تونس | على قلة أعماله، يتميز «أدب السجون» في تونس بتنوّعه، إذ تخترق الكتابات الطيف السياسي من يمينه إلى يساره: من اليوسفيّين والوطنيّين، إلى الشيوعيّين، مروراً بالقوميّين بشتى أصنافهم، وتشمل جيل ما قبل الاستقلال والأجيال اللاحقة له.وبالإقدام قبل أيام على «سرقات لذيذة: قراءات مهرّبة حول التجربة السجنيّة للإسلاميّن 1991-2002» (سوتيميديا للنشر والتوزيع»، تونس، 2017)، يضيف عبد الحميد الجلاصي، القياديّ في «حركة النهضة»، إلى «أدب السجون» مؤلفاً ينتمي إلى صنف فرعيّ منه هو «الرسائل السجنيّة».

ولرسائل الجلاصي ميزتان: أُولاهما أنّها رسائل مُهرّبة من السجن، أي أنّها لم تغادره عبر المسالك البريديّة الرسميّة، وقد تجنبت بالتالي مقص الرقيب؛ وثانيتهما أنّ موضوعها يتجاوز المواضيع الشخصيّة المباشرة، فهي تتخذ من السجن بحدّ ذاته موضوعاً، فيما يقول المؤلف في هذا الصدد إنّ النظام «ربما يتسامح مع كلّ شيء، لكن أبداً لا يتسامح مع الكتابة عن السجن، يمكن أن تكتب أحياناً من السجن لكن لا يمكن أن تكتب أبداً عن السجن» (ص 15). لكنّ الأهم من كلّ ذلك ربما، هو اللغة التي كُتبت بها الرسائل السبع. فقد اتّخذ مؤلفها موقعاً بينيّاً بين الذات المنخرطة في ما تصف والذات الملاحِظة التي تتخذ مسافة من موضوع وصفها، فاقتربت النصوص أحياناً من الوصف الإثنوغرافي، وذهبت أحياناً أخرى إلى إطلاق أحكام ذاتيّة وقيميّة، لكنها وُفِّقت في نهاية المطاف في تقديم تفاصيل حول استراتيجيّات نظام زين العابدين بن علي في التعامل مع الإسلاميّين داخل السجون وطرق تفاعل المعنيّين معها. واجه نظام بن عليّ مأزقاً في ما يتعلّق بالتعامل مع الإسلاميّين داخل السجون، فقد كانت تونس تفتقر إلى عدد كافٍ منها لعزل الإسلاميّين، والعزل يشمل تفريق بعضهم عن بعض. لكن ذلك، وإن مثّل مشكلة، إلّا أنّه لم يمنع استخدامه لمصلحة السياسة التي يطلق عليها الجلاصي «التنكيل الشامل والمنهجيّ». لم يكن التنكيل بـ «النهضويّين» قطعاً غاية النظام، بل كان وسيلة، من ضمن وسائل أخرى، لنزع الطابع الإسلاميّ عن الإسلاميّين ونزع الطابع الحركيّ عن حركتهم، وقد كانت «النهضة» على وعي بالمسألتين وركزت مقاومتها حولها. ويتحدث الجلاصي في رسائله عن وجود «شخصيّة نهضويّة» (ص 64)، من ميزاتها مثلاً أن «علاقة المناضل الإسلاميّ بحركته ليست مجرّد انخراط شكليّ، إنّها اختيار لنهج في الحياة» (ص 116). من هنا يتجذّر ويصير واضحاً وعي «النهضويّين» بأنفسهم داخل السجون كجماعة متمايزة عن محيطها (مساجين الحقّ العام)، وترى أنها تحمل رسالة حقّ في وجه الباطل، متسلحة بأفراد يتشاركون سمات ثقافيّة وسلوكيّة وأخلاقيّة. يترجم الجلاصي هذا الوعي الذاتيّ بالقول: «في وقت غابت فيه الحركة عن البلاد تماماً، بقيت السجون فضاء يذكّر بوجودها، وبهويّتها، وبرموزها» (ص 82).

إضافة إلى الممارسات الثقافيّة، طوّر «النهضويّون» في السجن تقنيات مقاومة أخرى

بدل تحقيق أهدافها، انقلبت نتائج استراتيجيّة نظام بن علي السجنيّة، إذ شدد تأليب مساجين الحقّ العام على الإسلاميّين من لحمتهم، فتمكنوا مثلاً عام 1995 من «تأديب» المساجين المسؤولين عن الغرف والوشاة داخلها ومن تثبيت أنفسهم كمجموعة مستقلة لا تقوم على الانتماءات الجهويّة والمناطقيّة الضيّقة كسائر التكتّلات السجنيّة؛ وسمحت عمليّات النقل الفجائيّة من سجن إلى آخر بتقابل المساجين «النهضويّين» والتعارف أكثر في ما بينهم وتبادل وجهات النظر والتنسيق بينهم. وأكسبهم اقتصاص مقالات من الجرائد التي سمح لهم بقراءتها إحساساً بأهميّة قضيّتهم، حيث «كانت الصحف المشبّكة، ذات النوافذ الكثيرة، تُفرحنا أكثر من الصحف الكاملة» (ص 116). كذلك تحولت الجلسات («برنامج التأهيل») التي نظمتها إدارة السجون بهدف تغيير قناعات «النهضويّين» في تصليب وجهات نظرهم باعتبارها محاولة «غسل دماغ». يقول الجلاصي: «غالبية الإخوة كانوا يعتبرون اختيارهم للمشاركة في هذا المشروع محنة، ومدعاة للشّبهة، ويحرصون على التخلّص منها» (ص 64).
من الناحية العمليّة، تحوّلت الجماعة من خارج السجن إلى داخله، ولم يتحوّل أعضاؤها إلى «أفراد» كما كان مخططاً لهم. ولا بد من الإشارة إلى أنّه في بداية الكتاب، يشير الجلاصي إلى أنّ «فكرة التّنظّم لم تمت قَطّ لدى الكيان النهضوي في السّجن، ولا خارج السّجن، غير أنّها كانت تأخذ أشكالاً تتناسب مع الأوضاع. وفكرة التّنظّم قد تجسّدها هنا مجرّد وُريْقة تطوف من يد إلى يد، ومن غرفة إلى غرفة. ولعلّ هذا ما يفسّر سرعة التّهيكل بعد الثورة» (ص 18).
كانت الممارسات الثقافيّة للإسلاميّين داخل السجن مدار صراع متواصل بينهم وبين الإدارة السجنيّة. من ذلك مثلاً المحافظة على قراءة القرآن يوميّاً، وهو فعل صار «عنواناً لمعركتنا مع السلطة، وكان وقوداً لصمودنا وإصرارنا على هويّتنا المهددة والمستهدفة، خاصة بعد منع المصاحف في بعض السجون» (ص 94). والحفاظ على الصلاة جماعة، وهي تقليد جرى رسميّاً «التخلي عنه في بداية التسعينيات، فأغلقت المصليات» (ص 131)، إلى درجة تنويه الكاتب بأنّ «بعض السجون تساهلت فغضّت الطرف عن الصلاة الثنائيّة، وغيرها أصرّت على الصلاة الفرديّة» (ص 61).
لكن رغم الطابع الثقافيّ الذي اتخذه الصراع بين الإسلاميّين والإدارة السجنيّة، فإنّ المؤلف يشدد على إصرار القيادة على إبقاء الصراع واقعيّاً، أي تجنّب ما يطلق عليه «إنتاجات اللاوعي»، ومن ذلك مثلاً ركون بعض السجناء «النهضويّين» إلى تفسير الواقع بالأحلام، حيث كان «كلّ حلم رؤية، وكانت كلّ رؤية ذات دلالة جماعيّة، أي تهمّ الحركة وأبناءها في علاقتهم بالسلطة». لكن إذا كان الأمر يلعب دوراً نفسيّاً، فإنّ الجلاصي يرفض ربطه بالواقع. ويقول: «بقطع النظر عن الوظيفة التي أدتها الأحلام في التنفيس وشدّ الأزر، فإنّ تعاطينا معها كان امتحاناً لمدى توازننا وعقلانيّتنا، بل وربما لمدى صفاء عقائدنا» (ص 118).
إضافة إلى الممارسات الثقافيّة، طوّر «النهضويّون» في السجن تقنيات مقاومة أخرى. نجحوا في إنشاء شبكة تواصل تجسّر شتاتهم الموزع بين الغرف والسجون، ما أدى مثلاً إلى إقرار إضراب عن الطعام جماعيّ عام 1996، واستخدام الإضراب الفرديّ عن الطعام لتحقيق بعض المطالب الفرديّة، وكذلك رفض الإقامة في ما يطلق عليه «العزلة في غرف الحقّ العام» (ص 22)، أي أن يوضع الإسلاميّ معزولاً عن رفاقه داخل حشد من المساجين العاديّين، ما يفقده حصانة شبكة الإسناد الجماعيّة، وقد أبدع «النهضويون» شعاراً للتعبير عن الأمر: «الحقّ العام، حقّ عام، وإن صلى وصام» (ص 94). برغم ذلك، تمكن «النهضويّون» من استمالة بعض «مساجين الحقّ العام» المتعاطفين معهم وتكليفهم مهمات نقل الرسائل، سواء بين الزنزانات أو من السجن إلى خارجه، وهو ما سمح بأن تسترق الرسائل طريقها إلى خارج الجدران، قبل أن تتحوّل بعد عقد ونصف إلى «سرقات لذيذة» تتخذ من رفوف المكتبات مكاناً لها.