خمسة أرقام تختصر تجربة لبنان على مدى 150 عاماً، أي منذ إنشاء المتصرفية عام 1861. أول هذه الأرقام هو كثرة المهاجرين من لبنان بين عامي 1900 و1913، الذين قدّر عددهم بربع سكان المتصرفية. وقد مهّدت تلك الهجرة الفادحة لمصيبة أكبر تمثّلت بالمجاعة خلال الحرب العالمية الأولى. فقد لبنان الكبير الموزّع آنذاك على المتصرفية وولاية بيروت 41% من شعبه. ولم تكن كارثة المجاعة لتبلغ الحد الذي بلغته لو لم تسبقها الهجرة الكثيفة من المتصرفية. والرقم الثالث هو عدد المهاجرين من الريف خلال عقد الستينيات وحده. وقد طاولت «الهجرة الداخلية» 689 ألف شخص، أو ثلث شعب لبنان آنذاك. أما الرقم الرابع فهو ما تمخّضت عنه الحرب الأهلية الطويلة (1975-1990) من هجرة طاولت 990 ألف شخص حتى عام 1990. أما الرقم الخامس، فهو عدد المهاجرين من فئة الشباب بين عامي 1992 و2007 الذي بلغ 466 ألف شاب، أو ثلث القوى العاملة اللبنانية. هذه الأرقام تدل على إخفاق تنموي ذريع تسبّبت به تبعية لبنان لدول الغرب، ومصلحة نخبته في استمرار هذه التبعية. تنطوي نصوص الباحث الكبير والاختصاصي في شؤون الشرق الأوسط ريموند هينبوش على تجاوز للبنيوية القديمة التي تحصر المسؤولية بالخارج في تفسير حالات التبعية والإخفاق التنموي.

وهو أخذ من البنيوية القديمة نظرية التبعية ونظرية المركز والأطراف ونظرية الإمبريالية، وأخذ من مدرستي الواقعية والبنائية في العلاقات الدولية عناصر إضافية لبلورة مقاربة «بنيوية جديدة» تفسّر لماذا بقي الشرق الأوسط الحديث في أسفل التراتبية الدولية (هينبوش، 2011: 214). وهذه المقاربة تأخذ في الاعتبار دور النخب المستزلَمة والدول المستزلَمة في إرساء حالة التبعية لبلدانها.
وقد رسم روبنسون وغالاهر (1953) وروبنسون (1972) أشكالاً مختلفة من تعاطي الدول الاستعمارية مع البلدان المتخلّفة في القرن التاسع عشر، لعل أهمها «الحكم غير المباشر» (indirect rule)، حيث تتولى النخب المحلية إدارة الشأن المحلي ضمن إطار من التبعية للدولة المستعمِرة. واستخدم الباحث الكبير والاختصاصي في شؤون شبه القارّة الهندية، بول براس، مفهوم «النخبة المتواطئة» (collaborationist) لتوضيح علاقة نخب الأقاليم الواقعة ضمن إطار الإمبراطوريات الكبرى، كالإمبراطورية النمساوية - الهنغارية والإمبراطورية العثمانية وغيرهما، بالمركز الإمبراطوري (براس، 1991). وأضاء بيتر إيفانز على أدبيات التيار المؤسساتي التي أظهرت دور الدولة المركزي الذي يتحدّد في ضوئه نجاح أو فشل التنمية و«التصنيع المتأخّر» موضحاً أن نوع العلاقة التي تنشئها الدولة مع النخب الاستثمارية (state-society relation)، هو المدخل لفهم حالات النجاح وحالات الإخفاق على هذا الصعيد (إيفانز، 1995).

1. الأعيان والتبعية في الحقبة العثمانية

جرى استخدام هذه الإسهامات في الفصلين الأول والثاني من الكتاب لتوضيح علاقة نخبة السلطنة بالخارج ممثلاً بأوروبا وعلاقة السلطنة بالنخبة المحلية في لبنان، ولرسم صورة الإخفاق التنموي الذي مُني به لبنان في العهد العثماني. وقد عمدت السلطنة العثمانية منذ القرن الثامن عشر إلى تكليف نخب محلية بالجباية. ونشأ نوع من «خصخصة السلطة المحلية» على يد هؤلاء الأعيان في مختلف مناطق السلطنة الذين استمروا في شراء حق جباية الضرائب حتى 1838 رسمياً، وفعلياً حتى نهاية عمر السلطنة.

أرقام الهجرة تدل على إخفاق تنموي ذريع تسبّبت فيه تبعية لبنان لدول الغرب


ازدادت سلطة الأعيان المحليين على مدى المئة سنة الأخيرة من عمر السلطنة بسبب ضعف هذه الأخيرة وحاجتها إليهم لإرساء سلطتها على الصعيد المحلي كما بيّن ذلك ألبرت حوراني (حوراني، 1968).
عام 1838، وافق السلطان محمود الثاني على فتح السلطنة العثمانية لتصدير المواد الأولية الزراعية إلى أوروبا والاستيراد منها كثمن للدعم الذي وفّرته أوروبا له لمواجهة محمد علي باشا. بعد ذلك التاريخ وحتى نهاية عمرها تحوّلت السلطنة إلى اقتصاد زراعي تابع ينتج المواد الأولية التي تحتاج إليها أوروبا. وأدى ذلك إلى منع السلطنة من التدخّل لحماية المنتجين، وكذلك منعها من خلق نخب استثمارية تعمل معها على تحقيق «تصنيع متأخر»، كما جرى في اليابان. وكانت النخبة السياسية لحقبة «الميجي» في اليابان قد انطلقت في الأساس من اعتبار الأوروبيين «برابرة» ينبغي الاستعداد لصد عدوانهم.
جعل قبول السلطنة بلعب دور اقتصاد تابع لأوروبا السلطان العثماني يعوّل على ملّاك الأرض وغيرهم من النخب التقليدية، الذين لم يكونوا قادرين على إطلاق مشروع تحديث و«تصنيع متأخر» على شاكلة ما فعلته النخبة التقليدية في اليابان. وتوضح المقارنة بين اليابان والسلطنة العثمانية أن الاختلاف الجذري بين التجربتين لم يكن فقط على مستوى علاقة الدولة بالنخب وإنما أيضاً على مستوى البنى الإدارية القائمة، أي طبيعة الإدارة الحكومية وتكوينها في كليهما. فقد بنت اليابان إدارة حكومية فعّالة على قاعدة الاستحقاق كان يصار لتنسيب أفرادها بواسطة المباريات الوطنية أوكلت إليها بلورة مشروع «التصنيع المتأخّر» وتنفيذه. أما في حالة السلطنة العثمانية فكانت تزكية المسؤولين هي القاعدة في الانتساب إلى الإدارة العامة، وكان يتم خلق مواقع إدارية لا حاجة لها لتوزيع التنفيعات على الموالين.
يظهر الفصل الثاني حول نخبة المتصرفية واقتصادها، إمكان العودة إلى عام 1711 في التأريخ لعملية تأسيس سلطة المقاطعجيين كـ«أصحاب سلطة محلية» في لبنان. في ذلك العام، وبعد معركة عين دارة، أعاد الأمير حيدر الشهابي توزيع المقاطعات على حلفائه. وقد حصل هؤلاء على حق توريث أولادهم وأصبحت عائلات المقاطعجية تتوارث السلطة المحلية جيلاً بعد جيل أكثر من أي مكان آخر في السلطنة. وأنهى انهيار الإمارة الشهابية عام 1841 دور المقاطعجيين كنخبة إمارة لكنه لم يلغِ حضورهم على المستوى المحلي.
كانت نخبة المقاطعجية اللبنانية نموذجاً لـ«نخبة متواطئة» مع الخارج. وقد فرضت السلطنة الإبقاء على المقاطعجيين القدامى كنخبة محلية. وطلب السلطان عبد العزيز تعيينهم قائممقامين ومديرين لأقضية ومديريات المتصرفية، واستعاد لآل الخازن بيوتهم وأملاكهم التي فقدوها بعد ثورة فلاحي كسروان. وحافظت عائلات المقاطعجية القديمة على حضورها من خلال استخدام صلات أفرادها بالسلطنة.
فقد المقاطعجيون حق الجباية، ولم يعودوا المكوّن الوحيد للنخبة السياسية في المتصرفية، لكنهم استطاعوا الحفاظ على ولاء مناصريهم بتوفير منافع خاصة لهم. وحل نظام قائم على «الاستزلام السياسي» محل النظام المقاطعجي القديم عماده توزيع منافع خاصة لاكتساب ولاءات المستفيدين منها. وقد «تدقرطت» النخبة السياسية، على ما يقول دنيز أكارلي وسيمون عبد المسيح، بدخول وافدين جدد ممن كوّنوا ثروات من التجارة وغيرها وبات بإمكانهم استخدامها للتحوّل إلى «رؤساء شبكات محاسيب» واستخدم الكثيرون تعبير «الإقطاع السياسي» للدلالة على واقع تحوّل عائلات المقاطعجية من «متولّي جباية» إلى «رؤساء شبكات محاسيب».
تقاسمت أوروبا مع السلطنة النفوذ على المشرق العربي بعد عام 1840. وقد اكتسبت إنجلترا هذا النفوذ بفضل الإنزال العسكري الذي قامت به على السواحل اللبنانية ودورها المباشر في إلحاق الهزيمة بإبراهيم باشا ودفعه إلى الانكفاء إلى مصر. أصبح لأوروبا دورها في تحديد من يكون ومن لا يكون على رأس المتصرفية. ومنذ ذلك التاريخ نشأ تقليد يقضي بأن يكون على رأس الكيان الشخص الذي يتوافق الخارج عليه.
كان للخارج ممثلاً بالقوى الأوروبية دوره الحاسم في التسبّب بالإخفاق التنموي للمتصرفية. ألغى إمكان أن تساهم السلطنة في تمويل موازنتها لأن خدمة الدين العام العثماني كانت تستنفد مواردها. لكن الأسوأ من ذلك بكثير، أن النخبة المحلية لم يكن لديها مشروع تنموي من أي نوع.

كانت نخبة المقاطعجية اللبنانية نموذجاً لـ«نخبة متواطئة» مع الخارج

أمضت الخمسين عاماً من عمر المتصرفية في المماحكات مع الإدارة المركزية في اسطنبول حول الضرائب البائسة التي تم فرضها، وحول من يحق له استخدام إيرادها. ووقفت تتفرّج على هجرة أبناء المتصرفية التي بلغت مستوى كارثياً خلال العقد الأول من القرن العشرين. لم تر خطر الهجرة، ولم تبلور مقاربة واحدة من شأنها أن توقف سيل المهاجرين. روى روجر أوين كيف انتهت صناعة ناشئة في قطاع الحرير بسبب سياسة «اليد المرفوعة» التي اعتمدتها الدولة ممثلة بالسلطنة وإدارة المتصرفية. هاجر 100 ألف شخص، أي ربع سكان المتصرفية، البالغ عددهم 422 ألفاً وذلك خلال 13 عاماً (1900-1913). وحين أطلق الأب جوزيف ديلور اليسوعي صرخته عام 1914 للإضاءة على كارثة الهجرة استخدم صوراً أظهرت الأحياء المهدّمة والبيوت التي باتت بلا سقوف، بعد هجرة أصحابها.
على أن الكتاب أغفل، كما كل محاولات التأريخ للتجربة اللبنانية، الحديثَ عن سنوات الحرب العالمية الأولى كسنوات مجاعة. كما أن تخصّص المتصرفية في إنتاج شرانق الحرير، وإهمال إنتاج الحبوب، والهجرة الكثيفة للفئات الشابة، أضعفت قدرة ريف المتصرفية وولاية بيروت على مواجهة الحصار البرّي الذي فرضه العثمانيون، والحصار البحري الذي فرضه الحلفاء. تعاون الطرفان على ارتكاب جريمة إبادة لشعب لا أحد يتحدّث عنها، علماً بأنها أزهقت أرواح 41 % من السكان على مدى أربع سنوات.
لم يخصّص الكتاب فصلاً لحقبة الانتداب التي حافظ المقاطعجيون القدامى خلالها على سلطتهم المحلية. كانت قاعدة «الحكم غير المباشر» التي اعتمدها الاستعمار في علاقته مع النخب التقليدية ضمانة بقاء هذه النخب التي انتقل ولاء أفرادها إلى المحتل الأجنبي الجديد. كرّست السلطة الانتدابية سيطرة هذه النخبة التقليدية. جاءت القوانين الانتخابية المتعاقبة منذ دستور 1926 لتوفّر قولبة للنخبة تعطي الأولوية للمكونات المحلية التقليدية فيها. احتكر «رؤساء شبكات المحاسيب» المحليّون التمثيل في البرلمان.
ركّزت السلطة الانتدابية على تعزيز دور بيروت كرأس جسر للاستيراد، ودورها كمدينة - مستودع. عبّر الفرنسيون عن موقفهم من لبنان ونظرتهم الاستعمارية إليه، من خلال جملة أندريه بيسون، حاكم مصرف الإصدار اللبناني في الأربعينيات، حين قال إن مستقبل لبنان هو «شيء ما مثل سنغافورة»، حين كانت تلك الأخيرة مجموعة مستودعات لخزن البضائع على الشاطئ.
عزّز الانتداب دور وحضور المستوردين والمصرفيين، وانتهج سياسات تعكس مصالحهم، وبات على الزعماء التقليديين، خصوصاً ممثلي الريف، أن يوفروا الشرعية للسياسات التي تحقّق مصالح هذا المكوّن الآخر للنخبة.
لم يكن الريف، حيث غالبية السكان، محطّ اهتمام الانتداب بأي شكل من الأشكال. ناله من ذلك إهمال كامل عبرت عنه موازنات السلطة الانتدابية التي لم يكن ممكناً أن تلحظ أي إنفاق تنموي له. لم يحقق الانتداب أية أعمال في ميدان البنى التحتية خارج بيروت، ولم يعتمد أية سياسات دعم من شأنها تثبيت مداخيل المزارعين لإقناعهم بالبقاء في أرضهم. وجد الانتداب الفرنسي أنه يستطيع خفض كلفة صون الأمن الداخلي من خلال تكليف ملّاك الأرض الكبار السيطرة على الفلاحين بوسائلهم الخاصة، كما في حالة عكار على وجه الخصوص. رسّخ في إدراك المؤسسات الأمنية الوطنية الناشئة أنها لا تمتلك الاحتكار القانوني لممارسة العنف، وأن عليها أن تتعامل مع أزلام الملاكين الكبار والمقاطعجيين كأنداد لها.

2. دور الخارج ودور النخبة المحلية في حقبة الاستقلال

عوّل الكتاب على مساهمات جمهرة من الباحثين وفّروا وقائع لرسم صورة حقبة الاستقلال، من بينهم كارولين غيتس (1998) ومايكل جونسون (2002) وإيرين غندزير (1997) وسليم نصر (1978) وكمال الصليبي (1976) وألبر داغر (1995). وقد أظهر باري بريسلر أن أفراد النخبة السياسية هم «أصحاب سلطة محلية» لا تعمل الدولة على الحد من سلطتهم، بل على العكس تدأب على تأمين شروط ممارستهم لها (بريسلر، 1988: 35 و51). وأعطى مايكل جونسون تعريفاً لهم بوصفهم يعكسون وجود نظام «استزلام سياسي بطريركي الطابع» (neopatriarchal clientelism) (جونسون، 2002). وفّرت كتابات مايكل مان (2004) وفرانك ستوكس (1975) وجون أنتليس (1973) وفالير غانيون (2004) وستاتيس كاليفاس (2004) وجون ميوللر (2002) وروجر بروباكر (2004) ورادا كومار (1997) وجاغو سالمون (2006) وماري كالدور (1999) وويليام رينو (2003) وبروس كامبل (2000) ومايكل ماكلينتوك (1991) إضاءات نظرية لفهم طبيعة الحرب الأهلية.

أغفل الكتاب الحديثَ عن سنوات الحرب العالمية الأولى كسنوات مجاعة

يرسم الفصل الثالث صورة للنخبة السياسية والاقتصادية في مطلع الاستقلال مستنداً إلى توثيق إيرين غندزير لأحداث الحقبة. وقد اعتمدت الباحثة على أرشيف الخارجية الأميركية، الذي تضمّن صورة للنخبة رسمها أحد موظفي السفارة الأميركية خلال الخمسينيات. فإذا هي مكوّنة من مستوردين بشكل رئيسي، ومن زعماء تقليديين وسياسيين قاعدتهم الانتخابية ريفية لكنهم مُسخّرون بالكامل لحماية الشركات الأجنبية. وكان الأكثر نفوذاً بينهم محامون لدى تلك الشركات. وما لبث الخارج، ممثلاً بالولايات المتحدة، أن تدخّل عسكرياً عام 1958، أي خلال العقد الثاني بعد الاستقلال، لمنع أي تغيير في الواقع القائم وللإبقاء على النخبة ذاتها. ثبت الستاتيكو القائم الذي يعطي أرجحية داخل النخبة للأطراف الأكثر ارتباطاً به.
ويظهر الفصل الرابع كيفية تعاطي النخبة السياسية والإقتصادية مع الريف اللبناني. فقد أصرّت هذه النخبة خلال الخمسينيات والستينيات، وهي التي استمرّت بفعل حماية الخارج لها، على إهمال الريف. وشذّ عن هذا الإجماع شخص واحد من النخبة هو كمال جنبلاط. قامت سلطة أفراد النخبة على توفير منافع خاصة لمن يدعمونهم. وقد جعل ذلك من هؤلاء نخبة غير معنية ببلورة سياسات وطنية للتنمية من أي نوع. وقفت هذه النخبة موقف المتفرّج أمام ما كان يجري من تهجير لأهل ريف لبنان، من دون أن يكون لها رأي في ما يحصل. وعلى امتداد سنوات ما قبل 1975 لم يصدر أي احتجاج واحد تحت قبة البرلمان على الموازنات السنوية التي كانت تجهد لتحقيق فائض في الموازنة، على حساب أي إنفاق تنموي تقوم به الدولة.
مثّل المهاجرون من الريف خلال عقد الستينيات وحده 689 ألفاً، أو ثلث شعب لبنان، كما أظهر ذلك المسح السكاني الذي أجرته مديرية الإحصاء المركزي ونُشرت نتائجه عام 1972. وخلف اليافطة البراقة لـ«سويسرا الشرق» والكلام التقريظي بشأنها كانت تجري على امتداد عقد الستينيات أعنف تجربة تهجير لأهل ريف لبنان، وكان هؤلاء يتخلون عن أرضهم التاريخية كما لو أنها أرض محروقة. كانت الخطوة التالية لكل هؤلاء الهجرة النهائية من لبنان لعدم توفّر عمل لهم. وقد احتكر الحديث عن القطاع المصرفي كل التأريخ الرسمي لتجربة لبنان حتى 1975. لم يُنظر إلى الخمسينيات والستينيات إلا بوصفها حقبة اجتذاب الرساميل العربية الهاربة وازدياد عدد المصارف وأزمة «إنترا» وهروب الرساميل و«عودة الثقة» بدءاً من 1970.
ويوضح الفصل الخامس كيف كان يجري خلال حقبة الستينيات ذاتها تحضير قسم من النخبة لأداء دور قوى «ثورة مضادة»، من خلال بناء «منظمات مضادة» للمعارضة ولحركات التحرر الوطني بوجه عام. وقد جاء بناء تلك المنظمات ترجمة لاستراتيجية التصدي لحركات التحرّر الوطني (counter-insurgency) التي انطوت عليها «عقيدة كينيدي»، وعملت الولايات المتحدة على وضعها موضع التنفيذ منذ الستينيات في مختلف أنحاء العالم الثالث. ويبيّن هذا الفصل كيف أن النصف الأول من السبعينيات أظهر عجزاً كاملاً للنخبة عن تحمّل مسؤولياتها كنخبة حاكمة. بدت نخبة «غير مسؤولة اجتماعياً»، تركت الريف يموت بتهجير أهله، ثم عجزت عن مواكبة الآثار التي تركها ارتفاع معدّل التضخم منذ مطلع السبعينيات، مع الآثار الفادحة التي خلّفها ذلك على صعيد غلاء المعيشة. وقد جعلتها تبعيتها للدول الغربية تتخلى عن أدنى موجبات الحفاظ على السيادة الوطنية لجهة التصدي للعدوان الإسرائيلي المستمر على أراضيها. أظهرت تلك الحقبة عمل هذه النخبة على قدم وساق على التحضّر لإشعال الحرب الأهلية، معوّلة في ذلك على «القوى من خارج الدولة» الممثلة بـ«المنظّمات المضادة». وذلك لحسم النزاع الداخلي بالقوة، والحفاظ على الستاتيكو القائم.
ويظهر الفصل السادس كيف آلت إلى «المنظمات المضادة» بالذات مسؤولية إشراع الحرب الأهلية عام 1975. أشرعت النخبة «حرباً تمويهية» بالتواطؤ مع الخارج، من أجل التصدي لقوى المعارضة الداخلية التي كانت تحتجّ على عجز الدولة وعدم مسؤوليتها. كان للخارج ممثلاً بالولايات المتحدة دوره المباشر في إطلاق هذه الحرب في نيسان 1975، وفي اختيار التوقيت. عكس هذا التوقيت رغبة الإدارة الأميركية في إلغاء أي دور لمنظمة التحرير الفلسطينية في التسوية للصراع العربي-الإسرائيلي التي كانت تعمل على فرضها. كان الهدف الداخلي للحرب الأهلية حماية النخبة الموالية للولايات المتحدة. وهو ما تحقّق في نهاية «حرب السنتين» من خلال فرض حالة «تقسيم على أساس أيديولوجي» للبنان دامت حتى 1990. تم إرساء حالة «التقسيم الأيديولوجي» تلك تطبيقاً لخطة الولايات المتحدة المعدّة منذ 1958، تحت اسم «فورترس ليبانون» أو «العرين». اقتضى ذلك إجراء عملية إغلاق للمناطق على بعضها البعض، وتحقيق تطهير سياسي وتطهير «إثني»، أي طائفي، طاولا مئات آلاف اللبنانيين.
ويبيّن الفصل السابع كيف أعطى الخارج حججاً لتبرير خفض سعر صرف الليرة على امتداد حقبة 1984-1992، من خلال دور صندوق النقد الدولي وبعثاته في تبرير هذا الخفض والتشجيع عليه. يقدّم هذا الفصل قراءة اقتصادوية بعض الشيء لتجربة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية خلال الحرب الأهلية. نأت القراءة بالكامل عن المقاربة النقدوية التي تهيمن في حقل النظرية الاقتصادية، واعتمدت مقاربة أقرب إلى فكر المؤسساتيين كـألبرت أوتو هيرشمان (هيرشمان، 1981). ركّزت على «النزاع على توزيع الدخل» (distributional conflict) لتفسير انهيار سعر الصرف. كان كلّ خفض لسعر صرف الليرة، أي كل رفع لسعر الدولار بالليرة اللبنانية، يخفّض القيمة الفعلية، أي بالدولار، لكتلة الأجور المدفوعة بالليرة. كانت للنخبة الاقتصادية مصلحة مباشرة في ذلك. يوضح الكتاب كيفية افتعال خفض سعر صرف الليرة في التعاملات اليومية في سوق القطع، لكنه يبقي مقصّراً عن تعيين المسؤولين عن الانهيار بالاسم.
يظهر النص كيف أن خضوع النخبة بالكامل لأيديولوجية «الاقتصاد الحر» جعل المصرفيين ومن يتعاملون معهم من النخبة يتولون افتعال الانهيارات المتلاحقة لسعر صرف الليرة على مدى 8 سنوات، من دون أي رادع، ويحدّدون وتيرة هذا الانهيار كما يحلو لهم. أقصى ما استطاعت النخبة التقليدية أن تفعله خلال حقبة انهيار سعر صرف الليرة هو إصدار قانون يمنع تسييل الذهب الموجود في احتياطي مصرف لبنان، مانعة بذلك شفطه بعد تسييله، بواسطة المضاربة في سوق القطع، من قبل فئة من السياسيين الضالعين في الحرب. لكن لم يوجد في هذه النخبة فرد واحد يشكّك في جدوى وصلاحية الإبقاء على نظام للصرف يجعل المضاربين في سوق القطع هم من يحدّد سعر صرف العملة ووتيرة انهياره، ويتسبّبون بآثار كارثية على اللبنانيين. وقد اختفت مدخرات شريحة كبيرة من اللبنانيين ممن لم يسارعوا إلى استبدال ليراتهم بالدولار في بداية الحقبة. وخلال 1985-1992 بلغ معدل التضخم الوسطي 140% سنوياً، وانهار الحد الأدنى للأجور إلى مستوى سبع دولارات شهرياً في آخر عام 1986. وتعاونت الحرب الأهلية مع انهيار سعر صرف الليرة لجعل رصيد الهجرة السنوي يقفز بعد عام 1986 إلى مستويات غير مسبوقة. وعام 1990، كان 990 ألفاً من أهل لبنان قد هاجروا.

3. دور الداخل ودور الخارج في حقبة ما بعد 1990

عوّل الكتاب على مساهمات منظّرين ينتمون إلى التيار الما-بعد كينزي كماريو سيكاريسيا ومارك لافوا (1989) ومختصين في التنمية كـهنري بريتون (1997) وها-جون شانغ (2009)، ومختصين في الاقتصاد السياسي كـ جان-فرنسوا ميدار (1982) وبوينو دو ماسكيتا (2000) ودارون أساموغلو (2004)، ومختصين في العلوم السياسية كـ غيللرمو أودونيل (1998) وفي العلاقات الدولية كـ كوستوفيكوفا وبوجيسيك (2009) وبلومكويست وآخرون (2011)، لفهم حقبة ما بعد الحرب.
تتحمّل النخبة السياسية والاقتصادية مسؤولية الإخفاق التنموي لحقبة ما بعد الحرب. ثمة رقم واحد يختصر هذا الإخفاق هو الـ 466 ألف لبناني، من الفئة العمرية بين 20 و35 عاماً، الذين هاجروا بين عامي 1992 و2007. يمثّل هؤلاء ثلث القوى العاملة اللبنانية. وقد هاجروا خلال 15 عاماً فقط. هذه النخبة هي تحالف طرفين يمثلهما الزعماء التقليديون من جهة، والتجار والمصرفيون من جهة أخرى. كان من سوء طالع اللبنانيين أن تجربة لبنان طوال حقبة ما بعد الاستقلال أعطت الأولوية للقطاع المصرفي ومن ورائه لمصالح أصحاب الريوع المالية على حساب المنتجين. قدّمت حقبة ما بعد الحرب تأكيداً جديداً على هذه الحقيقة.
وفّرت كتابات كينز نظرية لتوزيع الدخل (repartition) ومثّلت المرجعية النظرية التي لا مندوحة عنها لفهم الفارق بين «رأسمالية أصحاب الريوع المالية» (capitalisme de rentiers) و«رأسمالية أصحاب المشاريع» (capitalisme d’entrepreneurs).
ويوضح الفصلان الثامن والتاسع خصائص اقتصاد لبنان خلال حقبة ما بعد الحرب. أول هذه الخصائص تثبيت سعر صرف الليرة منذ 1993. كان هذا التثبيت أحد الأسباب الرئيسية لضرب نمو القطاعات المنتجة وذلك لأنه أخفى وراءه تحسّن سعر صرف الليرة تجاه عملات البلدان التي يتعامل معها لبنان في تجارته الخارجية. هذا ما رفع أسعار السلع المعدّة للتصدير، وأفقدها قدرتها التنافسية في الخارج. وقد فُرضت على المستثمرين شروط منعتهم من الاستثمار في قطاعات السلع المعدّة للتصدير (tradables). لكن هذا التثبيت كان له أثر «إيجابي» هو استقطاب التوظيفات المالية الآتية من الخارج. وهذا ما سعت إليه النخبة الاقتصادية ممثلة بالمصرفيين على وجه الخصوص.
الخاصية الثانية لتجربة لبنان بعد 1990، هي المديونية الحكومية التي ما فتئت تزداد طوال الحقبة، ملغية أي دور تنموي ممكن للإنفاق العام الذي بات يُخصص بمجمله لدفع فوائدها. أظهرت تغذية هذه المديونية والتكيّف معها من قبل النخبة الاقتصادية ممثلة بالمصرفيين، أن «أصحاب الريوع المالية» لهم مصلحة في الإبقاء على لبنان دولة رازحة تحت عبء الدين العام. وقد أتاح لهم ذلك التفرّغ لخدمة هذا الدين، وجعل من الدولة ومديونيتها الدجاجة التي تبيض ذهباً بالنسبة لهم.
كان تحصيل حاصل أن يتم بعد الحرب تحرير جذري للتبادل مع الخارج، وذلك تماشياً مع «النظام الاقتصادي الليبرالي الدولي» الذي كانت المؤسسات الدولية تعمل على إرسائه، وكإجراء «حسن نية» اعتمدته النخبة لكسب «ثقة» هذه المؤسسات وثقة الدول الغربية المعنيّة بفرض أجندة التنمية النيو-ليبرالية الطابع. وكان الهدف المباشر ضمان استمرار تدفق التوظيفات المالية من الخارج.
ويظهر الفصل العاشر كيف أن الخاصية الأهم لحقبة ما بعد الحرب كانت تهميش الإدارة الحكومية، من خلال الإصرار على إبقائها شاغرة، ورفض توفير صلاحيات تدخّلية لها في إدارة الاقتصاد. بقي أكثر من ثلثي المواقع الإدارية المدرجة في المِلاكات الدائمة للإدارة شاغراً طوال حقبة ما بعد الحرب. وقد وفّرت أيديولوجية الخصخصة شرعية لهذا التهميش. يعرض هذا الفصل الأبحاث المحدثة في ميدان الاقتصاد السياسي التي تُظهر كيف أن تخصّص السياسيين في توفير منافع خاصة لناخبيهم مقابل دعم هؤلاء لهم يجعلهم غير معنيين ببناء إدارة حكومية فعّالة، تأخذ على عاتقها بلورة سياسات حكومية توفر منافع عامة للمواطنين. بل هي تظهرهم معادين لأي تحسّن لمقدرة الدولة والإدارة العامة في إدارة الشأن التنموي، وذلك لأنهم يستمدون سلطتهم من المنافع التي يقدمونها وليس من هذه السياسات. وهم لا يحتاجون لفئة من المواطنين بكاملها، يجسدها المتخصّصون الذين يعوّل عليهم في بلورة وتنفيذ السياسات العامة، ويعبّرون عن ضيقهم الشديد بهؤلاء. وقد أظهرت هذه الحقبة أن دوام سيطرة السياسيين بعد الحرب، كـ«رؤساء شبكات محاسيب» وكــ«أصحاب سلطة محلية»، كان العائق أمام إجراء إصلاح إداري يعطي الإدارة العامة فعالية. وهي فعالية كانت سوف تتيح لو وُجدت اعتماد سياسات توفر منافع عامة للمواطنين، ووضع سياسة «تصنيع متأخّر» للبنان موضع التطبيق.
ويظهر الفصل الحادي عشر كيف أن لبنان شهد بعد عام 1990 انحسار رقعة «الدولة القانونية» (legal state) مقارنة بحقبة ما قبل 1975. وذلك بمعنى خصخصة السلطة لمصلحة الأقطاب المحليين، وتجيير هؤلاء القانون لمصلحتهم أو عدم اكتراثهم به. ويستند هذا الفصل إلى كتابات الباحث الكبير غيللرمو أودونيل، الذي بيّن أن انحسار رقعة «الدولة القانونية» كان قاسماً مشتركاً للعديد من البلدان بعد 1990 (أودونيل، 1993 و 1998). أظهر الفصل من جهة أخرى، أن تنعّم اللبنانيين بالحقوق السياسية، بمعنى الانتخابات، لم يترافق مع ضمان حقوقهم المدنية وأولها حقهم بالأمن. أي أن ممارسة الحريات السياسية كانت تتم على حساب الحقوق المدنية للمواطنين، وأولها الأمن. وقد اقتصرت الممارسة الديمقراطية على إجراء الانتخابات، من دون أن تتوفّر للناخبين القدرة على المحاسبة والمساءلة، بأشكالها العمودية والأفقية والمجتمعية. يخلص هذا الفصل إلى أن لبنان ليس ديمقراطية ليبرالية بالمعنى الغربي للكلمة، بسبب الافتئات الصارخ على حقوق مواطنيه المدنية، ولغياب المساءلة والمحاسبة من نظامه السياسي.
كان مآل السياسات الاقتصادية التي اعتمدت إضعاف الإدارة العامة وجعل الدولة فريسة سهلة للخارج (state weakening) يوظّفها في خدمة مشاريعه. يستعيد الفصل الثاني عشر ما قاله باحثون من جامعة جورج واشنطن من أن أفضل وصف لحالة لبنان هو أنه «ساحة حرب دائمة» (بلومكويست وآخرون، 2011). وقد اعتمد هؤلاء الباحثون لقراءة هذه الحالة مقاربة مدرسة «مونتريال» في العلاقات الدولية التي بلورت نظرية «اللعبة المزدوجة»، أي تواطؤ نخب محلية مع قوى خارجية لإشراع نزاعات تستفيد كلتاهما منها. وقد سلّط هذا التواطؤ على لبنان شبكة دولية/ إقليمية/ محلية (transnational network) تتولى افتعال أزمات متوالية فيه. وقد عبّر تدخّل الخارج المباشر في إدارة نشاط النخبة السياسية المحلية وإدارة مؤسسات عامة، من ضمن مشروع لتأجيج النزاع الأهلي، عن مستوى من التدخل لم يسبق أن عرف لبنان مثيلاً له. وكان يمكن أن يتحوّل النزاع الداخلي الذي أثاره الخارج، ممثلاً بالولايات المتحدة، مرّة بعد مرّة، إلى حرب أهلية فعلية. وقد جرى استغلال حادثة اغتيال العقيد سمير الحسن عام 2012 في محاولة لخلق خطوط تماس بين أحياء العاصمة، على قاعدة الفرز هذه المرّة بين سنّة وشيعة.

4. البديل التنموي

يوفّر الفصل الثالث عشر، في الجزء الأول منه، عرضاً للواقع الدولي وللواقع العربي الذي يشكّل لبنان جزءاً منه، منذ التاسع عشر. استُخدِمت في هذا العرض الأدبيات النظرية البنيوية وتلك العائدة لتيار المؤسساتية المقارنة وللتيار الما-بعد كينزي. واعتُمِدت مفاهيم التبعية والإمبريالية والعولمة لقراءة هذا الواقع. أظهر هذا الجزء أين هي مسؤولية الخارج وأين هي مسؤولية النخب الداخلية في استمرار واقع التخلّف والتبعية. وأخذ عن الباحث الكبير هينبوش تحقيبه للفترة الممتدة من التاسع عشر إلى اليوم إلى ثلاث حقب، أولها مرحلة العولمة الأولى، التي حصلت في ظل التوسّع الاستعماري الكاسح خلال التاسع عشر. وقد تبعتها بعد الحرب العالمية الثانية حقبة استقلالية نسبية لبلدان العالم الثالث. ومع انتهاء عقد السبعينيات بدأت حقبة عولمة ثانية جعلت من بلدان العالم الثالث، وأولها البلدان العربية، ضحيتها الأولى.
ويبيّن الجزء الثاني من الفصل أن التخلّف والتبعية لم يكونا قدراً بالنسبة لكل بلدان العالم الثالث بدون استثناء. وقد أمكن، على خلاف ما كانت تقوله «نظرية التبعية»، لبلدان عدّة أن تخرج من التخلّف وتصبح بلداناً صناعية متقدمة. كان بناء إدارات حكومية فعّالة هو العامل الأساس في تحقّق الإنجاز التنموي لهذه البلدان. يخلص هذا الجزء إلى أن الأمثولة الأهم التي ينبغي أخذها من النجاحات التنموية للقرن العشرين هي أن توفّر إدارة حكومية فعّالة هو الشرط الأول للتنمية. وهي أمثولة برسم لبنان وقواه الإصلاحية والتغييرية.
(مقدمة كتاب لبنان المعاصر: النخبة والخارج وفشل التنمية، بيروت، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، تموز 2017، 223 صفحة)
* أستاذ جامعي