من باب الإنصاف لا الدفاع عن ياسر عرفات، لا بدّ من ذكر وكر الأفاعي، واسمه الأنظمة العربية التي كان عرفات مضطراً إلى التعامل معها، ومن على أرض متحركة ليست أرضه، سواء في الأردن العميل أو لبنان الماروني والطائفي عموماً. وطبعاً سوريا ومصر أغلقتا حدودهما، ولا أحد يقترب منها، فيما اشترت دول الخليج راحة رأسها بالمال، كما أمرها هنري كيسنجر الذي رأى المال مفسدة للنضال، وهو ما حصل مع كثيرين، وليس مع الجميع.
ويا حبذا لو أن الكاتب اللبناني إلياس خوري يُفرج عن مذكرات الشهيدة دلال المغربي، التي سلّمه إياها الشهيد أبو جهاد، على أمل أن يستعملها أو يحوّلها إلى رواية. في تلك المذكرات ما يصف الوضع بكل ما فيه من بطولات وخيانات، إن لم يكن للوطن، فللنفس من جماعة الأبوات.
ياسر عرفات كان عبقرياً بحيث إنه تمكن من التعامل مع الأنظمة العربية الخائنة والغادرة في الوقت نفسه، واستطاع أن يحمي الثورة قدر المستطاع، رغم كل المؤامرات من الصديق والعدو والأخ الشقيق. ولكن بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وبعد التشرّد مجدداً، وبعد اغتيال كل من حول ياسر عرفات، وبعدما وجد عرفات نفسه وحيداً في القمة العربية في الأردن عام ١٩٨٧، حين لم يقبل أي زعيم عربي أن يتحدث معه على أساس أن المنظمة انتهت، وأن العرب سيتحدثون باسم الفلسطينيين في المفاوضات المقبلة مع إسرائيل. إلا أن وقوع الانتفاضة في كانون الأول من العام نفسه أعاد خلط الأوراق، وقلب المعادلة نسبياً بحيث استطاع عرفات أن يعيد تعويم نفسه وأن يجد له كرسياً في باص السلام والاستسلام العربي الزاحف نحو مدريد ومنها نحو أوسلو. بمعنى آخر، هل فعلاً قام أهلنا العرب والمسلمون في الدول العربية والإسلامية باحتضان قضية فلسطين وفتح الحدود لكل مقاوم وبذل الغالي والرخيص في سبيل تحرير فلسطين، وحصل تقصير من ياسر عرفات أو منظمة التحرير؟ ولكن بدلاً من التفرغ لمقاومة إسرائيل، كان على عرفات التفرغ للتعامل مع الأنظمة العربية وحماية شعبه في المخيمات، من الأردن إلى صبرا وشاتيلا إلى حرب المخيمات التي ما زلنا لا نعرف كيف حصلت ولماذا حصلت. العرب دفعوا عرفات دفعاً نحو أوسلو، لكي يقولوا بعدها بكل راحة ضمير: «إننا نرتضي للفلسطينيين بما يرضونه لأنفسهم»، وأن يقولوا: «لا نستطيع أن نكون ملكيين أكثر من الملك». هذه أنظمة عميلة خبيثة النفس، وما تعلمناه من خلال تجربتنا أو تجربة اللاجئين السوريين، وحتى العاملات المنزليات من جنوب شرق آسيا اللواتي ينتحرن يومياً بمجرد الاحتكاك والعمل مع العرب، فإنني أستطيع أن أقول إن طريقة التعامل الوحيدة مع العرب هي من موقع قوة لأنهم ما زالوا في مرحلة أقرب فيها إلى شريعة الغاب حيث القوي يأكل الضعيف والكبير يعتدي على الصغير. هذه بلاد أما أنها فقدت إنسانيتها، أو أنها لم تصل إليها بعد. خيرة شباب المخيمات كانت تذهب في عمليات فدائية من أجل تحرير فلسطين، فكانت النتيجة عند العرب أن الفلسطيني يريد أن يتوطن في الأردن أو في لبنان، هذا هو الاستنتاج المنطقي والعلمي والموضوعي المجرد حسب المستوى العقلي العربي. أولادنا يستشهدون لكي نستوطن في كسروان، فيما أهل البلد يسابقون الجميع على الاصطفاف أمام أبواب السفارات الأجنبية، وهم فعلوا ذلك قبل أيام الثورة وخلالها وبعدها وحتى يوم القيامة، لأن تلك البلاد لا خير فيها لأحد، لا لابن البيت، ولا للأخ الشقيق، ولا للقريب أو الصديق. هي بلاد مفتوحة ومستباحة للحاكم العربي وأولاده وللسيد الأميركي وجيوشه.
ما علينا إلا أن نقبع مرتعدي الفرائص فيما نحن نراقب حساباتنا في المصارف

خلال حرب عام ٢٠٠٦ الإسرائيلية على لبنان، أذكر أن سيدة جنوبية حين شاهدت الخراب الذي حلّ بقريتها وبيتها من القصف الإسرائيلي، قالت: «فدى حذاء السيد حسن»، وهي عاطفة عظيمة وصادقة ومخلصة. ولكن لم أستطع إلا أن أسأل نفسي أنه لو تلك السيدة أو غيرها من أهلنا العرب، قام وقال بعد أي قصف إسرائيلي «فدى فلسطين» لا نريد فدى عرفات، بل فقط فدى فلسطين أو فدى القدس، لو حصل هذا لكنّا الآن قد انتهينا من إسرائيل. وما يزيد إعجابي بشخصية ياسر عرفات هو حين أرى وأسمع ما تعانيه المقاومة الإسلامية في لبنان على أيدي اللبنانيين، رغم كل قوّتها وقدراتها. حين أرى الألم الذي يخرج مع كلمات السيد حسن نصرالله، وهو يحاول أن يطرّي الأمور مع فئات لا تعرف إلا بخيانتها وعمالتها لإسرائيل وأميركا. حين يتطاولون عيله كشخص وكحزب وكمقاومة، وهو يحاول أن يسترضيهم لأنه يعرف أنهم يحاولون جره إلى الفخ الذي وقع فيه ياسر عرفات بتحريض من كمال جنبلاط. فخ اسمه الحرب الأهلية التي هي كل ما يريده عملاء إسرائيل في لبنان، والذين يقولون علناً إنه ما من مشكلة في تدمير لبنان لأنه بوسعنا أن نعيد بناءه، ولكن المهم أن نتخلص من الحزب والمقاومة الإسلامية، تماماً كما دمروا لبنان بأيديهم لكي يتخلصوا من المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. هذه أمة استمرأت الذل، ولا تريد إلا أن تكون في خدمة أميركا والغرب، ولو كان معنى ذلك قبول إسرائيل في جامعة الدول العربية، التي ربما سيصير اسمها قريباً جامعة الدول العربية والدولة العبرية.
ما زلنا لا نعرف في مجتمعنا الفلسطيني في المخيمات ما حصل معنا ومع العرب. ظننا متوهمين أننا أمة عربية واحدة، ولو ما حصل معنا قد حصل في دولة عربية أخرى لكنّا قد قدمنا الغالي والرخيص لأهلنا العرب، ولكن ما اتضح انه حين كنّا نعلّم أطفالنا أن فلسطين عروس مهرها الدماء، كان إخواننا العرب والفينيقيون يعلمون أطفالهم كره الفلسطيني وجوردان فيرست وليبانون فيرست، وصار اسم جمهورية مصر العربية مصر حاف وصارت الضباع تحوم حول جسد هذه الأمة التي فشل أبناؤها في الدفاع عنها، فإذا الكردي يريد دولة وجنوب السودان صار دولة دون أن يقول أحد كلمة، والعراق صار دولاً، ودور مصر قادم إن سقطت سوريا، وصارت إثيوبيا تقطع مياه نهر النيل عن مصر، وصارت تركيا دولة عثمانية جديدة، ولكن فقط في بلادنا لا في بلادها حيث الديموقراطية والعلمانية، وصارت إسرائيل تأمر الجيش اللبناني بأن يطرد الضابط الفلاني لأنه مع المقاومة، كما جاء في صحيفة «الأخبار» عدد الاثنين الرابع من أيلول ٢٠١٧: «وقاحة إسرائيلية: اتهام ضباط الجيش بـ«العمالة» للمقاومة». وفي الختام، لا أجد كلمة لتلخيص التجربة الفلسطينية مع العرب، من المحيط إلى الخليج، إلا تلك الكلمة الحزينة ضمنياً والمعبّرة التي قالها السيد حسن نصرالله في كانون الثاني من عام ٢٠١١: «نحن مقاومة ولسنا طلاب سلطة، لكن لا تطعنونا في الظهر». وكل ما تطلبه قيادة المقاومة هو أولاً، «ألا تتآمروا علينا ولا تقتلونا ولا تطعنونا في الظهر ولا نريد حتى الحماية منكم. ثانياً، اهتموا بالناس واخدموا الناس، خصوصاً في المناطق المحرومة في عكار والبقاع والشمال وطرابلس». في الحالة الفلسطينية، كان القول نحن مقاومة ولسنا طلاب توطين لكن لا تطعنونا في الظهر. وهذا ما حصل، طعننا الجميع في الظهر، اللهم إلا الناس الطيبين الواعين الصادقين، ولكنهم كعادة بلادنا، بل ربما العالم أجمع، لا حول لهم ولا قوة، ولهذا هم الأكثرية الصامتة. المقاومة الإسلامية في لبنان تقول دائماً إنها تقرأ في كتاب منظمة التحرير، وتستخلص منه النتائج بشأن طريقة التعامل مع الأكثرية الصامتة والأقلية المتحكمة والعميلة. وإن كان من خير في الأمر كله، فهو أن حركات المقاومة في بلادنا صارت تتعلم من التجارب السابقة ولا تقع في الفخ نفسه الذي ينصبه العملاء أنفسهم لمصلحة السيد الأميركي نفسه.

خيرة شباب المخيمات كانت تذهب في عمليات من أجل تحرير فلسطين
مجرد أن حزب الله استفاد من تجربة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ولم يقع في فخ بوسطة عين الرمانة الجديدة، والله يعلم أن جماعة البوسطة أنفسهم قد فخخوا بوسطة وأكثر، لتنفجر بالحزب، ولكن وعي قيادته وتعلمهم من التجربة الفلسطينية، وهم في معظمهم من أبناء تجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وهذا أمر بحدّ ذاته يستدعي شكر ياسر عرفات ومنظمة التحرير، وإن كان للأسباب الغلط. نحن شعب اعتدى علينا الغرب الاستعماري وتوهمنا أن أمتنا ستثور كرامتها ولا تسمح بقبول ما حصل، فإذا بهذه الأمة كانت شريكة في الخيانة، وفي تصفية وطن وشعب وقضية، وكل ذلك مقابل عرش أو زعامة لا تقدم ولا تؤخر. وإذا بملك المغرب يسمح لإسرائيل بتسجيل اجتماعات وزراء الدفاع العرب في القمة العربية في المغرب عام ١٩٦٧، ومنها تعرف إسرائيل أن العرب ليسوا بوضع عسكري يسمح لهم بمحاربة إسرائيل، فكان أن شنت إسرائيل حرب الـ٦٧ آمنة مطمئنة. هذه هي أمتنا وقيادتها، ولا بد من ذكر كل ذلك حين يريد أحد أن يقوّم تجربة منظمة التحرير وياسر عرفات شخصياً. وما الذي يمكن توقعه من تلك الأمة، فكما جاء في القرآن الكريم «زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة، من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب». وهذه أمة تصوم وتصلي، ولكنها لا تعرف معنى الأخلاق وما معنى الدين ولا معنى الكرامة، ما توافرت الدولارات والمناصب والألقاب. هي الأمة نفسها التي قال الله فيها سبحانه وتعالى «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر. كلا سوف تعلمون». ماذا سيعلمون والأمر كله واضح أمامهم، وليس كما حصل مع جماعة سيدنا عيسى المسيح الذي طلب من الرب أن يسامحهم «لأنهم لا يعلمون». العرب يعلمون ويرتضون الذل لأنفسهم ما دام الحساب في البنك «محرز». هي الأمة نفسها التي حين أراد أبرهة الحبشي سرقة كعبتها ونقلها إلى الحبشة، في العام نفسه الذي ولد فيه النبي عليه الصلاة والسلام، والذي صار اسمه عام الفيل، لأن العرب فيه تعرفوا إلى فيلة الجيش الحبشي، الذين قام زعيمهم وهو جد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بمواجهة أبرهة الحبشي لكل من يطالب بجماله وإبله، التي استولى عليها جيش أبرهة الحبشي، لا ليمنع أبرهة من هدم الكعبة كما جاء في تاريخ الطبري: «وبلغ أبرهة بلاد خثعم وخرجت له قبائل شهران وناهس بقيادة رجل يدعى نفيل بن حبيب الخثعمي فأسره أبرهة وأراد قتله فقال له الخثعمي: أيها الملك لا تقتلني، فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم: شهران، وناهس، بالسمع والطاعة». أما ثقيف، فلم تُبدِ مقاومة، وخرج قائدهم المدعو «مسعود بن معتب» فقال: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس لك عندنا خلاف، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك»، فلما اقترب أبرهة من مكة استولى على إبل بني هاشم وبعث رجلاً يدعى «حناطة» الحميري ليسأل عن شريف المنطقة فقيل له هو: «عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي فتوجه حناطة هذا وقال لعبد المطلب إن الملك لا يريد حربكم إنما جاء ليهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يرد حربي فأتني به. فخرج عبد المطلب مع حناطة نحو معسكر أبرهة وسأل عن «ذو نفر» المذكور آنفاً، وتزعم كتابات أهل الأخبار أنه كان صديقاً له فقال له: يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر، وكان له صديقاً: وما غناء رجل أسير في يدي ملك، ينتظر أن يقتله غداً أو عشياً. ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيساً سائق الفيل لي صديق، فسأرسل إليه، فأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما تريد، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. قال: حسبي، فبعث ذو نفر إلى أنيس، فجاء به، فقال: يا أنيس إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عير مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مئتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت، فقال: أفعل.
فدخل عبد المطلب على أبرهة سائلاً إياه أن يردّ له العير أو الإبل التي سلبها منه، فعجب أبرهة واحتقره رغم أنه أكرمه، حينما رأى وسامته على روايات الإخباريين، متعجباً منه كيف يطلب الإبل ويترك البيت الذي جاء لهدمه، فأجاب عبد المطلب إني أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه، فلما رفض أبرهة طلب عبد المطلب، خرجت قريش إلى الجبال تنظر ما فاعل أبرهة في كعبتهم. وفي صبيحة اليوم التالي عزم أبرهة على تنفيذ مخططه وهيأ الفيل الذي جلبه من صنعاء واسم الفيل كان «محمود».
فقام الخثعمي الذي أسره أبرهة بالهمس في أذن الفيل قائلاً: «ابرك محمود، وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام»، فبرك الفيل ولم يقم. فوجهه أبرهة جهات مختلفة عن مكة فقام «يهرول» ورفض الهرولة ناحية مكة. وإذ هم في انشغالهم حتى خرجت طيور من البحر تحمل ثلاث حجارة، واحدة في مناقيرهم واثنتان في أرجلهم أصابت جميع الجيش فحاولوا الفرار وسألوا الخثعمي طريق العودة وأورد أهل الأخبار بيتاً شعرياً منسوباً إليه جاء فيه:
أين المفر والإله الطالب
والأشرم المغلوب غير الغالب.
ويقول الطبري:
«خرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، فأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم، فسقطت أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة أتبعتها مدة تمث قيحاً ودماً، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون».
وكان الطبري ينهي كل فقرة بعبارة والله أعلم. ومثل الطبري أقول: الله أعلم، ولكن أغلب الظن أن العرب سيظلون يرددون ما قاله عبد المطلب من أن ليبانون فيرست وجوردان فيرست والجمال والإبل والنفط فيرست، أما بيت المقدس، فله رب يحميه. وما علينا إلا أن نقبع مرتعدي الفرائص فيما نحن نراقب حساباتنا في المصارف تزداد وفي انتظار المعجزة وفي انتظار «طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول». وبعدما تهزم الطير الأبابيل إسرائيل وأميركا سنعود إلى فلسطين وتصير الأمة كلها تحجّ للقدس وفلسطين بكل حب وسعادة، وتنسى أنها ذات يوم حين كانت فلسطين بحاجة إليهم تنكّروا لها مثلما تنكروا قبل ألف وخمسمئة سنة للكعبة، حين أتتها جيوش الاحتلال لتغتصبها. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. وشكراً يا أهلنا ويا إخوتنا العرب.
* كاتب فلسطيني ــ نيويورك