرها الأكراد آنذاك كانت ضخمة جداً، وأنّ الجيش يريد استعادتها بالكامل، إلى جانب الثأر لكرامته.
موقف القوات العسكرية العراقية يُحاكي موقف رئيس الحكومة الذي أبدى حماسة شديدة للعملية العسكرية في كركوك، ولا سيما بعد المواقف الإقليمية والدولية الرافضة للاستفتاء. وأيضاً، بسبب تلقي العبادي «تأكيداً» من الجانب الأميركي بأنّ واشنطن ليست معنية في حالة مواجهة، وأنّ الحكومة الأميركية ستكون إلى جانب الحكومة المركزية في بغداد.
غير أن أهل العسكر في بغداد لا يتجاهلون مخاطر الدخول في المواجهة الآن على خطة إنهاء وجود «داعش» في بقية المناطق العراقية، حيث لا يزال التنظيم يبادر إلى هجمات، الأمر الذي يستدعي تثبيت خطوط التماس القائمة حالياً، لا بل تعزيزها بقوات إضافية، وهذا سيتأثر كثيراً في حالة المواجهة مع القوى الكردية.