حسناً فعلت جريدة "الاخبار" بنشر ورقة الباحث الدكتور توفيق كسبار حول خطر انهيار سعر صرف الليرة الذي يحدق بلبنان (الأخبار، 4 و5/9/2017). وهي ورقة تأخذ موقفاً حاداً في ميدان السياسة الاقتصادية يستدعي النقاش.
1. محتوى الورقة

تعالج الورقة أربع نقاط. يتناول الباحث في النقطتين الأولى والثانية من ورقته، عمل مصرف لبنان وممارسته لدوره على صعيدي سعر الفائدة والهندسات المالية. يُظهر أن أسعار الفائدة التي اعتمدها المصرف لاستقطاب الودائع والتمويل كانت كريمة أكثر من اللازم وغير مبرّرة. تتجاوز أسعار الفائدة هذه على سندات الخزينة بـ 500 نقطة "الليبور" الذي يشكل مرجعية المصارف المركزية، وتتجاوز بـ 650 نقطة هذه المرجعية في ما يخص شهادات الإيداع التي يصدرها. يرى الباحث أنه كان يمكن الاكتفاء بفارق يساوي 100 نقطة لضمان استقطاب التدفقات المالية الخارجية.
يتناول الباحث في النقطة الثانية من بحثه الهندسات المالية التي يجريها مصرف لبنان منذ 2016 لإعادة تكوين احتياطه المتناقص بالعملات الصعبة، والذي يعوّل عليه ككتلة مناورة يستخدمها للتصدي لعمليات شراء كثيفة للدولار ينجم عنها ارتفاع لسعره، أي خفض لسعر صرف الليرة. وقد منح للمصارف في هندسة 2016 ما يوازي 5 مليارات دولار بالليرة اللبنانية كعمولة، مقابل 5 مليارات دولار وفّرتها هذه الأخيرة له وانضافت إلى احتياطيه بالعملات الصعبة. لكنه يرى أن الهدف من تلك الهندسة المالية كان تعويض مصرفين لبنانيين كبيرين عن خسائر تكبداها في الخارج وبلغت مليار دولار.
ثمة إذاً نقل للثروة يتولاه المصرف المركزي، إن من خلال أسعار الفائدة المرتفعة التي يعتمدها أو من خلال الهندسات المالية التي يجريها، لصالح القطاع المصرفي. وهو دور يتواءم مع الأدوار التي لعبتها المصارف المركزية في الغرب منذ 1980 وما زالت، لجهة نقل الثروة إلى "أصحاب الريوع المالية".
يتناول الباحث في النقطتين الثالثة والرابعة من ورقته السياسات الحكومية المعتمدة ومقترحاته للتصدي لخطر انهيار سعر صرف الليرة. يبيّن ما بات معروفاً بالنسبة لسياسة الإنفاق العام، أي استحواذ خدمة الدين العام على ثلث الإنفاق في الموازنة، وذهاب الثلث الثاني كمرتبات وأجور للعاملين في القطاع العام، واستحواذ مؤسسة كهرباء لبنان على حصة مهمة من الإنفاق العام كدعم لتغطية عجزها الاستثماري، وعدم التمكن من تخصيص أكثر من 8% من الإنفاق العام للإنفاق الاستثماري. ويُظهر الباحث تزايد عجز الموازنة خلال السنوات الثلاث الأخيرة بقيمة مليار دولار كل سنة.
النقطة الرابعة والأخيرة التي تتضمنها الورقة تشتمل على مقترحين للباحث. يتناول المقترح الأول ضرورة مساءلة حاكم مصرف لبنان عن السياسات التي اتبعها، خصوصاً على صعيدي أسعار الفائدة التي يعتمدها وهندساته المالية. وهناك مسألة المعلومات التي يمتنع مصرف لبنان عن نشرها وتتناول قيمة الودائع التي يستقطبها وأسعار الفائدة التي يدفعها. وهو يمتنع منذ 2003 عن نشر تقريره السنوي لئلا يظهر هذا التقرير الخسائر التي يتكبدها وتمثّل الفارق بين ما يدفعه للمصارف كفوائد وما يحققه كإيرادات من توظيف هذه الموارد في ظروف دولية حيث أسعار الفائدة الدولية منخفضة جداً، وأحياناً سلبية.
يتناول المقترح الثاني للباحث ضرورة الحصول على التزام رسمي من أركان السلطة التنفيذية، بخفض العجز في الموازنة إلى ما يوازي 4 مليارات دولار، وهو يبلغ في موازنة 2017 ما يوازي 6 مليارات دولار. والهدف من ذلك تطمين الأسواق المالية، الأمر الذي من شأنه أن يردع المودعين في المصارف عن الاستمرار في الهروب من الليرة ونقل مدخراتهم إلى الخارج والتسبّب بعجز ميزان المدفوعات المستمر منذ سنوات عدّة.

2. ملاحظات على الورقة

هناك ثلاث ملاحظات على الورقة، تتناول الأولى منها منشأ الأزمة المالية، وتتناول الثانية كيفية التصدي لهروب الرساميل، وتتناول الثالثة الموقف من الإنفاق العام.
يقدم الباحث قراءة تُظهر أن انهيار سعر صرف الليرة بفعل تحويلات كثيفة من الليرة إلى الدولار هو عنوان الأزمة المالية التي تتربص باللبنانيين. وهو خطر سوف يزداد بفعل ارتفاع أسعار الفائدة العالمية المرتقب مع نهاية السنة الحالية. نشير في هذا الإطار إلى أن خبراء صندوق النقد الدولي يحذرون من أزمة مالية يكون منشؤها القطاع العقاري في لبنان. وهم ينتقدون مصرف لبنان لأنه يلعب دوراً تنموياً وتدخلياً في أكثر من قطاع، ولأن سياسة دعم الفوائد التي يوفرها للمقترضين لشراء مساكن هي ما يتيح استمرار نشاط القطاع العقاري. وهم يحرّضون المصرف على الامتناع عن التدخّل والاكتفاء بأدواره التقليدية (صندوق النقد الدولي، 2017: 9؛ الأخبار، 2017). وذلك رغم معرفتهم أن انسحابه من دعم الفوائد في القطاع العقاري سيؤدي إلى توقف الكثيرين من المقترضين عن الدفع، وانهيار الأسعار في هذا القطاع وانهيار المصارف التي تورّطت كثيراً في توفير قروض سكنية.

بناء مقدرة مؤسساتية أكبر للرقابة على حركة الرساميل وضبط هذه الحركة
وهي قراءة لمسببات الأزمة المالية تذكّر بالتفسيرات للأزمة المالية في أميركا عام 2008 التي تسبب بها المقترضون في القطاع العقاري. وطبعاً فإن كلام هؤلاء الخبراء ليس منزلاً. وهم يحرّضون المصرف على الذهاب في الاتجاه الذي يفجّر الأزمة المالية وفق قراءتهم هم لها.
لكن الأرجح هو أن الأزمة المالية إذا حصلت، سوف تكون أزمة انهيار لسعر صرف الليرة تتسبّب به تحويلات كثيفة من الليرة إلى الدولار وإلى الخارج وعجز المصرف المركزي عن مواجهة هذه الموجة.
تتناول الملاحظة الثانية مسألة خروج الرساميل. يقترح الباحث حلاً هو تحسين المتغيرات التي تعكس خصائص الظرف الاقتصادي القائم (Fundamentals). وهي تتمثّل هنا بحجم الدين العام مقارنة بالناتج ونسبة العجز في الموازنة بالإضافة إلى تطور رصيد ميزان المدفوعات. ويرى أن خفض العجز سيحسّن صورة لبنان لدى المودعين ويردعهم عن الذهاب إلى الخارج. وهي مقاربة نيو-كلاسيكية بامتياز، ترى أن المتعاملين في الأسواق المالية، وهم أصحاب الودائع في حالة لبنان، يتصرّفون إفرادياً ويتخذون قراراتهم في ضوء حركة المتغيرات الأساسية هذه (غرابل، 2003(ب): 244).
والمشكلة الآن هي أن ثمة خروجاً للرساميل يتجاوز دخول الرساميل ويتسبّب بعجز ميزان المدفوعات. وهو عجز يستمر منذ سنوات على خلاف العادة في لبنان. وهذا في الأرجح ما يضغط على أعصاب الحاكم ويجعله معنياً بعدم قبول انخفاض احتياطيه بالدولار، والمسارعة إلى إعادة تعويض النقص بواسطة الهندسات المالية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن ليس ثمة علاقة سببية ثابتة في كل وقت وزمن بين رصيد ميزان المدفوعات وبين سعر صرف العملة. يمكن أخذ مثال على ذلك من حقبة الثمانينيات في لبنان. وقد استعاد لبنان آنذاك الفائض المعهود في ميزان المدفوعات بدءاً من 1985 واستمر الأمر على هذا النحو حتى 1992. وخلال هذه الفترة كلها كان سعر صرف الليرة ينهار كل سنة أكثر وبشكل مريع. وذلك لأن ثمة من كانت له مصلحة في ذلك، ولأن المصارف السبعة الأولى في لبنان كانت هي من يحدد ما ينبغي أن يكون عليه سعر صرف الليرة. ولم يكن الشعب اللبناني المشرذم بالحرب آنذاك قادراً على التصدي لعملية تدمير مقومات عيشه تلك.
وقد بلور الباحثون الما - بعد - كينزيون مقاربة لمواجهة الأذى الذي تلحقه حركة التدفقات المالية السريعة دخولاً وخروجاً، هي على نقيض المقاربة النيو- كلاسيكية في هذا الميدان. وقد دفعت إليها تجربة تسعينيات القرن العشرين التي حفلت بأزمات مالية شديدة الوطأة تعرضت لها بلدان نامية عديدة، وتسببت بها حركات خروج سريع للرساميل كانت موجات شائعات تكفي أحياناً لإطلاقها. وقد بنى الباحثون هؤلاء مقاربتهم لكيفية تلافي الأزمات المالية التي قد تنجم عن خروج الرساميل على تجارب بلدان نجحت في ذلك كماليزيا وتشيلي.
وهي تتلخص بالرقابة على حركة التدفقات المالية من خلال تتبع حركتها والاحتراز منها. وذلك عبر توفير معلومات عن التدفقات إلى البلدان المعنية تتيح للمستثمرين خفض التزاماتهم تجاهها حين تصبح المخاطر مرتفعة (trip wires)، واعتماد آليات إبطاء لحركة التدفقات من الخارج إلى الداخل وبالعكس (speed bumps) (غرابل، 2003(أ)؛ داغر، 2010 و2011). وهي مقاربة تختلف عن "أنظمة الإنذار المبكر" التي تقوم عليها المقاربة النيو- كلاسيكية للاحتراز من الأزمات. وقد استطاعت ماليزيا أن تحد من حرية تحويل العملة المحلية إلى دولار خلال التسعينيات، من دون أن تتأثّر بذلك قدرتها على اجتذاب الرساميل.
وقد اعتمد حاكم مصرف لبنان إجراءات إبطاء للتحويلات من الليرة إلى الدولار بعد اغتيال الرئيس الحريري عام 2005 ونجح في ذلك. ويقتضي الأمر في حالة لبنان الحاضرة بناء مقدرة مؤسساتية أكبر للرقابة على حركة الرساميل وضبط هذه الحركة. وهو مطلب يوجّه إلى أركان السلطة التنفيذية ربما يكون أهم من الطلب إليهم الالتزام بخفض عجز الموازنة.
الملاحظة الثالثة تتناول الحل المقترح بخفض عجز الموازنة. وهو يعني انكفاء إلى المقاربة النيو-كلاسيكية أو النيو-ليبرالية التي ترى الدولة وحجمها وصلاحياتها شراً ينبغي التصدي له. وقد لا نختلف مع الباحث حول الطبيعة غير الإنتاجية لأغلب الإنفاق العام، وحول الدور السلبي الذي تلعبه الدولة في الاقتصاد. لكن كيف يمكن خفض الإنفاق العام أكثر؟ وهل ينبغي مثلاً النكوص عن تصحيح أجور العاملين في القطاع العام، وهي التي لم تُصحّح منذ 21 عاماً؟ وما هو المدى الذي يمكن الذهاب إليه في زيادة شغور الإدارة العامة وتحطيمها؟
وعلى نقيض النيو-كلاسيكيين، لا ينبغي "رمي الدولة في المجرور" لأن هذا أمر غير ممكن في الأساس، ولأن البديل عن "دولة الحد الأدنى" النيو-ليبرالية هو "تعلّم الدولة"، أي بناء المقدرة المؤسساتية للدولة لكي تتمكّن من الاضطلاع بمهامها التنموية والرقابية. ونقترح بديلاً عن مطالبة أركان السلطة التنفيذية الالتزام بخفض الإنفاق العام وخفض العجز في الموازنة، مطالبتهم بإقامة "هيئة رقابة على حركة الرساميل وضبط لحركتها".
أخيراً، تثير الابتسام نبرة الباحث في التوجّه إلى أركان السلطة التنفيذية. وهي نبرة المؤسسات الدولية حين كانت تعتقد أن ثمة حقيقة وحيدة، هي المخوّلة التعبير عنها. وقد سال ماء كثير تحت الجسور منذ ذلك التاريخ.

المراجع

Grabel Ilene, “International Private Capital flows and Developing Countries », in H-J Chang (ed.), Rethinking Development Economics, London : Anthem press, 2003(a), pp. 325-345.
Grabel Irene, "Predicting Financial Crisis in Developing Economies: Astronomy or Astrology?" Eastern Economics Journal, symposium on "Financial Globalization" 2003(b), 29(2), pp. 243-258.
International Monetary Fund, Lebanon: Financial System Stability Assessment, Country Report, No. 17/21, January, 2017, 70 pages.
ألبر داغر، "الصراع السياسي وافتعال الأزمة المالية في لبنان"، الأخبار، 17/3/2011، وأعيد نشرها في ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 224 صفحة، ص. 193 – 199.
ألبر داغر، "احتمالات الأزمة المالية في لبنان وطرق التصدي لها"، الأخبار، 22/3/2010، في ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 224 صفحة، ص. 188 – 192.
الأخبار، "تقارير صندوق النقد قبل التنقيح وبعده: النظام المالي ليس على ما يرام"، 24/4/2017.