المعركة الأخرى التي يمكن مقارنتها بمعركة «عين جالوت» هي معركة خليج «هاكاتا»، الذي يقع في الطرف الشماليّ الغربيّ لجزيرة «كيوشو»، وهي أقصى جزيرة جنوباً بين جزر اليابان الأساسية الأربع. وباستثناء المهتمين بتاريخ شرق آسيا، لا تجد هذه المعركة الكثير من النقاش في محوريتها وأهمّيتها في وقف التوسع المغوليّ في جنوب شرق القارّة، وإبعادها الخطر المغوليّ عن الجزر اليابانيّة في معركة واحدة حاسمة.
الساموراي: رجال الطريقة النبيلة

لا بدّ في البداية من إلقاء بعض الضوء على عصب القوة المقاتلة اليابانيّة في تلك المعركة، أي «الساموراي». يشرح «ستِفِن تِرنبول»، في كتابه «قادة الساموراي -الجزء الأول»، أنّ «الساموراي» هم طبقة مقاتلة ضمن التركيب الطبقي في اليابان الإقطاعيّة، أتقن أفرادها فنون القتال المتنوّعة، لكن من دون أن يعني هذا احترافهم القتال. حيث يشرح «أنثوني براينت»، في كتابه «الساموراي»، أن أفراد هذه الطبقة - وهي من الطبقات العليا ضمن المجتمع- كانوا حرفيين وتجّاراً ومزارعين بالإضافة إلى المقاتلين المحترفين. ويضيف أنّ قادة «الساموراي» كانوا من الأرستقراطيين (الإقطاعيين) الذين يحترفون القتال.
وفي نوعيّة التسليح والتدريع، يقول «تِرنبول» إنّ السلاح المفضّل للساموراي في البدايات كان القوس واستعماله عن ظهور الخيل المتحرّكة (انتقلت تكنولوجيا ركاب السرج من الصين إلى اليابان في القرن الثالث الميلادي). ولكن مع مرور الزمن تحوّل تركيز مقاتل الساموراي إلى إتقان مهارات وفنّ القتال بالسيف، من دون أن يعني ذلك التخلي عن القوس كجزء من ترسانته الشخصيّة. أمّا التدريع فقد كان آسيويّاً، بمعنى أنّه من الجلد أو طبقات الحرير أو في بعض الأحيان السلاسل المعدنيّة، والتي تغطّي الأجزاء الأكثر ضعفاً من جسم المقاتل مع الإبقاء على مستوى ليونة عال للقتال سواء باستعمال القوس أو السيف.
كذلك يضيف «تِرنبول» أنّ أسلوب قتال الساموراي كان يقوم نظرياً على القتال الفرديّ. فيتنافس المقاتلون للحصول على شرف أن يكونوا أول النازلين الى المعركة. ويعد البروز إلى ساحة المعركة، كان المقاتل يبحث عن خصم يستحق القتال عبر الإعلان عن اسمه ونسبه، ليعرف الأعداء «قيمته» فيبرز له خصم «مؤهل»- من حيث النسب و«القيمة»- لقتاله. عندها يتبارزان في قتال ثنائي، يبدأ بالرماية عن ظهر الخيل أثناء الهجوم على بعضهما، ومن ثم ينتقل إلى الرماح أو السيوف عند نفاذ الأسهم، وإلى قتال باليدين إن اقتضت الحاجة. ولكن هذه كنت طريقة القتال النظريّة و«النبيلة»، حيث لم تكن الوحيدة المعتمدة، بحسب «تِرنبول»، فقائد الساموراي الكفوء كان يجيد أيضاً تنفيذ الغارات الليلية والكمائن لإيقاع أكبر نسبة من الخسائر بالأعداء. لا بل يضيف أن معظم المواجهات التي كانت تقع بين الساموراي كانت أقرب لهذه الأنواع من القتال منه إلى النوع «النبيل». ولكن كيف لجيش عماده الأساسيّ مقاتلون أكثر ما يجيدونه هو القتال الفرديّ أن يواجهوا جيشاً يقاتل كوحدة واحدة بمستوى تنسيق عال كالجيش المغولي؟

مرّتان... جيوش الخان على الخليج

في عام 1266 بدأ «قوبلاي خان»، وهو حفيد «جنكيز خان» والخان الأعظم في حينه، يتطلّع إلى اليابان كهدف توسّعه التالي، بعد أن سيطر على شبه الجزيرة الكوريّة وفي ظلّ تفوّقه الواضح على إمبراطوريّة سلالة «السونغ» في الجنوب الصينيّ. فتقاطرت الرسل المغوليّة إلى وصي العرش اليابانيّ في حينه، «هوجو توكيمونِ» تطالبه بالاعتراف بالخان الأعظم سيّداً على اليابان- وهو ما كانت قد فعلته باقي دول جنوب شرق آسيا بعد مجموعة حملات صغيرة. إلّا أنّ «توكيمونِ» رفض الإذعان لطلب «قوبلاي». وعليه جرّد الخان الأعظم أول محاولة اجتياح لليابان.
يسرد «نكابا يَمادا»، في كتابه «غنكو، الاجتياح المغولي لليابان»، تفاصيل هذه الحملة التي تألّفت من 40000 جندي (فيهم 5000 خيّال مغوليّ والباقي من الكوريين والصينيين الشماليين) حُملوا على 900 سفينة. وانطلق الأسطول من كوريا، التي استغل المغول قدراتها البحريّة، ليصل إلى جزيرة «تسوشيما»، في الخامس من تشرين الأوّل، وتحتّلها القوّات المغوليّة في ظرف ساعات. وتكرّر الشيء نفسه بعد يومين في جزيرة «إكي». ومن بعدها رسا الأسطول في الثاني عشر من تشرين الأوّل في خليج «هاكاتا» تحضيراً لإنزال بحريّ سريع يمكّن المغول من السيطرة على «كيوشو»، التي ستتحوّل بدورها إلى قاعدة أمامية لاحتلال الجزر الثلاث الأساسيّة الباقية.
ولكن المعركة في «كيوشو» لم تكن بسهولة احتلال «تسوشيما» و«إكي». ويروي «يمادا» أن « توكيمونِ»، وبمجرّد تبيان نيّة المغول بالتوسّع نحو بلاده، أمر بترميم سلسلة التحصينات، القديمة والمهملة منذ قرون، التي كانت تحرس الشواطئ الغربيّة للبلاد. وامتدّت هذه التحصينات في المنطقة المطلّة على خليج «هاكاتا». ومع تقاطر الأنباء عن سقوط الجزيرتين استدعت الحكومة المحلّية قوّات كل إقطاعيّي «كيوشو» ووجّهتهم غرباً. وعند وصول الأسطول المغوليّ وبداية إنزال قوّاته لم يستعمل الساموراي التحصينات، مفضّلين التوجّه إلى الشاطئ لملاقاة المغول بمجرّد وصولهم، ليتفاجأوا بأسلوب قتالهم ضمن فيالق منسّقة تستعمل أسلحة صينيّة متطوّرة (ومنها المنجنيق وشكل بدائيّ من قنابل البارود). وكان الفارق بأسلوب القتال - حيث أنّ اليابانيين بدأوا القتال بالطريقة النظريّة التي سبق شرحها - بالإضافة إلى طول الخطّ الساحليّ على الخليج، سببان لخسائر كبيرة في صفوف اليابانيين (يُقدّر البعض عدد القوات اليابانيّة مجتمعة بـ10000 جنديّ) اضطرّتهم إلى الانسحاب، واستعمال التحصينات لصدّ الهجوم وشنّ الغارات انطلاقاً منها على المساحات التي احتلّها المغول.

أسلوب قتال الساموراي كان يقوم نظرياً على القتال الفرديّ
استمرّ القتال على هذا المنوال لأربعة أيام، حيث أُصيب بعدها أحد قادة الجيش المغوليّ الثلاثة إصابة خطيرة. دفعت هذه الإصابة المغول إلى العودة إلى السفن لإعادة تجميع وتنظيم القوات، فاستغلّ الساموراي الوضع وبدأوا يغيرون على السفن بزوارق صغيرة قادرة على المناورة؛ ونتج عن تلك الغارات إحراق العشرات من السفن. وفي الليلة الرابعة من الإنزال ضرب إعصار «تيْفون» المنطقة وتسبب بغرق ثلث الأسطول تقريباً (يمتدّ موسم أعاصير التيْفون في اليابان من آب إلى بدايات تشرين الأول). وعلى إثر هذه الخسارة قرّر قادة الاجتياح العودة إلى كوريا، فأطلق اليابانيون على هذ الإعصار تسمية الرياح الإلهيّة أو «كاميكاز». والواضح من مختلف المصادر أنّ قتال اليابانيين تميّز بالجسارة والفدائيّة، وإن إفردايّاً وبتهوّر في بداية المعارك، وأجبروا المغول على القتال المباشر، وهو ما لم يعتادوه من قبل. يُضاف إلى هذا أنّ « توكيمونِ» وحكومته بدأوا التحضير لاحتمال غزو ثان، ففعّلوا عملية استدعاء قوّات الإقطاعيين لتشكيل جيش أو جيوش في حال غزو مغولي آخر، وكذلك بدأ العمل على ترميم وبناء التحصينات على طول الساحل الغربي للجزر الأربع.
بالرغم من هذه الهزيمة، لم ييأس «قوبلاي خان» وبدأ بالتحضير لاجتياح جديد للجزر اليابانيّة. ويشرح «يمادا» أنّ سقوط إمبراطوريّة «السونغ» في جنوب الصين في يد المغول أمّن موارد وقوة بحريّة وأعداد جنود ضخمة للخان الأعظم. وسارع «قوبلاي» إلى التحضير لحملة جديدة كان عدادها 100000، منهم 40000 خيّال مغوليّ، والباقي من الصينيين والكوريّين، يحملهم أسطولان مؤلّفان من 4500 سفينة. الأسطول الأوّل وهو أسطول «جيش الطريق الشرقيّ» (900 سفينة) انطلق من كوريا، والثاني وهو أسطول «جيش الطريق الجنوبيّ» (3600 سفينة) انطلق من «فوكين» جنوبيّ الصين. انطلق «أسطول الشرق» قبل «أسطول الجنوب» بشهر كامل، ويُعيد «يمادا» الأمر إلى مرض قائد «أسطول الجنوب». وصل «أسطول الشرق» إلى خليج «هاكاتا» في 21 حزيران عام 1281، وبعد انتظاره وصول «أسطول الجنوب» عدّة أيّام، بدأ بعمليّات الإنزال على شاطئ الخليج. ولكن هذه المرّة تحصّن اليابانيّون في تحصيناتهم وبدأوا بالإغارة على وحدات المغول التي تصل تباعاً إلى الشاطئ. تكبّد اليابانيون خسائر كبيرة، ففارق التسليح وأعداد المغول الكبيرة كانا سببين رئيسيّين لانتهاء معظم الغارات، وإن كانت ناجحة، بمقتل عدد كبير من المغيرين اليابانيين. وبالإضافة إلى الغارات البريّة، عمد الساموراي إلى قيادة غارات بحريّة ليليّة بزوارق صغيرة، حيث كانوا يصعدون على ظهر السفن ويقتلون أكبر عدد من المغول ثم يحاولون إحراقها. ولكن هذه الغارات البحريّة كانت محفوفة بالمخاطر أيضاً، فقد استعمل المغول المنجنيق لرمي الحجارة والأسهم الكبيرة عن ظهر سفنهم، مما رفع عدد قتلى اليابانيين في الماء أثناء التقدّم والعودة. منع الساموراي المغول من تأمين منطقة إنزال على الشاطئ لمدة تقارب الخمسين يوماً حتى منتصف آب، إلى حين وصول «أسطول الجنوب» إلى خليج «هاكاتا». عندها توقّف المغول عن محاولة إنزال قواتهم على الشاطئ وربطوا سفنهم ببعضها البعض بالسلاسل الحديديّة، حتى يمنعوا المغيرين من المناورة عن مسافات قريبة من السفن، وانتظروا قدوم قوارب الساموراي الصغيرة ليلقى من عليها حتفه (كان عدد الجنود اليابانيين في تلك المرحلة من المعركة قد وصل إلى 40000). نجح هذا التكتيك في الحد من خسائر جيش المغول وضاعف خسائر اليابانيين، ولكنّ الوقت كان قد فات. فقد لعب اليابانيون لعبة الانتظار حتى حلول موسم أعاصير «التيْفون»، فضرب في 15 آب إعصار ضخم في منطقة خليج «هاكاتا، أتى على 3500 سفينة من سفن الأسطول وغرق عشرات الآلاف من جنود المغول، بالإضافة إلى 30000 أسير وقعوا في أيدي اليابانيين، الذين أعادوا منهم إلى بلاط «قوبلاي خان» ثلاثة فقط، بينما أُعدم الباقون.

بداية النهاية

على أثر هذه الهزيمة في اليابان، فقد المغول جزءاً من عامل الرعب الذي كانوا يدّبونه في قلوب أعدائهم، مما أفقدهم القدرة على التحكم بمساحات واسعة وأعداد سكّان هائلة بعدد من الجنود صغير نسبيّاً، في جنوب شرق آسيا بالتحديد، حيث انتشرت أخبار هذه الهزيمة. فأثبت الفشل في حملتي احتلال فيتنام الثانية والثالثة (1285 و1287) وحملة احتلال جزيرة «جاوا» (1293) وحملة احتلال بورما الثانية (1301) أنّ المغول بإمكانهم الانتصار بالمعارك ولكنّهم فقدوا القدرة على السيطرة عبر الرعب، لا بل إنّ الحكّام والملوك المحليين أصبحوا على استعداد لمجابهة المغول بمجرد أن تسنح لهم الفرصة بعد استقرار الاحتلال وانسحاب أجزاء من قوّاته. فأصبح الاحتلال مكلفاً جدّاً.
أوقفت معركة خليج «هاكاتا» الثانية التوسع المغوليّ في شرق آسيا. فالبرغم من قبول بعض الممالك دفع الجزية وقبول السيادة المغوليّة عليها بداية، إلّا أنّ صدى فشل اجتياح اليابان أعطى زخماً للتمرّد على المغول، مما أجبرهم على تجريد الحملات المتتالية على ممالك جنوب شرق آسيا. وهذه الحملات اتّسمت بالكلفة العالية، كما يشرح «يمادا»، الأمر الذي كبّد الخزينة المغولية في الشرق خسائر ساهمت في تآكل السيطرة على الوضع الداخليّ الصينيّ.
يُمكن القول بأنّ هزيمة خليج «هاكاتا» كانت ذات نتائج أقسى على المغول من هزيمة «عين جالوت». فعلى عكس المماليك المجهّزين بعتاد متطوّر وقاتلوا المغول بأعداد متساوية في معظم الحملات، انتصر الساموراي على المغول - انتصاراً حاسماً - بعتاد أقلّ تطوّراً وأعداد أقلّ بأضعاف من أعداد العدو. وهكذا ألهم الساموراي باقي شرق آسيا للتمرّد على المغول في زمن قصير نسبيّاً، بينما استمر المماليك في قتال المغول في بيئة معادية لمدّة أربعين عاماً. وكان أساس هذا الإلهام اعتماد الساموراي على الجسارة والتضحية بالنفس لإجبار العدوّ على خوض مواجهات مباشرة لا يتقنها، وتكبّده خسائر كبيرة.
* باحث لبناني