فكرت كثيراً أثناء طريقي إلى عمّان للمشاركة في المشاورات الإقليمية التحضيرية للجمعية العامة للأمم المتحدة للبيئة التي ستعقد نهاية هذا العام في نيروبي، في ما يمكن العرب وبعض ممثليهم في المجتمع أن يقترحوه في قمة عالمية؟ ما الذي يمكن اقتراحه غير الشكوى وتعداد أنواع التلوث في بلادهم وأسبابها، ولا سيما تلك الناجمة أخيراً عن الحروب، وما الذي يطلبونه من العالم من مساعدات متنوعة... إلخ؟
قلت: لنعكس السؤال: ما الذي يمكن أن نقدمه نحن العرب لحل مشاكل التلوث في بلداننا والعالم، التي باتت تهدد الوجود الإنساني بكل معانيه؟ أية أفكار وأية مقترحات؟
في الحقيقة، لم تخطر ببالي أي فكرة إلا في طريق العودة، بعد أن تخلصت من أوهام اللقاء وما يمكن أن يحمله من أفكار جديدة.
بالطبع، لا يفترض الأخذ بالتقارير الموازية التي تصدر عن شبكات أو منتديات عربية موَّلَ أبحاثَها الملوِّثون في المنطقة العربية، أو وكلاء شركات عالمية تريد أن تسوّق بضاعتها، وقد أقنع الناشطون فيها، هؤلاء بضرورة أن «يتبرعوا» بتمويل أبحاث وعقد مؤتمرات في أفخم الفنادق في المنطقة العربية لجمعيات وباحثين وأعلام للترويج لدراسات وأرقام، تحرّف الحقائق ولا تمسّ بالنظم الاقتصادية المسيطرة وتبيض صفحة الملوثين! بالإضافة إلى الترويج لأفكار يمكن الاستثمار فيها في المستقبل وتحقيق المزيد من الأرباح، مثل الحملة التي أُطلقت منذ سنوات على مستوى المنطقة، والتي تقول إن رفع دعم الدول عن المياه والطاقة يسهم في وقف الهدر، تمهيداً لتسعير المياه وتسليعها (بدل تأكيدها حقوقاً). وبث بعض الأرقام عن أثر تغير المناخ على الموارد وتوقع المزيد من الجفاف، لتبرير الحاجة إلى استثمارات كبيرة، سواء في تحلية المياه في دول الخليج وإنشاء السدود السطحية والمكلفة في البلدان الأخرى الغنية بالمتساقطات، والتستر على ما لهذه الخيارات من انعكاسات بالغة السلبية على البيئة والمناخ، تفوق تلك المشكوّ منها تاريخياً من شحٍّ وتصحّر... إلخ، وذلك بدلاً من تبني سياسات محافظة تقوم على الترشيد والاقتصاد (بمعنى التوفير) بدلاً من الترويج لأفكار التنمية المستوردة التي تحثّ على المزيد من الاستثمارات وتشغيل الرأسمال الغربي المستثمر في التقنيات التي تتطور باستمرار وتحتاج إلى المزيد من الأسواق… في دوامة لا تنتهي إلا باستنزاف الموارد أو تدميرها أو تلويثها ونضوبها.
وإذ بات قسم كبير من الناشطين في المنطقة العربية مقتنعين بمخاطر السير في طروحات التنمية، ومتحسسين من سيطرة الشركات ومن «دمج الأعمال بالبيئة» ومن الأشخاص الذين يتعاملون مع قضايا البيئة كرجال أعمال... بنجاح، فهم يسألون دائماً عن البديل وما يمكن تقديمه لمجتمعهم غير النقد وحالة الرفض... إلخ.
يمكن البدء بالتفكير بطريقة أخرى وطرح البدائل الفكرية المستمدة من تراث المنطقة، بدءاً من إعادة إحياء الأفكار التي تمجد الكسل وقلة العمل، بدل تبني الأفكار البراغماتية التي لا تنفك، ليل نهار، تروج للإنسان العملي وتمجد العمل، وتقلد الآلات بدل تقليد الطبيعة، التي تعرف كيف تحدد الحاجات وتعرف معنى الاكتفاء والعيش بانسجام بدل العيش بانهمام. كما تمنح العودة إلى الطبيعة مثالاً، بدل الانبهار بالتقنيات، الهدوء بدل الركض والسرعة في التحرك، والمشي على الأرض بدل السباق الدائم في الأسواق، وتلبية الحاجات الضرورية بدل تلك التي تصنعها الدعايات والموضة... إلخ. أفكار تحدّ من الاستهلاك المحموم وتراكم النفايات، آفة العصر الحديث، وتساعد الإنسان الحديث على التقاط أنفاسه والعودة إلى الذات والطبيعة، بدل الركض وراء التقنيات التي بتنا نعيش ونعمل لنخدمها (كالسيارة والكمبيوتر والهاتف النقال) بدل أن تخدمنا... إلخ.
مثل هذه الأفكار المستمدة من التراث العربي المتهم بكثرة الكلام على الفعل، يمكن أن تعيد الاعتبار للكلام وصدقيته ومنحه الأولوية على الفعل وفعاليته (الكاذبة) التي باتت مدمرة وتترك تأثيرات في غاية الخطورة على ديمومة الكوكب وتهدد بقاء النوع البشري نفسه... ومحاولة نقلها إلى المؤتمرات الدولية وترجمتها في التوصيات والبرامج المضادة والمنقذة للكوكب، التي يمكن أن تترجم في سياسات الطاقة والنقل، بخفض الإنتاج والاستهلاك والتوفير وقلة الحركة والأضواء والعمل، أي بتقليل ساعات العمل وزيادة ساعات التسلية والترفيه ومجالسة الأصدقاء وجلسات التفكير والتأمل… كمداخل رئيسية لإنقاذ الكوكب، بدل العودة إلى علك الأفكار نفسها منذ ثلاثين سنة كالتنمية والتنمية المستدامة.
وبذلك يكون العرب بفكرتهم وسلوكهم الكسول قد ساهموا في حفظ حقوق الأجيال القادمة في الاستفادة من الموارد، وتركوا لها شيئاً، بخلاف الأفكار الغربية في التنمية غير المحدودة والطاقة غير المحددة والسرعة التي تسابق الضوء... وهذا الأخير الذي يطمح إلى إلغاء الليل، فضاء العرب الشعري الجميل!