عندما يتحدث جيش كبير وقوي ومحترف عن مناورة شاملة، فهذا يعني أنه يدفع بدولته وقسم كبير من شعبه للمشاركة في عمل غير اعتيادي، وهو عمل يؤثر في حد ذاته على حياتهم، وله بعده المصيري بالنسبة إليهم. ولذلك، فإن الأداء الذي يظهره الجيش وأذرعه في المناورة سيترك تأثيره الحاسم على معنويات الجمهور، وعلى وعي الخصم.
في إسرائيل، تقرر إجراء مناورة استثنائية في الشمال، تجرى خلالها محاكاة حرب مفتوحة مع حزب الله. واستند المخططون الى معطيات سياسية وأمنية وعسكرية، دفعتهم الى إشراك جميع أذرع الجيش في المناورة، وإلى تحشيد ما يقارب ثلاث فرق في جميع مراحلها. وعندما نتحدث عن نحو أربعين ألف ضابط وجندي، فهذا يعني، ببساطة، أنه الحجم الفعلي للقوة التي يمكن أن تشارك في أي حرب حقيقية، حتى لو أضفنا إليها نحو عشرين ألفاً ينتظرون في الجانب الخلفي للدعم أو للمشاركة.
ومع أن طبيعة المناورة تستلزم استخدام كل ما يتصل بعناصر المعركة المحاكاة، فإن من الطبيعي أن لا يظهر جيش العدو كامل قدراته النارية والعملانية، كما لا يمكن أن يظهر كامل برامجه التكتيكية ومعلوماته الاستخبارية، ولا سيما أن العدو يعتقد – بل يؤمن – بأن العدو الذي تحاكي المناورة الحرب معه، أي حزب الله، يقف على الجانب الآخر من الحدود، ويقوم بعملية رصد ومراقبة لتفاصيل هذه المناورة، وأنه يدرس كل حركة يقوم بها الجيش وأذرعه.
في هذا الجانب يمكن القول، ببساطة، إن طبيعة الاستنفار الذي نفذته المقاومة منذ الإعلان عن بدء المناورة، والمستمر، فرض آليات عمل تأخذ في الحسبان مجموعة من الاحتمالات، ما يعني أن العدو دفع بالمقاومة الى تنفيذ مناورة في مقابل مناورته، لكنها مناورة غير ابتدائية، أي أن خطواتها مرتبطة بما يقوم به جيش العدو، وليس أي شيء آخر. وبالتالي، فإن ما شاهده العدو من طبيعة استنفار المقاومة لا يعدو كونه عنصر المطابقة مع ما يتطلبه الواقع الذي فرضته المناورة، ولا صلة له البتة بعناصر القوة التي تظهرها المقاومة في حالة الحرب الحقيقية، وخصوصاً البند الأكثر قلقاً للعدو والمسمى «عنصر المفاجآت»، والذي يظل عنصر التفوق الدائم للمقاومة على خصومها في إسرائيل وساحات أخرى.
وفي هذا السياق، يفترض أن العدو يحاكي حرباً مع حزب الله بنسخته الحالية، أي حزب الله ــ 2017، وليس حزب الله ــ 2006. وأهمية هذه النقطة، لا ترتبط فقط بحجم التطور الذي طرأ على منظومات المقاومة، بل لكون العدو احتاج الى عشر سنوات، على الأقل، حتى اكتشف جوهر العقيدة القتالية للمقاومة معه، والقائمة على فكرة المفاجآت. ومنذ مواجهة نيسان 1996، حتى مواجهات عام 1999، حتى الانسحاب عام 2000، وصولاً الى الحرب الكبيرة عام 2006، كانت إسرائيل تخرج صارخة: لا نعلم عن حزب الله الكثير. وهو ما فرض عليها تغييراً استراتيجياً، قائماً على تعزيز عملها الاستخباري في مواجهة المقاومة خلال العقد الأخير. ويمكن القول، إنصافاً، إن العدو بذل جهداً جباراً، وغير مسبوق، في الحرب الاستعلامية عن المقاومة، وأنفق مليارات الدولارات على عمل تقني وبشري ودعائي بقصد التعرف أكثر إلى المقاومة وطريقة تفكيرها وإلى منظوماتها القتالية والبشرية. لكن، هل يقر العدو اليوم، في أيلول 2017، بأنه لا يملك إجابة عن سؤال بسيط: من يعرف أكثر عن الطرف الآخر، حزب الله أم إسرائيل؟
صحيح أن العدو كان يراقب تراكم القدرات القتالية للمقاومة منذ 2006 حتى 2011، لكنه صار مضطراً إلى إدخال تعديلات نوعية شبه يومية، بسبب انتقال المقاومة الى مرحلة تعاظم الخبرات القتالية والأمنية، والتي استوجبت منه، أيضاً، تعزيز موارده البشرية. بالإضافة الى أن الحروب في سوريا والعراق واليمن، أتاحت له الوصول الى منظومات قتالية ربما لم تكن متوافرة من قبل، كما أنها وسّعت كثيراً من هامش مناورته العسكرية على صعيد الجغرافيا والساحات، وعلى صعيد حشد القوات التي ستكون منخرطة معه في مواجهة أي عدوان إسرائيلي جديد.
عملياً، يمكن اختصار ما يجري، حتى الآن، بالقول إن المناورة ظلت ناقصة، كونها لم تكشف المستور في أدوات الحرب المقبلة. لكنها مناورة هدفت (مهنياً) الى اختبار جاهزية جيش الاحتلال، وسدّ الثغرات القائمة في منظوماته القتالية والأمنية، وقد تكون نجحت في ذلك، علماً بأن التجربة لا تؤكد أن العدو يستفيد فعلياً من الدروس.
أما الهدف الثاني، فكان تحويل المناورة الى رسالة ردعية ترهب حزب الله وتخيفه، وهو ما فشل حتماً!
يبقى، أنه يمكن النظر الى نجاح ما قد يكون العدو حققه لبنانياً، إذ بدا لنا خلال الأيام القليلة الماضية أن المناورة رفعت معنويات فريق لبناني يسعى الى تكريس التطبيع مع العدو، وخصوصاً في الجانب الثقافي. ولذلك، يمكن اعتبار أن مشاعر التفوق التي ظهرت على «فنان التطبيع» زياد دويري ومن يدعمه في الحكومة وخارجها، هي ما دفعهم الى الإقدام على خطوة يعتقدون أنها ستمرّ من دون حساب. لكن هؤلاء جميعاً سيكتشفون، كما العدو، أن مآلات الأمور هي حكماً في وجهة أخرى!