باريس | قبل خمسة أيام من استحقاق انتخابي يُرتقب أن يكون امتحاناً صعباً للرئيس إيمانويل ماكرون، تشهد فرنسا حالياً «أسبوع احتجاج» يخشى أنصار حزب «إلى الأمام»، الموالي لماكرون، أن يتحول إلى «أسبوع آلام» من شأنه أن يفضي إلى هزيمة مفجعة للأغلبية الرئاسية في انتخابات تجديد نصف أعضاء الغرفة البرلمانية الثانية (مجلس الشيوخ)، التي ستجرى هذا الأحد. «أسبوع الآلام» الماكروني كان قد افتتحه سائقو شاحنات النقل، أول من أمس، بحركة احتجاجية عرقلت السير لساعات طويلة عند مداخل العاصمة باريس والعديد من المدن الأخرى. نقابات سائقي الشاحنات اعتبرت هذه الحركة مجرد «إنذار أولي» للحكومة، محذرين من موجة احتجاجات أكثر راديكالية في شكل إضراب مفتوح، بداية من 25 أيلول الحالي، إن لم تستجب السلطات لمطالب هذه النقابات المتعلقة بتعطيل بعض بنود قانون تعديل تشريعات العمل التي يعتبرها سائقو الشاحنات مجحفة بحقهم.
ويتوعد هؤلاء بأن هذا الإضراب سيفضي إلى شل عمل محطات التزود بالوقود وعرقلة حركة النقل، ما يهدد بتعطيل حركة الاقتصاد والتجارة في البلاد، على غرار ما حدث خلال إضرابات سائقي الشاحنات ضد حكومة آلان جوبيه في خريف عام 1995.
في انتظار امتحان إضراب 25 أيلول، ستتوالى الاحتجاجات هذا الأسبوع من خلال موجتين من التظاهرات. الأولى ستجرى غداً بدعوة من «النقابة العامة للعمل» CGT، التي سبق لها أن نظمت موجة أولى من التظاهرات ضد قانون تعديل تشريعات العمل في 12 أيلول. أما الثانية، فستجرى يوم السبت، بدعوة من زعيم «فرنسا المتمردة»، جان لوك ميلانشون، الذي ناشد «شعب اليسار» «الزحف على العاصمة باريس، احتجاجاً على الانقلاب الاجتماعي الذي يحضّر له ماكرون وحكومته».
بالنظر إلى حجم الحشود التي عادة ما تستقطبها تجمعات «فرنسا المتمردة»، يترقب المحللون أن تكون هذه التظاهرة بمثابة استفتاء شعبي على سياسات الرئيس ماكرون، وخاصة أن توقيتها اختير بعناية، إذ إنها ستجرى قبل 24 ساعة فقط من موعد انتخابات تجديد نصف أعضاء «مجلس الشيوخ».
المعارضون لماكرون يطمحون إلى أن يسهم «أسبوع الاحتجاجات» هذا في حشد جموع الناقمين للضغط على «كبار الناخبين» (أعضاء المجالس البلدية والمحلية الذين تعود لهم صلاحية الاقتراع لتجديد أعضاء مجلس الشيوخ) وتأليبهم ضد سياسات الحكومة الحالية. وبالتالي إخضاع الرئيس ماكرون لأول هزيمة انتخابية، بعد خمسة أشهر فقط من توليه الحكم.
بالرغم من أن حزب ماكرون يحظى بالأغلبية المطلقة في الغرفة البرلمانية الأولى (المجلس الوطني)، إلا أن انتخابات مجلس الشيوخ لها أهمية استراتيجية بالنسبة إليه. ففي شهر يوليو/ تموز الماضي، كشف رئيس الكتلة البرلمانية لحزب ماكرون، فرنسوا باتريا، عن خطة الحزب التي قال إنها تهدف إلى كسب ما لا يقل عن 50 مقعداً جديداً في مجلس الشيوخ (من مجموع 170 مقعداً يشملها التجديد في انتخابات هذا الأحد)، من أجل «منح الرئيس ماكرون أغلبية تضاهي ثلاثة أخماس المقاعد في غرفتي البرلمان، ليتمكن من تجسيد التعديلات الدستورية التي وعد بها في برنامجه الانتخابي». ويعدّ نصاب ثلاثة أخماس المقاعد ضرورياً للمصادقة على أي تعديل دستوري في فرنسا، حيث يجرى التصويت خلال اجتماعات استثنائية لـ«الكونغرس»، الذي يضم نواب البرلمان بغرفتيه، ويلتئم في قصر فرساي.
لكن تراجع شعبية الرئيس، خلال الشهرين الماضيين، على خلفية اتساع رقعة الناقمين على سياساته الاقتصادية، جعل التوقعات بخصوص عدد المقاعد التي يُرتقب أن ينالها حزبه في اقتراع هذا الأحد تتراجع بشكل حاد، إذ تشير الاستطلاعات الى أن الحزب الماكروني لن ينجح حتى في الحفاظ على الـ 25 مقعداً التي تحظى بها كتلته حالياً في مجلس الشيوخ. وهي مقاعد لم ينلها عن طريق الاقتراع، بل عبر استقطابه منشقين عن الحزب الاشتراكي وعن حزب الجمهوريين، بعد فوز ماكرون بالرئاسة.

تراجعت شعبية الرئيس على خلفية تزايد أعداد الناقمين على سياساته الاقتصادية

إذا صدقت هذه التوقعات، فإن ماكرون لن يستطيع إمرار أي تعديل دستوري من دون التحالف مع الأحزاب السياسية الأخرى، علماً بأن صلاته بأغلب حلفائه السابقين، سواء من اليمين أو الوسط أو اليسار، تدهورت كثيراً في الأشهر الماضية، بسبب لجوئه إلى استقطاب لفيف واسع من المنشقين، من مختلف الأحزاب بهدف تقويض نفوذ تلك الأحزاب، بدلاً من إقامة تحالفات معها.
أنصار ماكرون يخشون أيضاً من البعد الرمزي الذي ستكتسيه هذه الهزيمة المتوقعة في انتخابات مجلس الشيوخ، إذ إنها ستظهر للرأي العام بمثابة رفض شعبي للإصلاحات الماكرونية، ما سيقوي حراك الناقمين، وخاصة أن الموجات الاحتجاجية لن تقتصر على «أسبوع الآلام» الحالي. فإضراب سائقي الشاحنات الذي سيبدأ بعد يوم واحد من انتخابات مجلس الشيوخ (25 أيلول)، ستليه بعد ثلاثة أيام تظاهرات هي الأولى من نوعها في فرنسا للمتقاعدين عن العمل، ستقام بدعم من ائتلاف واسع يضم 9 نقابات. وبعدها بأقل من أسبوعين، ستنتقل موجة الاحتجاجات إلى قطاع التوظيف العمومي، من خلال تظاهرة كبرى لعمال القطاع العام ستقام يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول القادم.
هذه الموجات الاحتجاجية، في مختلف القطاعات الاقتصادية الاجتماعية، تعكس استياءً شعبياً متزايداً من سياسات ماكرون وحكومته. فقد بيّن استطلاع أجرته أمس مؤسسة Viavoice لسبر الآراء أن 53٪‏ من الفرنسيين يرون أن سياسات ماكرون منحازة للفئات الأكثر ثراءً، مقابل 11٪‏ فقط للفئات الشعبية، و9٪‏ لفئات الشباب، و2٪‏ للمتقاعدين. ووفق الاستطلاع ذاته، فإن 43٪‏ من الفرنسيين يرون أن سياسات ماكرون ذات توجه يميني، مقابل 6٪‏ فقط ممن يعتبرونها يسارية، فيما يرى 20٪‏ أنها سياسات غير متناسقة وغير واضحة المعالم.





لن أرضخ أمام الكسالى!

يشكّل مشروع تعديل تشريعات العمل الذي تعتزم حكومة ماكرون المصادقة عليها بشكل نهائي في اجتماع مجلس الوزراء الذي سيعقد يوم الجمعة، السبب الرئيسي لتنامي النقمة الشعبية ضد سياسات ماكرون. إذ يرى 68٪‏ من الفرنسيين – وفق استطلاع Via Voice ــ أن هذه التعديلات تشجع على فصل العمال لا على توظيف المزيد منهم، ويرى 65٪‏ أنها تهدف إلى إضعاف دور النقابات وقدرتها على الدفاع عن حقوق العمال. بينما يرى 60٪‏ أن هذا القانون سيؤدي الى تدهور ظروف العمل وإفراز المزيد من البطالة.
لكن ماكرون تعامل مع هذه النقمة الشعبية بكثير من الفوقية، إذ صرّح قبيل موجة التظاهرات الأولى، في 12 أيلول الجاري، قائلاً: «لن أرضخ أمام الكسالى». وحاول تخفيف نبرته، مع بدء «أسبوع الاحتجاجات» الحالي، قائلاً: «إنني أستمع إلى هذا الغضب الشعبي»، لكنه سرعان ما استدرك، مهدداً بأن «سماع الغضب لا يعني الاستسلام أمامه».