من دون إشارة مباشرة إلى «الحزب الإسلامي التركستاني» صنو «جبهة النصرة» وحليفها القوي في مسيرة هيمنتها على محافظة إدلب، حطّ اتفاق «خفض التصعيد» رحاله أخيراً في المحافظة الشماليّة. وبعد ستّ جولات متباعدة زمنيّاً مترابطة «تكتيكيّاً»، فتح مسار أستانا أخيراً ثقباً في الجدار «الجهادي» الذي سوّر إدلب منذ أكثر من عامين، ليدخل أبو محمّد الجولاني مرحلة تبدو أسوأ أيّامه السوريّة على الإطلاق. الزعيم المتطرّف الذي هلّلَ له كثرٌ، وامتدحه «شركاء» في المعارضة، ودعمته أجهزةٌ ودولٌ، يختبر اليوم ما اختبره قادة «جهاديون» سابقون من التحوّل إلى «كارت» محروق. قبل سنوات، كانت «جبهة النصرة» في نظر «الداعمين» بمثابة «حصان أسود» قادر على قلب موازين أي معركة بمجرّد دخولها. فُتحت حدودٌ وسُخّرت وسائل إعلام لخدمتها، وأُغدقت أموال وعُقدت صفقات تسليح على «شرفها».

اليوم تغيّرت الظروف والمعطيات ميدانيّاً كما سياسيّاً، فتوافق الجميع على «إرهاب النصرة»! الانقلاب لم يحدث فجأة، دُقّت المسامير في نعش «النصرة» على مراحل، وبالتزامن مع تحولات المشهد السوري. «صبر دمشق الاستراتيجي» أثبت نجاعته، وتماسُكُ تحالفاتها آتى ثماره.
في المقابل، تخلّى «رفاق الأمس» عن الجولاني. هل هناك حاجةٌ للتذكير بأنّ وزير خارجية دولة كبرى (لوران فابيوس وزير خارجية فرنسا سابقاً ورئيس المجلس الدستوري حالياً) كان قد قال قبل سنوات إن «مقاتلي النصرة أشخاص رائعون ويقومون بعمل عظيم في سوريا»؟ أو هل ثمّة داعٍ للتذكير بأنّ معارضاً «بارزاً» شغل منصب «نائب رئيس الائتلاف» المعارض وكُلّف فترة بترؤسّه (جورج صبرة) كان قد استغربَ تصنيف «النصرة» على لوائح الإرهاب؟ هذا عالم يتناسى سريعاً، وعلى الأرجح أنّ زعيم «النصرة» وحده يتذكّر الآن كلّ «الداعمين» سرّاً وعلناً، ويشتم جحودهم. وعلى الرغم من أنّ الجولاني تسلّح بـ«براغماتيّة» خوّلته التظاهر بـ«فك الارتباط» مع التنظيم الأم «القاعدة» والدخول في تحالفات والخروج من أخرى، غير أنّ كلّ ذلك لا يبدو مفيداً في لعبة النهايات. المفارقة أنّ الجولاني مُطالبٌ اليوم بتقديم تنازل جديد، لا يُعتقد أنّه سيرضى به. فبالتزامن مع نضوج «طبخة إدلب» على نار (ليست) هادئة، كان زعيم «فتح الشام» قد استقبل مندوبين و«ناصحين» عرضوا عليه «مَخرجاً مُشرّفاً»! وعلمت «الأخبار» عبر مصادر «جهاديّة» عدّة أنّ العرض المذكور ليس سوى «خروج الشيخ الجولاني بتسجيل صوتي يُعلن عبره وصول المشروع الجهادي في الشام إلى حائط مسدود بفعل تضافر مسببات عدة، على رأسها المؤامرات». العرض الذي ما زال سارياً حتى الآن يضمن للجولاني في المقابل «مصلحةً للمسلمين من أبناء إدلب هي تجنيبُهم الويلات»، ومصلحة أخرى شخصيّة «تضعه في منأى عن الخطر وتضمن له غضّ نظر عن انتقاله خارج بلاد الشام». موقف الجولاني (حتى الآن) رفض «الصفقة» كما هو متوقع. وعلاوة على الأسباب التي يؤكد أحد المصادر لـ«الأخبار» أنّها تتمحور حول «الموقف الشرعي الذي يُحتّم التمسّك براية الجهاد»، يبدو أن ثمّة أسباباً أخرى أكثر جوهريّة ترتبط بخسارة الجولاني رصيده لدى معظم قادة الصف الأوّل في تنظيم «القاعدة»، منذ إقدامه على إعلان «فك الارتباط». في المقابل، ثمّة ضغوطات شديدة يرزح تحتها «رجل الأمس القوي» قد تدفعه إلى البحث عن «حل وسط» أو حتى الرضوخ للعرض الأخير. وعلى رأس تلك الضغوطات تأتي رسائل تركية «شديدة اللهجة» تحمل في طيّاتها تهديداً مبطّناً بتسهيل استهدافه وتصفيته، تضاف إليها مواقف عدد من الشخصيّات «البارزة» داخل «النصرة». وترى هذه المواقف أنّ على الجولاني القبول بما هو مطلوب منه لـ«ما فيه مصلحة عامة المسلمين». ولا يبدو مستغرباً، إذا ما تمسّك الزعيم «الجهادي» برفصه، أن نكون على موعد مع خروج مواقف تلك الشخصيات إلى العلن، سواء عبر إصدار تسجيلات تطالبه بـ«حل النصرة»، أو عبر تسريبات تشابه تلك التي تزامنت أخيراً مع زعزعة «البنية الداخلية» لـ«هيئة تحرير الشام». ولا تقتصر مظاهر الزعزعة على انشقاق «حركة نور الدين زنكي» ومن بعدها «جيش الأحرار» عن «الهيئة» أو استقالة بعض «الرموز» وعلى رأسهم السعودي عبدالله المحيسني، بل تتعداها إلى عودة رحى الاغتيالات إلى الدوران، مستهدفة أشخاصاً مؤثرين في المحيط الاجتماعي المؤيّد لـ«النصرة». يضاف إلى ذلك تصاعد الضغط الاجتماعي الذي يُتوقّع أن يفرز قريباً حركة تظاهرات ضخمة ضدّ «الجبهة» مدفوعة بعوامل عدّة، من بينها تحريك جهات خارجية لها، وتزايد العداء الذي تكنّه معظم المجموعات المسلحة في إدلب لـ«فتح الشام»، وخاصة بعد تغوّل الأخيرة وشنّها معارك على معظم الجبهات الداخلية. ومن الممكن أن يقود التفصيل الأخير إلى جولة جديدة من جولات الاحتراب «المعارض» في إدلب، لكن بشروط لعبة مختلفة هذه المرّة تمنحُ دعماً مؤثّراً كبيراً للمجموعات ضدّ «إرهاب النصرة»، قد يصلُ إلى حدّ توفير غطاء جوي، مع ما يعنيه هذا من منح تلك المجموعات «شرف المشاركة في محاربة الإرهاب»! ويتيحُ اتفاق «خفض التصعيد» الخاص بإدلب الفرصة لتقسيم المحافظة إلى قطاعات جغرافيّة تبدو ترجمة فعلية لمصطلح «عزل النصرة». ومن المتوقع أن يترافق تنفيذ الاتفاق مع تكثيف الجيش السوري وحلفائه استهداف مناطق سيطرة «النصرة» في ريف حلب الغربي على وجه الخصوص، ما من شأنه أن يضع «النصرة» تحت مزيد من الضغوطات الميدانيّة. ولا يعني هذا أنّ «النصرة» في طريقها إلى خسارة مناطق سيطرتها في إدلب سريعاً بالضرورة، حيث تبسط «الجبهة» المتطرفة هيمنتها على مساحات كبيرة كسبتها في جولات الاحتراب المتتالية، فيما تقتصر مساحة «خفض التصعيد» على جزء من المحافظة فحسب.