كان لا بدّ من الانتظار قبل الكتابة عن «المُنتحرين» في غزة. ليس السبب أن تبرد مشاعر الحزن على من كنّا نعرفه منهم أو من لا نعرفه، ولا أن نخوض ردّ فعل سطحياً ومباشراً على الأطراف التي تتسبّب في تضييق خيارات استمرار الحياة عليهم، مع أن أي فصيل لم يكلّف خاطره أن يصرّح أو يعزّي أو يوضح رأياً في قضية شغلت الشارع كلّه، لكن التأجيل مردّه إلى محاولة أن نكون موضوعيين أكثر بعد أن نراقب ردّ فعل الجميع.
تخيّلوا! في غزة هناك من يقرّر الانتحار، مع أن الموت، في مراحل عدة، (كان) يُباع بالمجّان! من الصعب على أحد فهم معنى الحياة في «علب سردين» متكدسة بعضها فوق بعض ضمن مساحة طولها لا يتجاوز المسافة بين بيروت وصيدا (قرابة 40 كلم)، وبعرض شريط ساحلي لا يتعدى 8 ــ 12 كلم.
ثمة أجيال وُلدت وتعيش، ومنها من مات، من دون أن يرى من وجه العالم شيئاً، أو يبصر عن قرب طائرة أو سفنية مدنية. أشياء كثيرة تُحكى ومفارقات لا يكاد يصدّقها حتى من يعيش في غزة. لكن في «مجتمع محافظ ومقاوم»، فإن الموت محرّم إلا بسبب «منطقيّ»، كأن تنزل قذيفة إسرائيلية على رأسك، أو أن تحرقك شمعة وأنت نائم مع أولادك بسبب انقطاع الكهرباء، أو أن ينهار فوق رأسك سقف بيت متهالك!
كل هذه أسباب صارت في سنوات الحصار الإحدى عشرة ويمكن التعايش معها، لكن أن يختار أحد ما إنهاء حياته، فإن ذلك مرفوض بشدة، وقائمة الأسباب تطول. أتفهّم، وكثيرون معي، رفض الانتحار، ونشاركهم في أسباب دينية وأخرى لا دينية ترفضه، كما نرفض أن يفكر فيه أحد كحل أو كمهرب أو كنتيجة وحيدة. لكن، بدلاً من أن تُعالج المشكلة من أسبابها، فإنها تُعالج بنتائجها. كيف؟ يُحمّل المنتحر مسؤولية موته، وتضيق بنا الحال حتى في الدعاء له.
أما أن نسأل: كيف يعيش «مجتمع المقاومة»، وبماذا يحلم، وماذا يفعل لكي يبقى حياً، أو ماذا يقدم إليه ليشعر بالكرامة؟ فإن هذا آخر ما يهم مسؤوليه، ما دمنا مجبرين على التعايش مع أحدِ نموذجين متناقضين: فصيل لديه صواريخ وسلاح تطوّر عمّا قبل، ويقنع نفسه ومن حوله بأنه بذلك فقط سيكسب الحرب، أو سلطة تريد منا ببساطة وبفرح الرضوخ للاحتلال والتعايش معه!
مع ذلك، من حقنا أن نسأل: هل الإصرار على الخلط المستمر بين المقاومة المسلحة، وهي مشروعة ومجمع عليها بالغالبية، وبين تجربة حكم مريرة، حالة مبرّرة، وحتى «حلال» بالمعنى الشرعي؟ هل نحن مجبورون على الحمد والشكر ونحن نعيش معادلة سياسية لم تقررها حالة مقاومة العدو حصراً، بل مواقفنا المتتالية من صراعات الإقليم؟ والكلام يشمل الفصائل كلها، خاصة التنظيمين الأكبرين.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن كل ما حدث في السنوات الماضية، وأن ما قلناه وما فعلناه أدّى إلى مضاعفة الكارثة. نعم، للمقاومة ثمنها وتكلفتها، ويجب علينا تقبّل دفعهما بكل صدر رحب. لكن، أليس من الغباء أن نضاعف هذا الثمن بأيدينا؟ بل، إذا كان ثمة ما يدفع إلى الانتحار في مجتمع مثل غزة، وجماعياً، فهو أن تبقى فلسطين محتلة 68 عاماً. صحيح أن ذلك يحدث في ظلّ إرادة دولية كبيرة تُجمع على انتزاعها منّا، لكنه أيضاً مقابل ركض فلسطيني ــ قيادي ونخبوي ــ نحو المال والمنصب.
أما أسباب الانتحار الفردي، فتأتي هزيلة وضعيفة أمام هذه الكارثة، التي تتدخل في تفاصيل حياتنا ــ الفلسطينيين ــ الصغيرة والكبيرة، سواء أقررنا أن نكون في صف المستسلمين أم المقاومين، رغم أنه عندما تكون التضحيات ثقيلة في كفة الميزان، والنتائج لا تكاد تُذكر، فإن هذا يدلّ على حالة خسارة لا ربح، مع أن المطلوب عملياً ليس إلا أن ترجح كفّة النتائج قليلاً. فوق ذلك كله، عندما نتحدث عن مئات محاولات الانتحار سنوياً، إن لم تصل حدود الألف، فلعل الأمر يحتاج إلى نظر!
أكثر ما يثير الغرابة هو الحنق الشديد الذي صُبّ على شاب عمره 22 عاماً انتحر قبل مدة قصيرة في غزة، فذلك يتعارض على نحو عجيب مع «الربيع العربي» الذي خُربت «ديار غزة» بسببه وبسبب مواقفنا منه؛ هذا «الربيع» بدأ بمنتحر وحالة انتحار، ولم يوجّه هؤلاء في ذلك الوقت انتقاداً لها بوصفها قراراً بقتل النفس!... أم أن توالي حالات الانتحار سوف يُحرج الحاكم أمام الرعية كما حدث في تلك الدول، ولذلك يرفض الإفصاح عن عدد حالات الانتحار والمنتحرين منذ سنوات «منعاً لإشاعة الفتنة في مجتمع المقاومة»، كما يصرّح بذلك مسؤولون في غزة، لمجرد أن الصحافة حاولت أن تحصل على أرقام رسمية قبل أن تكتب عن الموضوع.
ثمة فرق كبير بين الصمود والصبر السلبي. الصامد هو من يختار أن يبقى على أرضه ولا يغادر حتى لو كانت كل معابر البلاد مفتوحة والفرص مُشْرَعة. أما الصابر السلبي (المستسلم)، فهو الذي ليس بيده حيلة، خاصة أنه لا سنوات الحرب الماضية عادت عليه بنتائج مباشرة ومثمرة، ولا حتى مجرد فكرة الاحتجاج الشعبي على فصيل يرفع راية المقاومة مقبولة لديه، ولا مجال للسفر والبحث عن فرص أخرى، وبلاده تضيق به أكثر فأكثر.
كان على الشاب مهند غراب، وهو واحد من مئات، أن ينتظر الموت مثلما حدث مع شاب آخر مبدع سبقه اسمه معاذ الحاج؛ فالأخير مات بهدوء وحده في بيت خالٍ من العائلة، فلا يثير بموته كل هذا الغضب. هل انتحر مهند لأسباب ذاتية محضة، أم لأسباب تتعلق بغزة... أم للاثنين معاً؟ من السهل اختيار الإجابة الأولى، لأنها تعفي كثيرين من أدنى مسؤولية، لكن إجابة هذا السؤال لن تفيد مهند وغيره في كل الأحوال، فهم قد رحلوا، لكن من المهم أن نستدرك من يفكر في هذا الخيار يومياً، ومن قد يقدم عليه أيضاً بصورة شبه يومية، لأننا نحتاج إليهم، وفلسطين تحتاج شعباً حياً لا ميتاً ومحكوماً بعقدة الهزيمة.