يوجد في لبنان جمعيّة اسمها «نادي هواة سيجار لاهافان». جمعيّة مُسجّلة لدى وزارة الداخليّة منذ عام 2008 (بعلم وخبر رقمه 1372). غايتها: «العناية بكافة المواضيع المُتعلّقة بهذا السيجار، مثل تذوّقه، بكافة أشكاله، وتنظيم الندوات بشأنه والترويج له بعيداً عن النشاط التجاري أو أيّ عملٍ يبغي الربح... وضمن إطار الصحة العامة».
إنّه السيجار الرهيب، الأسطوري، إذ يتحدّى منطق أرسطو بجمع الضدّين، فيغدو تدخينه ضمن «الصحة العامة»!
إثر ولادة تلك الجمعيّة، قبل تسع سنوات، نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» (السعوديّة) تقريراً «دخانيّاً» حولها. أخذ مُعدّ التقرير تصريحاً مِن رئيس الجمعيّة. تبيّن أنّه رئيس مجلس إدارة أحد المصارف في لبنان. كان عضواً في جمعيّة «كاش» الفرنسيّة لهواة السيجار، فأراد نقل التجربة إلى لبنان، وهذا ما كان. ثلاثون عضواً ثريّاً هم أعضاء النادي اللبناني. أصبحوا يجتمعون، مرّة كلّ شهر، في أحد مطاعم بيروت الفاخرة. يتباحثون شؤون سيجارهم ومسائل أخرى. كشف رئيس الجمعيّة للصحيفة، آنذاك، أنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو أحد أبرز الأعضاء. كذلك رئيس جمعيّة المصارف فرانسوا باسيل ورئيس المجلس الاقتصادي الاجتماعي روجيه نسناس، إضافة إلى آخرين مِن «الاقتصاديين والمثقّفين والإعلاميين». لم يُعرَف إن كان رئيس الحكومة سعد الحريري أحدهم. الأخير كان قال لصحيفة أميركيّة، قبل سبع سنوات، إنّه «يعشق السيجار الكوبي».
ما مناسبة هذا الحديث الآن؟ إنّها المادّة السادسة مِن قانون «سلسلة الرتب والرواتب». القانون الذي أُقرّ أخيراً ونُشِر في الجريدة الرسميّة. تقول المادّة: «تُرفَع الرسوم على استهلاك بعض أنواع التبغ والتنباك المستورد على الشكل الآتي: زيادة 250 ليرة لبنانيّة على سعر علبة السجائر. زيادة 250 ل.ل. على سعر علبة التبغ للمعسّل وتبغ النرجيلة. زيادة 500 ل.ل. على السيجار الواحد». نحن هنا أمام «شرّ البليّة ما يُضحِك» (أو ما يُبكي - حسب النفسيّة). المعدّل الوسطي لسعر علبة السجائر المستوردة، في بلادنا، هو 3 آلاف ليرة. الآن ستُصبح 3 آلاف و250 ليرة. جيّد. أمّا السيجار فما هو سعره؟ ما مِن سعر ثابت للسيجار، ولا يُمكن الحديث أصلاً عن معدّل وسطي، لأنّها كلّها، مقارنة بالسجائر، غالية الثمن. هناك سيجار واحد يبلغ سعره 100 دولار أميركي. هناك سيجار يبلغ سعره 1000 دولار. سيجار واحد! الآن سيُصبح هذا سعره 1000 دولار و500 ليرة! (الـ 500 ليرة هذه تساوي ثلث دولار واحد). المدخّن الفقير المُعدَم، الذي يَحصل أن يستدين ثمن علبة السجائر، عليه أن يدفع الآن زيادة 250 ليرة... أمّا الثري، الثري جدّاً، الذي لديه رفاهية أن يُقرّر شراء سيجار واحد بـ 100 دولار أو 1000 دولار، فزاد سعره سيجاره 500 ليرة فقط! هل حقّاً كانت «الطبقة السياسيّة» في لبنان تبحث عن مصادر لتمويل الخزينة! داخل «السوق الحرّة» في مطار بيروت، حيث ركن بيع السيجار، هذا الركن اللبناني الضارب بشهرته عالميّاً، نجد صنفاً فاخراً مِن السيجار يبلغ ثمن العلبة منه 250 ألف دولار. نعم، هذا ليس خطأ مطبعيّاً. العلبة تحوي 90 سيجاراً. وبحساب سعر الواحد، كون الضريبة جاءت على «الحبّة» لا على العلبة، فإنّ ثمن السيجار هو 2777 دولاراً. هذا الصنف، المعتّق، اسمه «غوايسمين هوميدور». نعم، هناك أصناف أكثر غلاء في العالم، ولكن هذا الموجود في لبنان، هذا المعروض في الأسواق... أمّا التوصيات على الأصناف الأعلى فهذا أمر آخر.
طبعاً، حجّة السياسيين الداعين إلى رفع أسعار التبغ كانت «صحيّة». السياسيّون حريصون جدّاً على صحّة الناس. في دول أخرى رفعوا أسعار التبغ إلى حدود موجعة، فعلاً، فانخفض عدد المدخّنين (ولو قليلاً). أمّا هنا، عندنا، فالزيادة على علبة السجائر 250 ليرة فقط. هل حقّاً هذه ستقلّل عدد المدخنين؟ هذه مقدور عليها. سيظلّ يشتريها المدخّن مرتاحاً. سيزيد دخل الخزينة. هذا كلّ ما في الأمر. في الجلسة النيابيّة التي نوقشت فيها هذه المسألة، قبل أشهر، كان مقرّراً أن تكون الزيادة بنسبة 135 في المئة على السجائر و43 في المئة على السيجار (السيجار مٌدّلل هنا أيضاً). حصل جدال عقيم بين النوّاب. ارتفعت الأصوات. في النهاية تطوّع النائب عاطف مجدلاني واجترح الاقتراح الذي أقرّ وأصبح مادّة قانونيّة. مجدلاني، بالمناسبة، هو رئيس «لجنة الصحة العامة» النيابيّة! فلتباركه، ومعه سائر النوّاب الموافقين، والصامتين، جمعيّة «نادي هواة سيجار لاهافان» (الصحيّة). إلى هنا تنتهي المسرحيّة البائخة.
كان فرويد يُدخّن نوعاً مِن السيجار. بحسب سيرته الذاتيّة كان يَستهلك، في فترة مِن حياته، نحو 20 سيجاراً في اليوم. لم تكن «آداب تدخين السيجار» (العالميّة) قد شاعت أرستقراطيّاً بعد. سأله أحدهم يوماً عمّا يرمز إليه سيجاره. إنّه يسأل رائد «التحليل النفسي». يبدو أنّ السؤال لم يرق له، فأجابه: «السيجار هو مجرّد سيجار». وهكذا تماماً، ودائماً، الضريبة هي مجرّد ضريبة.