باكستان التي تحتفل هذا العام بذكرى سبعين عاماً على قيامها (14 آب/ أغسطس 1947) هي في علم السياسة إحدى ثلاث تجارب بريطانيّة من عهد الإمبراطورية لإنشاء هياكل دول ــ شكليّة ــ في مستعمراتها السابقة تقوم على أساس ديني. أُولاها كانت إسرائيل التي وإن قامت فعلاً بعد باكستان بأشهر عدة (14 أيار/ مايو 1948)، فإن مشروعها غدا قيد التحقق منذ أعلن وزير الخارجيّة البريطاني آرثر بلفور وعده السيئ الذكر لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917، وثانيتها كانت مملكة آل سعود في الحجاز ونجد، التي أخرجها البريطانيون إلى العلن في (27 كانون الثاني/ يناير 1927) قبل أن تُعاد تسميتها بالعربيّة السعوديّة عام 1932.
كان الاستعمار الأوروبي بعد الحربين العالميين قد بدأ يضعف على نحو لم تعد فيه عواصم الإمبراطوريّات قادرة على تحمل التكاليف الباهظة لإدارة أملاكها عبر البحار، فبدأ بحث حثيث في أروقة بيروقراطياتها عن نماذج لإدامة الهيمنة وحفظ النفوذ من دون وجود مباشر على الأرض. أجريت تجارب عديدة لإنشاء منظومات خاضعة وخُلِقت كيانات مفتتة هشّة تفتقد مقومات التحول إلى دول وفق المفهوم الغربي الحديث، وغالباً بناءً على قرارات مرتجلة لموظفي وزارات الخارجيّة المصابين بعقدة تفوق عرقي لا شفاء منها واستشراق مقيت. كان لا بدّ من منع قيام دول أمم عبر الشرق كله يمكنها يوماً التحول إلى دول كبرى تنافس بورجوازيات أوروبا. ففصلت مصر عن السودان، وقسّم المغرب، وخنق العراق بانتزاع الكويت، وقامت إسرائيل كحاجز استراتيجي بين شرق العرب ومصرهم وضمانة أكيدة لمنع قيام سوريا موحدة عبر شرق المتوسط، بينما قام تحالف الوهابيّة وآل سعود لحماية مصالح الغرب في ثروة الطاقة الجديدة. الهند التي هي بالفعل قارة هائلة كانت مرشحة نظريّاً لتتحول إلى ما يشبه مشروع صين عظمى تمتد عبر جنوب آسيا كلّه قسمت في النهاية إلى ثلاث دول متعادية لم يكن لها أي وجود بشكلها الحالي في أي من مراحل التاريخ.
لم يكن استدعاء الدين كمحور لقيام أشباه الدول الجديدة هذه ابتكاراً بريطانياً بقدر ما فرض الدّين ــ الأرثوذكسي بطبعته اليهوديّة والإسلاميّة ــ نفسه على المخططين البريطانيين أثناء خلقهم لعالم ما بعد الهيمنة الإمبراطوريّة المباشرة. فأنت لن تجد هدفاً أفضل من اليهود لإرسالهم خارج القارة نحو وطن متخيّل أسطوريّاً، لكنّه يخدم أغراض الاستعمار على أفضل وجه، إذ من دون دافع تديّن عميق لن يكون هنالك عدد كافٍ من الأوروبيين الأقحاح المستعدين للهجرة باتجاه واحد من دون عودة نحو الشرق، فكانت إسرائيل. والجزيرة العربيّة بسبب تاريخها الدّيني ومدنها المقدسة بدا أنّ من المستحيل السيطرة على قبائلها بحكم ذي صبغة علمانيّة أو قومية، فكان لا بد من تصعيد تحالف متين بين الدّين وسلالة آل سعود الأقوى بين قبائل الصحراء، فكانت السعوديّة. أما في حالة الهند، فإن تفكيك أمة متجانسة منذ آلاف السنين لن يكون واقعيّاً من دون شق المجتمع الهندي على أساس الأديان، فكانت باكستان، وبنغلادش لاحقاً.
حصاد تجربة الدول الدينيّة هذه كان مرّاً، فقد تسلمت مقاليدها عقليات كرّست الهيمنة الغربيّة على سكان المنطقة، وفتحت أبواباً غير مسبوقة للخلافات العرقيّة الدمويّة التي لا يمكن محوها بين أقوام تعايشت بشكل أو بآخر عبر القرون، وأنتجت شعوباً كاملة مصابة بالبارانويا ومحدوديّة القدرة على تقبل الآخرين وتعادي جيرانها والأقليّات بين مواطنيها، وانخرطت دون هوادة في خدمة مشاريع المستعمر، كلاً في موقعه الإقليمي، وقدمت نماذج كأنها كوارث من دول فاشلة على الصعيد الإنساني ومشوهة في أنظمتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

انخرط ضياء الحق
في خدمة تعليمات
لندن وواشنطن
بإخلاص مشهود


بالطبع، إن المخططين البريطانيين الذين نفذوا هذي المشاريع السياسيّة الشاذة ربما لم يكونوا أنفسهم في وارد تخيّل نجاحهم الأسطوري في زرع هذه الكيانات النقيضة لكل استقلال أو تقدّم حقيقي لسكان المنطقة. بل إن محمد علي جناح نفسه الذي قاد قيام الدولة باكستانيّة وفق الإيحاء البريطاني المستمر منذ 1908 ــ ولم يعمّر طويلاً بعدها – كان سيصاب بخيبة أمل من الأوضاع التي آلت إليها الشعوب الهنديّة المسلمة بعد قيام باكستان تماماً كما ضاعت رؤى قادة مرحلة الاستقلال ــ الشكلي ــ في الهند الصغرى.
لقد شهدت باكستان تحديداً انحرافاً عن رؤية جناح الجامعة التي كان لها أن تستوعب سكان المحافظات الغربيّة للهند في جمهوريّة جديدة أقرب إلى نسق علماني. تلك الرؤية اضمحلت على أيدي الإسلاميين المتطرفين ــ بعد غياب المؤسس في 1949 ــ الذين وإن عارضوا تقسيم الهند من حيث المبدأ قبل تحقق التقسيم فعلياً ــ فإنهم لم يتورعوا عن القفز على مفاصل سلطة الدّولة الوليدة، وتبنوا صيغة إسلام حاد أخذ شكله الرسمي المعلن من خلال نص دستوري مرر على عجل، واعتمد عام 1949، جاعلاً السيادة في الدولة باكستانية مستمدة من الله، الأمر الذي سبّب اعتداءات مؤلمة بين الطوائف المتعايشة وأنهاراً من الدماء البريئة بينها، وانتهى إلى انفصال بنغلادش ذات العدد الكبير من الأقليات، لينخفض عدد المنتمين إلى أقليّات في باكستان من ربع السكان إلى 3% فقط مقارنة بالكتلة الإسلاميّة الغالبة.
لكن التأثير الأكبر لهذه الأجواء المحمومة بعد إعلان قيام الدّولة باكستانيّة في محافظات الهند الغربيّة كان في تشرّب البلاد لنزعات إقصائية، فأُسقط نظام الرئيس بوتو ذي الصفة اليساريّة الشعبويّة في انقلاب عسكري قاده الجنرال ضياء الحق، الذي سرعان ما تركزت فترة حكمه على الدّين والتصريحات الدينيّة، سعياً إلى اكتساب شرعيّة لا تمتلكها دبابات الانقلابيين.
انخرط الجنرال ضياء الحق في خدمة تعليمات لندن ــ ولاحقاً واشنطن ــ بإخلاص مشهود، فأرسل قواته لتدريب الجيوش الكرتونيّة في دول الخليج والمشرق العربي على قمع السكان المحليين، وتعاون مع العربيّة السعوديّة على امتلاك السلاح النووي وفتح أبواب البلاد للدولارات الوهابيّة كي تعبث كما أرادت بعقول جيل كامل، وكرّس هيمنة اليمين الديني المحافظ على المواطنين، وجعل من باكستان مجرد تابع ذليل لمشاريع وكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان خلال فترة الحرب الباردة. ولاحقاً بعد غيابه وتولي الجنرال مشرف القيادة، كانت باكستان قد أُدرجت حليفاً لا يمكن إغفاله في شن حروب واشنطن المزعومة على الإرهاب.
لم يقدّم مسخ الحكم الديني لباكستان سوى تعطيل قيام الدولة الوطنية التي يمكن أن تعدل بين مواطنيها بغض النظر عن مرجعياتهم الدينيّة، وأسست ثقافة شعب ــ كان حينها مصاباً بالصدمة من وجع الانفصال عن البلد الأم ــ على عدم التسامح مع الآخر المختلف والطائفيات المريضة، إضافة إلى التعطش المتصاعد لشهيّة اليمين الديني المتطرف إلى مزيد من التنازلات والتقدمات. هذا كلّه بالطبع من دون ذكر التخلف الاقتصادي والاجتماعي واستمرار التقاليد البالية، وانعدام حقوق الإنسان، وانتشار الفساد في كافة مفاصل المجتمع، ولا سيما بين قياداته العليا ونخبه. وهي نتيجة يبدو أنها متطابقة تماماً مع حصاد التجربتين السعوديّة والإسرائيليّة ــ إذا تركنا العوامل المحليّة جانباً ــ الأمر الذي يجعل العيب في النموذج البريطاني الأساس، بقدر ما هو أيضاً نتيجة حتمية لفشل النخب الحاكمة في خدمة بلادها وتآمرها لتسهيلها انخراط اقتصاداتها في لعبة العولمة العالميّة على حساب الفقراء.
ما هو مستقبل مجتمعات نموذج الدّولة الدينيّة؟ لا يكاد يكون هنالك خلاف يذكر على أن التجربة مهما طالت زمناً فإنها شذوذ سينتهي عاجلاً أو آجلاً، وهذا أمر لا شك تدركه نخبها الحاكمة أكثر من غيرها، وربما فسّر خضوعها الذليل وغير المشروط للهيمنة الغربيّة. لكن تلك النهاية عندما تصلها هذي التجارب، فإنها ستكون دمويّة وقاسية حتماً، وبمثابة استكمال لدورة العنف وبحور الدماء التي سالت لحظة ولادة تلك الدول الاصطناعيّة الثلاث على يد القابلة البريطانيّة الخبيثة.
* باحث عربي