مرّة جديدة، تكتب رائدة طه ذاكرتها الحميمة، تعرّي ذاتها لتصنع عملاً مسرحيّاً موجعاً وعنيفاً. «العنف» كالعادة، هو على مستوى التأثير والمشاعر، والموقف الراديكالي. العنف بالمعنى الذي أراده ونظّر له الكاتب المتجلّي أنتونان آرتو. القسوة بالأحرى، «مسرح القسوة». تلك القدرة على صدمنا، و«الاعتداء علينا»، بوسائل جماليّة متقنة، بغية انتشالنا من الـ «كوما» الأخلاقيّة التي تلفّنا ـــ أفراداً وجماعات ـــ بوشاح سميك من العمى والنسيان والاستقالات والخيانات، حتى كدنا ننسى فلسطين، ننسى هذه الأولويّة الكيانيّة والوجوديّة، هذه القضيّة المرجعيّة.
لقد أخذنا نتعامل معها كملفّ من الملفات، وقضيّة بين القضايا. تركناها تغرق في مستنقع العصبيّات والانعزاليّات والحروب الصغيرة على اختلافها… فجأة، تنتصب أمامنا، امرأة بلا ديكور ولا أكسسوارات. بلا سند بصري: لا صور، لا فيديو، لا لوحات… استعادة المكان تكون بالكلمات، بالسرد، بالتشخيص، وبلغة الجسد وايماءاته. تلك الرؤيا الإخراجيّة التي تحمل العمل. الفنان والمنظر وليد صادق سيجد هنا أصداء لمشاغل تسكنه منذ عقدين حول اللوحة المستترة، الصورة الحاضرة بغيابها، إذ نعيد خلقها بمخيلتنا وجوارحنا وتراكماتنا المعرفيّة والحسيّة. امرأة، مع ميكرفون، محاطة بأصداء وأطياف كثيرة، وظلال، وشخصيّات. عبر السرد والتشخيص، تعيد نسج هندسة افتراضيّة للجغرافيا المسروقة… امرأة فوق خشبة مجرّدة، تنسج لعبة بازل دراميّة وسينوغرافيّة، تنتهرنا وتقول لنا: كفى مساومات، كفى تواطؤاً… عودوا معي إلى المكان الأوّل، إلى الجرح المؤسس. كان يا ما كان مدينة اسمها حيفا، في فلسطين التي ابتلعها الاحتلال.
مرّة جديدة تفاجئنا رائدة، بعمل فنّي متقن، وناضج، ومتكامل، من تأليفها وأدائها، بعنوان «36 شارع عبّاس، حيفا». نمت التجربة واكتملت تحت العين الساهرة لشريك من نوع خاص، هو جنيد سري الدين الذي يتولّى الجانب الإخراجي. تكتب رائدة، أي تغرف من تجربتها وذاكرتها، من أعماق كيانها. تنتقي مفردات النص، وعباراته، وحكاياته، ووجوهه، كالباحثين عن الذهب. وتؤديه، أي، تحمله بجسدها وأعصابها. تتقمّص شخصيّاته، حكواتيّةً ماهرة تشد أنفاسنا من اللحظة الأولى، حتى كلمات النهاية. «النشيد الإسرائيلي؟ نعم؟؟!! ماذا يفعل هنا؟»… وها نحن في وضعيّة دفاعيّة، نقف بمزاج عدائي، فوق أرضية مقلقة، معادية. لقد كسبت رائدة المعركة من اللحظات الأولى… لا خيار أمامنا سوى أن نتبعها في هذه الرحلة القسريّة التي تبدأ بحلم يبحث عن تفسير… وصولاً إلى حيفا. حيفا بيت القصيد ومحور الحكاية. إنّها قصّة بيت صودر من أصحابه وانتقل إلى مستعمر صهيوني «يحرس أملاك الغائبين»، باعه إلى عائلة فلسطينية. هذه العائلة هي عائلة بطلتنا «نضال»، صديقة الرواية. وقد عاشت نضال في ظلّ هاجس مرهِق: الأصحاب الأصليّون للبيت الذين خرجوا من المرفأ نفسه الذي جاء عبره المهاجرون الغزاة. نضال عاشت في ظلّ حكايات الأصحاب الأصليين وأطيافهم، وقد قرّرت مطاردتها حتى أميركا. مَن الأحق بالمكان: الذين بقوا أم أصحاب الحق الأصلي الذين حملوا الجرح الأصلي وزرعوه في المنافي؟ من يملك ماذا، غير العمر المسروق، والحق المغتصب؟ من يسكن أين؟ في هذا الوطن الصعب الذي يعيش أهله مبعثرين بين المنافي؟ الوطن الذي تبدأ استعادته عن طريق الكلمة، عن طريق الحكاية… كل فرد هنا هو الوطن، إذ يحمله ويحييه وينقله لمن بعده. كالعادة، تبرع رائدة طه في تحويل الذاكرة الشخصيّة إلى مادة فنيّة، وتحويل الحكايات الخاصة إلى مرآة لجراح الجماعة.
رائدة طه. من هي هذه المرأة؟ ومن أين أتت لتكتسح المشهد المسرحي في بيروت، على حين غرّة؟ عاشت رائدة بين المنافي. الطفولة في بيروت، النضج في تونس، «العودة» إلى (جزء من) وطنها بعد «أوسلو»… ثم، كانت ولادتها المسرحيّة المتأخّرة، في بيروت لحسن حظّنا. الذين يعرفونها، قبل عقود، يعرفون شابة مثقفة، منخرطة في العمل السياسي والنضالي. لكن لم يكن أحد ليتصوّر طاقاتها الابداعيّة وموهبتها المسرحيّة. في السنوات الأخيرة، ظهرت في مشاركات عابرة مع آخرين (لعبت في «عائد إلى حيفا» و«80 درجة»)، قبل أن نكتشفها امرأة مسرح من الطراز الأوّل. لقد أذهلت بيروت قبل عامين بمونودراما «ألاقي زيّك فين يا علي؟» (من تأليفها وأدائها، إخراج لينا أبيض). كان العرض استعادة لِطيْف الأب الغائب: الشهيد علي طه، أحد أبطال «عمليّة مطار اللد» (1972). ومن خلال تجربتها الشخصيّة، في ظل إشكاليّة الأب الغائب، دخلنا الى فلسطين حيث العائلة متشبّثة بالأرض والذكريات ورفاة الشهداء، واستعدنا بيروت السبعينيات زمن الكفاح المسلّح، والعمل الفدائي. من رائدة طه إلى آن - ماري جاسر (فيلم «لما شفتك»، 2012) عاد «العمل الفدائي» سؤالاً ملحّاً ليطرق باب الراهن الاستسلامي البائس.
هذه المرّة ستذهلنا رائدة طه أيضاً، ابتداء من الليلة في «مسرح المدينة»، بيروت. «36 شارع عبّاس، حيفا»، عملها الجديد، مختلف شكلاً ومضموناً وأسلوباً عن السابق، وتتجلّى هي أكثر على مستوى التمثيل… مع أنّه امتداد لـ «ألاقي زيك فين يا علي» لجهة المقاربة: هذه القدرة على تحويل التجربة الشخصيّة ـــ عبر السرد ـــ إلى عمل يحتضن برؤيته المعاناة الفلسطينيّة، السياسيّة والوجوديّة، بعيداً من الشعار. لقد نضج أداؤها، ليجمع بين الراديكاليّة والشعريّة والسخريّة المرّة. نص وعرض تمكن مقارنتهما بأجمل أعمال داريو فو. ويأتي لقاؤها مع جنيد سريّ الدين، أحد أركان «فرقة زقاق» التي باتت تشكّل حالة خاصة في المسرح العربي، ليؤمن الاكتمال الفنّي، من خلال هذا الحوار بينهما: فالعمل نتيجة تفاعل درامي، وتمثيلي، وفكري، وجمالي. مرّة أخرى تغرف من تجربتها الحميمة عملاً إبداعيّاً عاماً. الذات موضوعاً للفن، الذات حارسة الذاكرة، عرّافة فلسطين. تستدعي رائدة صديقتها «نضال» التي تتقمصها تارة، ثم تتركها لتعود إلى «رائدة» تارةً أخرى، فتعلّق على الحكايات وتخاطبنا، تروي وتسأل. إنّه فن الحكواتي في أرقى تجلياته. سنذهب معها إلى حيفا، وتحديداً إلى شارع عبّاس، ومنه ندور على المنافي ومواطئ الجرح. انها رحلة في الذاكرة، في التاريخ. لكنّها مواجهة مع الراهن، كل ذلك لا يعود له معنى من دون سؤال المستقبل. هذا نحن، وتلك «إسرائيل»: ماذا سنفعل بها؟ رائدة طه، الذئبة الجريح، تنتهرنا وتحرّضنا. مسرح التحريض ضد مسرح التفريغ (حسب سعد الله ونّوس). لحظات مسرحيّة نادرة. يكفي مشهد «مطار اللّد»، لكي نقول إننا في حضرة اعصار مسرحي.
يبدو الموسم فلسطينيّاً في بيروت، هذه الأيّام، وحيفا حاضرة بيننا بقوّة… كأنّه نوع من الرد الثقافي، الفنّي، بلسان أهل الجرح الفلسطيني، على المزايدات الكاذبة والشعارات الجوفاء التي برّرت لـ «خيانة» زياد دويري ومتاجرته السافلة بفلسطين. محمد بكري قدّم قبل أيّام على الخشبة نفسها مونودراما «المتشائل» المقتبسة عن رواية إميل حبيبي، ويجول بها منذ ٣١ عاماً في العالم، ليحكي السرديّة الفلسطينيّة لنكبة 1948. ورائدة تأخذنا إلى شارع عبّاس، بعد النكبة، لتحكي عن المكان الأبدي، ولو مستحيلاً علينا، مسروقاً منّا. نستعيده بالكلمة، أرقى حالات المقاومة. «باق في حيفا» كتَبَ إميل حبيبي على شاهدة قبره. رائدة طه وجنيد سريّ الدين يشرّحان لنا أسرار هذا البقاء، ويشرّعان أمامنا أحلام العودة.