يُنقل أن أحد أسباب تعذر صدور التشكيلات القضائية (قبل أن تصدر ليل أمس) كان إصرار وزير العدل على تعيين قاض في منصب مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، وآخر (أخرى) في منصب مدعّ عام في جبل لبنان. في مقابل تمسك «ممثل تيار المستقبل» في مجلس القضاء الأعلى برفض طرح الوزير.
وبعيداً عن صدور التشكيلات القضائية، فإن من شأن مثل هذه الخلافات مضاعفة الانقسام السياسي والطائفي والمذهبي القائم في البلد، والمساهمة في القضاء على ما تبقى من مؤسسات الدولة اللبنانية. وقد يكون «الحل»، وهو طبعاً يستند الى تسوية في المحاصصة، تكريساً للمشكلة من خلال التطبّع مع تكرارها.
هذا قاضٍ محسوب على حركة أمل، وآخر من حصة القوات اللبنانية، وثالث تابع لتيار المستقبل، ورابع من التيار الوطني الحرّ... ولا بد ان يحدد رئيس مجلس الوزراء السني اسم المدعي العام السني وسائر المناصب المخصصة للسنة في نظام المحاصصة، وطبعاً لحفظ التوازن لا بد ان يحدد رئيس مجلس النواب الشيعي اسم رئيس المحكمة العسكرية وغيرها من المناصب المخصصة للشيعة، ويحدد بالتالي الرئيس الماروني أسماء رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس محكمة التمييز العسكرية ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية وباقي المناصب المخصصة للمسيحيين. فمقتضيات الوفاق الوطني، منذ اتفاق الطائف، تستدعي مراعاة الحصص الطائفية والمذهبية حتى لو كان ذلك على حساب استقلال القضاء والمحاكمات العادلة.
ورغم تكرار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، منذ وصوله الى بعبدا، انه على مسافة واحدة من الجميع، وسعيه الى ابعاد نفسه عن الاصطفافات الخلافية، إلا ان الاحكام الصادرة عن القضاة المحسوبين على تياره السياسي قابلة للتشكيك بعدالتها من قبل خصومه. والامر نفسه ينطبق على كل قاض محسوب على جهة سياسية وطائفية ومذهبية.
قد يتفهّم الناس سعي بعض القضاة الى شغل مناصب مهمة من خلال زياراتهم المتكررة الى «مرجعياتهم» المذهبية والسياسية. وفي المقابل، على هؤلاء القضاة ان يتفهموا التشكيك بعدالة الاحكام الصادرة عنهم. إذ يصعب على أي شخص تلقّى دعماً ورعاية من جهة ما عدم الاستجابة لرغباتها ومطالبها. فهل يعقل، مثلاً، ان تصر جهة سياسية على تعيين مدعّ عام لا يستجيب لتوجهاتها؟
قد يجيب المدافعون على المحاصصات بأن إصرار الوزير على تعيين فلان هو بسبب كفاءته ونزاهته. ويمكن لمكتب الوزير أن يصدر ألف بيان يشدد فيه على الكفاءة والنزاهة، مستنداً الى ادلة لا تحتمل الشك. غير ان كل البيانات والأدلة تعجز عن إزالة التصنيف السياسي والمذهبي لقضاة يحظون بدعم سياسي ومذهبي.
صحيح أن نظام المحاصصة ينطبق على جميع القطاعات الحكومية في لبنان. غير ان الضرر الناتج عنه في القضاء يتفوّق على اضراره في القطاعات الأخرى، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً، ان الاحكام القضائية تصدر باسم الشعب لا باسم فئة من الشعب، وبالتالي لا يجوز أن تكون هيئة الحكم مقربة من فئة محددة من الشعب على حساب أخرى؛
ثانياً، ان إحدى اهم وظائف المحاكم، قبل اصدار القرارات القضائية، هي تحديد حقيقة ما حصل من خلال التدقيق في صحة كل المعلومات والأدلة والمشاهدات والتحليلات المتوفرة. وقد يصعب على القاضي أن ينظر الى الوقائع بعين مجردة اذا كان ميالاً لحقيقة محدّدة مسبقاً. فهل يمكن أن يصدر حكم بالاعدام بحق الشيخ أحمد الأسير عن قاض مدعوم من تيار المستقبل مثلاً؟ وهل يمكن أن يصدر حكم ادانة بحق العميد فايز كرم عن قاض محسوب على التيار الوطني الحر؟ وهل يمكن أن يصدر حكم بحق حبيب الشرتوني عن قاض مدعوم من حركة أمل وحزب الله؟ لا شك ان تحديد الحقائق في كل هذه القضايا يخضع للاعتبارات السياسية والمذهبية الخلافية؛
ثالثاً، ان الهامش الواسع الذي يمنحه القانون اللبناني للقضاة في اتخاذ القرارات وإصدار الاحكام يتيح لهم إرضاء الجهات المحسوبين عليها مموّهين ذلك بصلاحياتهم المشروعة؛
رابعاً، ان تشكيل هيئة التفتيش القضائية التي يفترض أن تراقب عمل القضاة، يخضع كذلك للمحاصصة السياسية والمذهبية وبالتالي قد يصح القول «هذا الطين من هذا العجين»!
للمساهمة في القضاء على كل هذه التشكيكات القضائية، لا بد من دفع القضاة الى التراجع عن إرضاء واسترضاء زعماء الطوائف والأحزاب والملل. فلتنشر وسائل الاعلام جداول تحدد الجهات التي يميل اليها كل منهم، على امل ان يُحرجهم ذلك ويعيدهم الى الصواب. أما بالنسبة للقضاة الذين لا يعنيهم الامر، فلنوفّر عليهم عناء اقفال الخط في وجه مواطن عادي يتوسل مساعدتهم. فعلى المواطن مراجعة المرجع لا الخاضعين له.