قرر وزير العدل سليم جريصاتي أن يضرب هذه المرة تحت الحزام، فوجّه كتاباً الى النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود، طالبه فيه بـ«اتخاذ التدابير والإجراءات المناسبة لملاحقة المسؤولين عمّا تتعرض له الدولة اللبنانية بسلطاتها وإداراتها ومؤسساتها التنفيذية والأمنية والاقتصادية والمالية من حملة منظّمة وممنهجة من الشائعات عبر بعض وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، والتي من شأنها أن تؤدي الى زعزعة ثقة المواطنين بأمنهم وبالاستقرار السياسي الامني والاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي أرساه العهد الرئاسي بحكومة استعادة الثقة، فضلاً عن تناول هذه الشائعات متانة العملة الوطنية وثبات سعر صرفها والوضع المصرفي والسياسة المالية عامة، كما التداول بصفقات عرض المشاريع الإنشائية والإنمائية والخدماتية الكبرى، ما يزعزع أيضاً ثقة المواطن بدولته والمستثمر بمستوى استثماره في بلد ينام ويستيقظ على اتهامات الفساد من دون التثبت من صحة أو صوابية أي منها بالوسائل القانونية والقضائية المتاحة».
التدقيق في كتاب جريصاتي يقول لنا إنه لا يقصد ملاحقة أجهزة الاستخبارات الدولية وسفارات أميركا وبريطانيا وفرنسا وكندا التي «حذرت من أعمال إرهابية وشيكة»، ولا استدعاء السياسيين من وزراء ونواب الذين يتبادلون الاتهامات بشأن ملفات الكهرباء والميكانيك والمياه والبطاقة الممغنطة وأعمال البلديات ووزارات الخدمات العامة. وهو، حتماً، لا يقصد قادة القوى السياسية والفعاليات التي تستخدم الطائفية والمذهبية والشقاق وسيلة لتناحرها اليومي على المنابر.
جوهر ما قصده الوزير يرد في متن كتابه، عندما يطلب ملاحقة الذين يستهدفون «متانة العملة الوطنية وثبات سعر صرفها والوضع المصرفي والسياسة المالية عامة». وهو جوهر ما يهتم به المسؤولون في الآونة الاخيرة، بعدما ظهرت الى السطح حقائق عن الوضع النقدي والمالي السيّئين في البلاد، مع التأكيد هنا، أيضاً، أن جريصاتي لا يطلب من النيابة العامة استدعاء حاكم مصرف لبنان أو أعضاء المجلس المركزي أو أصحاب المصارف أو كبار المتموّلين لسؤالهم حول الأمر، بل هو كان واضحاً في أنه يريد ملاحقة المسؤولين عن «حملة منظمة وممنهجة من الشائعات عبر بعض وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي».
وهذا ما يوجب مصارحة الوزير بما يجب أن يسمعه:
أولاً، إن هذا الكتاب يستهدف تحريك القضاء بقصد ترهيب الناس وأصحاب الرأي في البلاد، واعتبار كل نقد للسياسات المالية والاقتصادية تعريضاً للاستقرار العام للخطر. وهو، هنا، يطلب عملياً من القضاء ملاقاة هواجس حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، باعتبار كل ورقة بحث علمية أو أكاديمية، تطال السياسة النقدية، مؤامرة على البلاد وعلى الاستقرار الاقتصادي العام.
ثانياً، إن كتاب وزير العدل يعيدنا الى زمن فرض الوصاية على كل بحث علمي أو أكاديمي. وفيه تهديد صريح لأشخاص مثل الباحث والخبير توفيق كسبار، الذي قدم ورقة حول الواقع المالي والنقدي في لبنان (نشرتها «الأخبار»)، وإشعاره بأن التداول بهذه الأوراق أو هذه المعلومات يجب أن يخضع لموافقة مسبقة من السلطات المعنية، سياسية أو مالية، ما يعزز الاقتناع بأن جريصاتي إنما يريد استخدام القضاء كوسيلة لترهيب هؤلاء الباحثين، واستدعائهم الى تحقيقات، يختلط فيها سؤال المستدعى عن سبب ما قاله أو كتبه، بالتمنّي عليه عدم التطرق الى هذه المواضيع، كي لا يتّهم بزعزعة استقرار البلاد.
ثالثاً، إن الكتاب يريد مجاراة حاكم المصرف المركزي في حملته الدعائية أو غيرها، من أجل الإطباق على الإعلام ومنعه من أي نقاش حول ما يقوم به من سياسات نقدية جعلت البلاد تقع تحت عبء هائل من الديون، ووسّعت الهوة بين الفئات الاجتماعية. ويبدو كتاب الوزير ملبّياً لرغبة الحاكم ليس حجب المعلومات بحجة السرية المصرفية، بل تهديد الإعلام والإعلاميين والباحثين، من نشر أيّ وثائق باعتبارها خاضعة للسرية المصرفية.
رابعاً، يحاول جريصاتي في كتابه اعتبار كل نقاش مجرد شائعات أو حملة منظمة تستهدف العهد. وهو، هنا، يفعل تماماً ما قام به البعض الذي يسعى لإقناع الرئيس ميشال عون بأن النقاش النقدي مع سياسات المصرف المركزي، إنما هدفه دفع البلاد الى فوضى وانهيار مالي وتدهور في سعر النقد، وأن هذا الهدف سيصيب العهد قبل أي أحد آخر. وهذه الحملة التحريضية ربما تكون خلف بيان الرئيس عون الذي دعا المواطنين الى «اليقظة وعدم الانجرار وراء شائعات تستهدف زرع الشك باستقرار العملة الوطنية، الى اتهام بعض أركان الدولة بالفساد».

كتاب الوزير يجاري الحاكم في حملته للإطباق
على الإعلام ومنعه من نقاش سياسات نقدية جعلت البلاد تحت عبء هائل من الديون


خامساً، إن الكتاب، كما تدل صياغته، يستهدف كمّ الأفواه، ومنع الصحافة من القيام بدورها ومنعها من مساءلة أركان السلطات في البلاد، بمن فيهم الحاكم المطلق، سيما أن الوجهة معروفة، وهي مزيد من حجب المعلومات عن الجمهور، وترهيب الإعلاميين من مغبّة السعي الى الحصول على هذه المعلومات ونشرها أو التداول بها عبر وسائل التواصل المختلفة.
يحتار المرء بأي أسلوب يناقش وزير العدل؛ هل يدعوه الى التفرغ لمهماته الأساسية في تحسين وضع وزارة العدل، والى عدم التدخل في مداولات مجلس القضاء الأعلى، وعدم التدخل مع قضاة التحقيق في ما بين أيديهم من أوراق عمل، أو ضمان احترام المؤسسات الخارجية سيادة لبنان، من المحكمة الدولية التي يلاحق الوزير طلباتها التي تنتهك يومياً حقوق المواطنين على اختلافهم؟!
أليس هناك من يضع حداً لهذه المهزلة، أم ان هناك من يريد وضع الإعلام في مربع الاتهام بتعريض استقرار البلاد للخطر؟
مع ذلك، وجب لفت انتباه الوزير ومن يدعمه في خطواته هذه إلى أن زمن حجب المعلومات قد ولّى الى غير رجعة، وأن زمن ترهيب الإعلاميين، وصولاً الى الباحثين والخبراء، قد ولّى أيضاً، وأنه يجدر به (وهو الخبير الدستوري) تذكّر دوره في حماية حقوق المواطنين الذين وُضع الدستور لحمايتهم من تعسّف السلطات على اختلافها.