في هذا المقال دعوة الى تكوين كتلة عربية جديدة للخروج من النفق العربي المظلم في المرحلة الراهنة، سعياً إلى أخذ قدر – ولو كان يسيراً- من زمام المبادرة فيما يتصل بالقضايا العربية الكبرى. ونرجو أن يتم ذلك في مقابل التزاحم الإقليمي والدولي الحالي على محاولة تشكيل الخارطة العربية دونما اعتداد حقيقي، في غالب الأحيان، بمصالح ورؤى أصحاب الشأن من العرب وإخوتهم في الوطن، حيثما وجدوا، في المقام الأول.
فما هي مكونات الكتلة العربية المفترضة... وكيف يكون نمط العلاقة داخلها؟ وما منهجها في العمل؟
المكونات تثير الحيرة حقاً في ضوء تحولات الواقع العربي في هذه المرحلة الانتقالية الراهنة ذات السيولة الفائقة. ولأسباب ظرفية، ليس غير، يجدر الاستبعاد المؤقت لكل من سوريا وليبيا من حساب البناء الكتلوي الساعي إلى بناء صيغة إيجابية للتوازن الخلاق في ميدان المنطقة العربية. ولأسباب عملية بحتة، يجوز استبعاد الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي نظراً لكونها جزءاً من المشكلة ويصعب أن تكون جزءاً من الحل راهناً، وخاصة في ضوء تفاعلات وتداعيات التنازع السعودي–الإيراني. مع استبعاد بلدان عربية أخرى عديدة، لأسباب مختلفة، ربما تتبقى الجزائر والمغرب، من ناحية أولى، والعراق من ناحية ثانية. ولما كانت المغرب، فيما يبدو، تعمد في العديد من الأحيان الى النأي بنفسها عن «المعمعان» الإقليمي والعربي، فإنه تبقى الجزائر والعراق. يعيب اختيار هاتين الدولتين أن الجزائر تعيش حالة من الاستقطاب السياسي في مواجهة المغرب، وأن العراق يعاني من اضطراب التشكيل السياسي الداخلي والعلاقة الملتبسة مع ايران. ولكن، لعل اندارج الجزائر والعراق في كتلة عربية إلى جانب مصر يمثل الخيار الأقل ضرراً في سياق الوضع الراهن. أضف الى ذلك أنه خيار أكثر احتمالاً من زاوية الممكن في الواقع المعاش، مقابل خيارات أخرى تم طرحها فكريّاً أو عمليّاً في مراحل سابقة مثل «المثلث المصري-الليبي-السوري» و«المثلث المصري-السوداني-الليبي» ولم تعد ذات جدوى في الوقت الحاضر.
أما عن نمط العلاقة داخل الكتلة العربية الجديدة، فيجب أن يكون أبعد ما يمكن عن (الطابع الكتلوي) التقليدي، رغم ما في هذا التعبير من تعقيد. فلا ينبغي ان تتعامل مصر مثلاً وكأنها تنحاز الى الجزائر ضد المغرب، أو تنحاز الى العراق في مواجهة أطراف أخرى على الجوار. وانما هي علاقة متوازنة، جامعة بين أدوات التفاعل الاقتصادى الخلاق، والعمل الثقافي (الناعم) باقتدار. يرتبط هذا بأن نهج العمل العربي المنتظر ليس بذاك النهج المسمى في اللغة الجارية (سياسة المحاور)، فليست الكتلة الجديدة بمثابة محور في مواجهة محور أو تجمع آخر. وعلى سبيل التحديد، فليست الكتلة العربية الدينامية الجديدة داخلة في مقارنة أمام دول مجلس التعاون الخليجي عامة، أو (السعودية – الإمارات) خاصة، و(السعودية) بصفة أخص. وإن الغرض من تكوين الكتلة العربية الجديدة ليس مرتبطاً بتحقيق أهداف سياسية لطرف ما أو مجموعة بعينها، وإنما يرتبط بتحقيق مهمتين أساسيتين:
ـ المهمة الأولى هي إعادة صياغة التحالفات الاقليمية في المنطقة العربية–الإسلامية المركزية أو ما يسمى في الإعلام الغربي بالشرق الأوسط، أو «الشرق الأوسط الكبير»، مع استبعاد إسرائيل. ونقصد بذلك رسم معالم علاقات بناءة ذات طابع متوازن وخلّاق، مع الجمهورية الإسلامية في إيران ذات العمق الحضاري والإرث المشترك مع الوطن العربي، وعلاقات مشابهة مع تركيا، الساعية الى أداء دور إقليمي واسع النطاق، وربما أكبر من طاقة النظام السياسي القائم، على جبهات عدة من الجهات الأصلية الأربع.
ـ المهمة الثانية للكتلة العربية الجديدة فهي التعاضد الوثيق مع الدول أعضاء «مجلس التعاون الخليجي» بالذات، من أجل السعي الي تحقيق التوازن العام مع فرقاء التحالفات الجديدة في تركيا وإيران، وفي المقابل: السعي إلى إحداث التكافؤ العسكري التسليحي في مواجهة إسرائيل بالذات، كخطوة لا بد منها على طريق استعادة الحق الفلسطيني.
يبقى أمامنا التأكيد على أهمية أن يحدث تحول جذري داخل الدول الثلاث، مصر والجزائر والعراق، بما يؤهلها لأداء دورها التاريخي المنتظر بجعل الجماعة العربية «رقماً صعباً» لا يمكن تجاهله من جانب القوى الإقليمية النافذة (تركيا وايران) ومن جانب إسرائيل، ومن لدن القوى العالمية، سواء منها القريبة نسبياً، بالمعيار الجيوسياسي، خاصة روسيا، والقوى البعيدة، مع اختلاف المشارب والمصالح: من الصين شرقاً، إلى أوروبا وأميركا غرباً. التحول الداخلي في دول الكتلة المثلثة (مصر والجزائر والعراق) يجب أن يسعى بمصر- تحديداً - إلى أن تكون نموذجاً للدولة الساعية بحق إلى التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية والعمل الديمقراطي الجذري المتدرج. أما المسعى الجزائري فينبغي أن يعمل على تحويل الجزائر من محض بلد نفطي إلى بلد صاحب اقتصاد متنوع ومتطور، بالإضافة الى التوجه المتناغم مع المغرب صوب رأب الصدع غير المبرر بينهما. الحال مع العراق مختلف، إذ يجب ان تتغير الحالة السياسية جذرياً باتجاه التوازن المنسجم في النسيج الاجتماعي، وتوازن العلاقة مع ايران بشكل خاص، والموضوعان مترابطان.
هذا، ونعيد التأكيد أنه لا أمل في مستقبل مشرق للدول العربية بدون الخروج من النفق المظلم الراهن، والبروز بوجه جديد يفرض وجوداً حياً للعرب على الساحة العربية ذاتها، فلا تكون ملعباً للقوى الخارجية، ولو كانوا شركاء التاريخ الحضاري، بطابعه العربي الإسلامي المؤتلف مع المسيحية الشرقية (إيران وتركيا). دع عنك التعامل بنوع خاص مع اسرائيل، غير أنه يبدو أن شرطاً مسبقاً لفاعلية الكتلة العربية المنشودة يتمثل في ردم الفجوة الفكرية والسيكولوجية الاجتماعية المتولدة عن اتساع «الفالق» السنّي– الشيعي في العقد الأخير، على وقع تفاقم الصراع السياسي الناجم في جانب منه، عن تعاظم القوة الإيرانية، سياسياً وعسكرياً بالذات، واستخدامها لمختلف أدوات القدرة بالمعنى الاستراتيجي، بما في ذلك فائض القوة المتولد عن تزايد الوزن الديموغرافي والمجتمعي للشيعة العرب سواء في البلدان ذات الأغلبية السنية (السعودية)، أو ذات الغالبية الشيعية (البحرين) أو التي تمتلك الجماعة الشيعية فيها نفوذاً متفاوتاً، ومختلف الألوان (سوريا ولبنان). يرتبط بجسر الفجوة السنية -الشيعية، إعادة رسم دور مؤسسة الأزهر في مصر، على أساس جديد. هذا الأساس الجديد ليس امتداداً لما يطلقون عليه «الوسطية» التي تنتهي إلى كونها مجرد محاولة « توفيقية» - ولا نقول «تلفيقية» - بين طرفين، وانما ينبغي أن يكون تعميقاً للتأليفية أو التركيبية الخلاقة التي تصنع قماشة مبتكرة من بنات أنسجة متباينة المشارب على طريق تجديد التراث العربي– الإسلامي. وينبغي أن يتم ذلك في سياق السعي الى استئناف التطور الحضاري، ويتفرع عنه ضرورة قيام «الأزهر» بدور حاسم في التقريب بين المذاهب الاسلامية سيراً على نهج شيخ الأزهر الأسبق «محمود شلتوت».
وإنه قد يبدو ضرباً من الخيال، أن نصوغ دعوتنا هذه إلى كتلة عربية جديدة تعيد رسم لوحة التحالفات الإقليمية مع تركيا وإيران، وتسعى إلى تحقيق التكافؤ العسكري والتسليحي في مواجهة إسرائيل، ثم تجعل من العرب «رقماً صعباً» في النظام العالمي. ولكن هل تنبع «السياسة العملية» إلا من «المثالية الفكرية»... بمعنى رسم نموذج ثقافي وعقائدي تقدمي حقاً، يواكبه عمل نضالي ممتد عبر الزمان؟
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة