تذكَّرْ واحفظْ لي ذلك، يا رجوانُ. يا رجوانُ الفاشلُ قاتلاً. يا رجوانُ الشجرةُ العمياءُ في السماء. يا رجوانُ... القتيل. لا ينتهي أسبوع الآلام. الصمت أعظم الآلهة. ملاذٌ دائمُ الحضور والصفاء. يرى ويسمع ويتكلّم. لا يسمعه أحد. لا يعبده أحد. لا ملاذَ سواه.الخامسة بعد الظهر. نازِك، مساء الخير. النهار جثَّة طائر رماديّ لم تبرد بعد. برنامج اليوم جالس في الغرفة معي. لم أنفِّذ منه شيئاً. مركبي انقلب في الصباح قريباً من الشاطئ. لا أحاول إنقاذه. أتفّرج عليه. أفكِّر أحياناً لماذا أستسلم للخراب.

لا أتوقَّف طويلاً. لا يفارقني السؤال. يعود وأتجاهله. أنشغل بأيِّ شيء. بالقراءة. بلُقَيماتٍ متفرِّقة لا تلاقي شهيّة. لا أرتِّب غرفة النوم. من القهوة أطلب رائحتها. ما يتصاعد مع بخارها من ذكريات. الجثّة ساخنة ورماديّة. أزيزٌ لا يجرح الصمت. يعزِّزه. كأنه يضع تحته خطاً أحمر. أخرج مع مظّلتي مشواراً قصيراً وأعود. أُلقي الجريدتين على المقعد في المدخل. لا أفتحهما. ترنُّ إشارة في الموبايل. ترسل لي فيوليتا نسخة (أوديو) روسيةً من «أمواج» فيرجينيا وولف. لا أذهب إلى المكتبة. جالس. ساهمٌ. معطوبٌ. أتجوَّل وأدور. أخيراً أستمع ساعة وأربع دقائق من «أمواج». أتمتَّع بفنِّ القراءة. الأداء وحده حياة كضوء القمر. تفوتني كلمات وأنا أستلقي على الديوان القريب. أنهض وأرى حوّاء «ببساطة شديدة». الفقر ليس رجُلاً. عليٌّ يقتل الرجال. لا يقتله. كم ينقذ الفقرُ من سحر الغوايات. كم يُكرِم وكم يُذلّ. كم ترمي الضلالةُ في ورطات. كلٌّ يتبع ما يرسمه هواه من علامات في الطريق. ما يأتي ليس النوم. ما يأتي بالنوم هو الأمل. الرغبة بالحياة. طلبُ شحنة جديدة من الطاقة تكفي للنهار القادم. النوم لراحة الجسد مطلب فيزيولوجيّ محض. تشترك فيه الكائنات الحيّة جميعها. لا فرق بين عاقل وبهيم.
أخرج في المساء مسرعاً لأشتري بعض الفواكه والألبان. أعود بمنظِّفاتٍ وملمِّعاتٍ للمطبخ والحمّام والحذاء. لوجوهٍ تومض وتغيب. غاليةٍ وباهتة. تَحزن وتَغضب وتَطعن. صديقٌ يُدير لك ظهره. يكفيك شرَّه. ضع وردة وداعٍ على قبره نقطةً في آخر السطر. دعْه يمرّ. يكاد ينقضي العمر. لا أعرف أين يعيش البشر.
ـ ابقَ معي يوماً آخر، يقول الطفل راجياً.
ـ أقول لك لا أستطيع...
ـ قبِّلْني، إذاً، قبل أن ترحل في الصباح!
الذاكرة بستان. مغارة. مقبرة... كتابٌ لا أقرأه. أعيش في براريه. في أزقَّة فقره وهواجس لياليه. أتفرّج على رسومه الملوَّنة بالدموع والأوهام. مقيم في فوضى الرغبات والواجبات والصّداع. بين: ماذا أُتِمُّ وماذا أبدأ وأين مطلع الشمس؟ أفتقد شوق الطفولة للاستغراق في النوم كلَّ صباح. يبسط مساء القطب الشماليّ جناحيه بثبات ورِفق. مثلَ أمٍّ تغطّي بحنانها وحيدَها المريض. اللاجئون أشدُّ المرضى عصياناً على الشِّفاء. الحنان وافر، ولكنّ الأمَّ ليستِ الأمّ. كيف لمن يترك أمَّه المريضة خلفه أن يطمع بالشفاء؟! الغربة هامش يصارع المتن على العرش. مَن في الهامش ومع المتن لا ينتصر.
* كاتب سوري