لندن | في ما بدا كتطور مثير بشأن حادثة إغتيال فنان الكاريكاتور والمثقف والمناضل الفلسطيني المعروف ناجي العلي (1938 ـــــ 1987)، أصدرت وحدة مكافحة الإرهاب في شرطة لندن أمس بياناً صحافيّاً أعلنت فيه عن إعادة فتح ملف القضيّة، ودعت العموم إلى التقدم بأي معلومات قد تكون لديهم وتساعد في الكشف عن الفاعلين.
ووفق التصريح الصحافي الذي صدر في الذكرى الثلاثين لوفاة الشهيد (29 آب/ أغسطس) متأثراً بإصابته بالرصاص في 22 تموز (يوليو) 1987، فإن العلي كان قد ركن سيارته بحدود الخامسة والربع مساء ذلك اليوم في شارع فرعي بالقرب من مقر جريدة «القبس الدولي » في قلب العاصمة البريطانيّة حيث كان يعمل بعدما أبعدته السلطات الكويتية بسبب ضغوط من منظمة التحرير الفلسطينية. ويذكر الشهود أنّ القاتل تبع العلي لحوالي 40 ثانية حين كان متوجهاً سيراً على الأقدام نحو مقر الجريدة، ثم أطلق عليه النار من الخلف من مسافة قريبة، فأصابه في رقبته. وقد وصف الشهود القاتل بأنّه ذو ملامح شرق أوسطيّة بحدود الخامسة والعشرين من العمر، وبشعر أسود سميك.
ونشرت الشرطة صورة تقريبية للقاتل كما يمكن أن يكون مظهره بعد ثلاثين عاماً من الحادثة الأثيمة، وأعلنت عن أرقام هاتفيّة وعنوان بريد إلكتروني ([email protected] ) للتواصل معها بشأن القضيّة، مع تعهدها بالسرّية الكاملة في التعامل مع الإتصالات.
الأمر الآخر الهام في البيان كان الكشف عن عثور الشرطة على السلاح المستخدم في عمليّة الإغتيال. إذ تقول إنّ مسدساً أتوماتيكياً من طراز «توكريف » عيار 7.62 ملم، عثر عليه في منطقة خالية في غرب لندن بالقرب من محطة بادينغتون للقطارات بعد سنتين من الحادثة، وتبيّنت مطابقته للرصاص الذي أطلق على الشهيد العلي.
وذكر الشهود أيضاً أنهم شاهدوا رجلاً خمسينياً ذا ملامح شرق أوسطيّة يرتدي بذلة رماديّة كان يركض بعد إطلاق النار ويخفي ما يعتقد أنّه مسدس تحت معطفه. ويبدو أن الرجل كان يقدم الدعم للقاتل، وما لبث أن قفز في سيارة «مرسيدس » ذات لون فضي رمادي بمقود إلى اليسار (ليس مألوفاً في بريطانيا حيث مقود السيارات إلى اليمين)، بينما شوهد القاتل يفر بخطوات سريعة نحو موقع سيارة العلي، ومن هناك توارى عن الأنظار. وقد ذكرت الشرطة أحرفاً وأرقاماً يرجح أنّها جزء من رقم تلك السيارة.
وكانت الشرطة البريطانية ألغت مؤتمراً صحافيّاً عن قضية الإغتيال، واستعاضت عنه بتصريح صحافي على موقعها الإلكتروني مع تصريحات مسجلة تحدث فيها دين هايدون قائد وحدة مكافحة الإرهاب في شرطة لندن وممثل عن عائلة الشهيد. وقال هايدون إنّه «يعتقد أنّ كثيراً من الولاءات تتغيّر بعد ثلاثين عاماً، وأنّ بعض الاشخاص الذين لم يرغبوا بالحديث مسبقاً عن الإغتيال ربما أصبحوا الآن راغبين في تقديم معلومات قد تكون دقيقة للوصول إلى الفاعلين ».
الشرطة البريطانية لم توجه اصبع الإتهام وقتها إلى طرف محدد رغم أنّ جهات عدة تحدثت عن نشاط فلسطيني محموم في أعلى مستويات منظمة التحرير الفلسطينية في تلك الأثناء لإسكات أصوات المعارضين الفلسطينيين (وكان العلي ربما أعلاهم صوتاً وأوسعهم تأثيراً). وقد نقل عن أطراف عدة كزوجة الشهيد، ومحرّري جريدة «القبس » وأصدقاء له عن تلقيه تهديدات عدة بالتصفية إن لم يرتدع ويخفف من حدة إنتقاده للفساد ولإستعداد المنظمة الدائم لتقديم التنازلات إلى العدو الإسرائيلي، بينما ذهب آخرون إلى إتهام الموساد الإسرائيلي أو المخابرات السعوديّة من دون وجود دلائل حاسمة.
وقد اعتقلت الشرطة البريطانية وقتها حوالي عشرة أشخاص من المقربين لتشكيلات منظمة التحرير في بريطانيا وحققت مع صحافيين وإعلاميين معروفين بولائهم للمنظمة وقتها. وتبيّن أنّ بعضهم كان عميلاً للموساد وعلى إطلاع من مشغليهم في تل أبيب بأنّ العلي سيقتل. وقد تصاعدت حدة الجدل وقتها بين لندن وتل أبيب بالنظر إلى إطلاع الموساد على وجود خليّة فلسطينيّة (مخترقة اسرائيلياً) مسلحة في بريطانيا تعتزم القيام بإغتيالات من دون مبادرته إلى إبلاغ الجانب البريطاني بذلك وفق ما نقلت يومها صحف بريطانية وأميركية من بينها الـ «غارديان» و«نيويورك تايمز». وأُقفل على إثرها المكتب الرسمي للموساد في لندن، وأبعد أحد العملاء عن البلاد، بينما حكم آخر بتهمة إقتناء السلاح فقط. وقد دارت الشكوك وقتها حول مسؤول أمني في مكتب المنظمة في لندن حاولت الشرطة اعتقاله، لكنه غادر إلى قبرص على متن رحلة للطيران الهولندي (كيه إل إم) أقلعت من مانشستر في اليوم التالي لحادثة الإغتيال وفق ما تقول مصادر من عائلة الشهيد. ومن المرجح أنّ الرجل قد غادر جزيرة قبرص إلى تونس أو الجزائر حيث التحق بمقر ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذيّة للمنظمة، واختفى أثره منذ ذلك الحين.
متابعون لقضية إغتيال العلي ــــ وعلى اتصال بعائلة الشهيد ــــ تكهّنوا بأن معطيات جديدة دفعت إلى إعادة إحياء التحقيق وتسليمه لوحدة مكافحة الإرهاب من دون وجود أي مبرر معلن لفعل ذلك، سيما بعد سنوات طويلة من الجمود. وهم يعتقدون أنّ مسألة توجيه أصابع الإتهام لمن ضغط على الزناد، هي اليوم أقرب منها من أي وقت مضى.
لكن مهما يكن من أمر، فإن قضية القبض على منفذي عمليّة الإغتيال ليست مهمة بقدر ما هي أساسيّة لتأكيد هوية القاتل الحقيقي، علّها توضح للتاريخ وللجماهير الفلسطينيّة والأجيال الجديدة حقيقة المؤامرة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني ورمزه الخالد ناجي العلي.