اللاذقية | ليس «التشبيح» أمراً يومياً تواجهه على مدخل مدينة اللاذقية الساحلية، بل لعلّه ضرب من الحظ العاثر أن تكون رحلتك مكلّلة بالفشل في حال رأيت ــ دون الآخرين ــ ما سمعت عنه طويلاً. وبالتأكيد، لن تفكر بهذا النكد والتهويل خلال وصولك لقضاء رحلة استجمامك في أحد مرافق المدينة السياحية.
وبهذه المناسبة، من الصعب انتقاد أداء وزارة السياحة الثملة بالمديح، بعد إنجازها دورة معرض دمشق الدولي الـ 59، وإخبارها أن منشآتها «السياحية» في الساحل هي أشباه منشآت. وليكون الأمر واضحاً، فإن مثل هذا الكلام ليس فرصة لتصويب السهام، ولا محاولة لضرب الموسم السياحي الذي قارب نهايته، ولا سيما أن حجوزات جميع الفنادق والمطاعم في اللاذقية مثلاً، مغلقة حتى انتهاء أيام عيد الأضحى المقبل. ما يعني أن النقد لن يقطع رزق الحكومة، مجسّدة بوزارتها السياحية، ولن يؤثر على المسافرين إلى «شيكاغو الساحل». وعلى اعتبار مسبق، بأن يد الحكومة في جيب المواطن على الدوام، فسنروي لكم بعض فصول رحلة ما إلى شاطئ المدينة.

تسير الأمور في الشاطئ على مبدأ المثل الشعبي «اللي بيسبق بيلزق»

إن قسّمنا مدينة اللاذقية إلى عدد من الشواطئ، سيكون الشاطئ الأكثر روعة هو وادي قنديل، إذ إن عناية إلهية ما تجعل من مياهه الأكثر نظافة، وسط غفلة المعنيين عن أهمية ذلك الشاطئ الواقع في أقاصي الريف الشمالي. كما ينال الشاطئ الممتد من مدينة أوغاريت الأثرية، حتى فندق «غولدن بيتش» المفتتح حديثاً، لقب الشاطئ الأكثر عراقة لسباحة اللاذقيين القدامى. وفي موازاة ذلك، سعت منشآت سياحية ذات نجوم خمس إلى تحسين شواطئ لم يرتدها اللاذقيون يوماً، فشكلت خدماتها الجيدة ــ بحكم استثمار الشواطئ ــ فرصة لجذب الغرباء بغية الاستمتاع بالسباحة والطعام.
فنادق الخمس نجوم أسست لأجواء جديدة ومكلفة في حياة المدينة السياحية. وهي فنادق يرتادها الأغنياء، للتمتع بدلال خاص تفتقده فنادق أخرى أضحت تحت إدارة حكومية بعد انتهاء عقود شركاتها الاستثمارية. ولعلّ افتتاح منتجع الشاطئ الأزرق يشكّل جزءاً من ذكريات الطفولة لدى شباب المدينة ممن هم في العقد الثالث من العمر، باعتباره يقع على الشاطئ الرملي الأعرق بالنسبة إلى السباحين من أبناء المدينة، ما شكل انعطافة مهمة في وجدان اللاذقيين الذين تدافعوا إلى العمل حينها، بعقود مغرية، لدى الشركة الفرنسية المستثمرة.
لم تعد المنشأة بتلك الفخامة بعد مرور عقود طويلة على إنشائها، ولعل وضع الدولة يدها على إدارتها جعلها تبدو أسوأ من المتوقع. تضحك عُلا، الصبية الثلاثينية، إذ تقول: «هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية. الشاطئ الأزرق حدّث خدماته أخيراً، وأصبحت أسرّة (البرونزاج) جزءاً من مشهده الخارجي». وفي الواقع، فإن الأمر لا يبعث على الكثير من التفاؤل، إذ إن تزويد الشاطئ بأسرّة مصنوعة من الخيزران، ومزوّدة بفرش متواضعة غامقة اللون، لم يخدم جميع مرتادي المكان. ولعلّ المناقصة «ناقصة» ولم تشمل تجديد الشاطئ كله، أو لعلّ إدارة المنتجع لم تقبل التفريط في جزء من ذاكرة أهالي المدينة، والمتعلق بالإبقاء على (الشازلون) الأبيض القاسي والذي لا يزيد ارتفاعه عن الرمل على 20 سنتيمتراً.
النوع الرديء من الأسرّة الشاطئية لا يزال يحتل أكثر من ثلثي الشاطئ، كمحاولة نادرة للحفاظ على تراث المكان في أقسى ذكرياته وأكثرها أذى للعمود الفقري. وبذلك تبدأ مرحلة جديدة من تسابق الناس للحصول على النوع الجديد من الأسرّة، ما يولّد مشاكل جمّة بين الزبائن من غير أي تدخل من موظفي الفندق الذين لا يهملون واجبهم في ملاحقة من دخل من دون تذكرة، أو من يجلس على الشاطئ من غير لباس البحر. كما لم تنسَ الوزارة تحديث قوائم أسعارها باستمرار، لتنافس الفنادق الخاصة بأسعارها، رغم تهاوي الخدمات.
يذكر فريد، السبّاح الأربعيني، أن مشكلة العراك على أسرّة البحر مستمرة، ولعلّها ستؤدي إلى جريمة قريبة ــ وهو تماماً ما كان ينقص المدينة الفوضوية ــ آملاً أن ينتهي الموسم على خير. ويتابع قوله: «نرجو أن تتوالى خلال فصل الشتاء مناقصات جديدة تفضي إلى تحديث الشاطئ كله بأسرّة شاطئية عصرية، بدل مشهد (الخيار والفقوس) المستمر كل عام».
لا حجز على الشاطئ من قبل الموظفين أو الإدارة، بل تسير الأمور على مبدأ المثل الشعبي «اللي بيسبق بيلزق». غير أن حظك العاثر قد يفضي بك إلى أن تقع أسير حلقة من حلقات التشبيح التي سمعت عنها، ولعلّك لم تصدقها من قبل.
تربيت على الكتف، يعقبه تعليق من رجل ضخم الجثة، يقول لك: «قوم خيي هي شمسية الست. والست إجت». وهُنا قد تتبادر إلى ذهنك صورة «الست» في اللغة السورية العامية والتي احتلّتها في وجدان أهل البلد خلال الأعوام الأخيرة، عقيلة الرئيس السوري أسماء الأسد. «الست» هنا ليست زوجة الرئيس طبعاً، لأن الأخيرة طلبت ــ في إحدى زيارتها لمنازل مواطنين ــ من ابنها الأكبر حافظ أن ينهض عن كرسيه ليُجلس رجلاً مُسنّاً مكانه. إنما في اللقطة الحالية، التي قد يضطرك حظك العاثر إلى عيشها من بين العشرات غيرك، فإن «الست» تأمرك بأن تنهض لتجلسها مكانك. وقد تقول لك السيدة اللطيفة باسمة: «الحق على الموظف ما خبّرك إنو هالمكان إلي». وقد يحمل المرافق «الشهم» أغراضك إلى مكان آخر، في لقطة تبدو كأنها هاربة من ثمانينيات أو تسعينيات الساحل السوري، إنما بفيض من التهذيب. قد تسأل نفسك هُنا: كم لبثنا؟ أو لعلّ السؤال الأفضل؛ كم استشهد منّا لكي لا يسود هذا الواقع؟ ثم تعود إلى واقعك المرير الذي يحدد ما يميّز ابن «الستّ» عن ابن «الجارية». حاول إذاً الابتعاد عن الساحل، ولتعذرك الحكومة ووزارة سياحتها و«الستّات» والمرافقين، فـ«داعش» ليس في الشرق السوري فقط. وما تركتَه في قسم الشكاوى لدى إدارة المنتجع لن يضاف إلى ما ينقص «مشروع الإصلاح الإداري»، ولن يضيفه المسؤولون إلى واقعٍ ما عاد يقبله كل الناس، وآن له أن يتغير.