الضعف الذي يعانيه دونالد ترامب على صعيد الصراع مع المؤسّسة سيترك على الأرجح أثراً بالغاً على القاعدة الشعبية «الصلبة» التي تؤيّده. فهذه الفئات التي نظّر ستيف بانون لصعودها على حساب القواعد المؤيدة للديموقراطيين كانت ستتأثّر حُكماً بالصراعات داخل الإدارة، على اعتبار أنّ مطالبها محكومة بانتصار الجناح الذي يقوده الرئيس، وبالتالي أيُّ تراجُعٍ له أو أيُّ تقدُّمٍ لخصومه سينعكس عليها سلباً ويُضعِف من فرص استعادتها للمكاسب التي تعتبر أنها خسرتها مع موجة صعود اليسار في التسعينيات.
وهو ما يُخشى منه في هذه الدوائر إثر التراجع المستمرّ لترامب أمام خصومه، بعد إخراج معظم رجالاته من الإدارة، وآخرهم ستيف بانون الذي تعوِّل هذه الفئات كثيراً على وجوده إلى جانب الرئيس، ليس كمنظِّر لصعودها فقط، بل كضمانة لعدم حصول انتكاسة تعيد الوضع في البيت الأبيض إلى ما كان عليه قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة. بانون كان بمثابة بوليصة تأمين لاستمرار الفاعلية داخل الإدارة في حال اشتداد الصراع وخسارة ترامب كلَّ أوراقه الأخرى، ومع خروجه منها يكون هذا الفريق قد ضَعُفَ كثيراً عبر خسارة أحد الميادين الأساسية لمعركته.

إحباط القاعدة البيضاء

ويبدو بالفعل أنّ خروج الرجل إلى جانب فلين وآخرين أضعف من تماسك هذه القاعدة، وجعَلَها أقلَّ ثقةً بقدرة ترامب على تحقيق الوعود التي أطلقها إبان انتخابه والتي على أساسها صبّت كلُّ هذه الأصوات المحافظة له. التصوُّر هنا كان يقوم على أساس أنّ قدوم الرجل إلى الإدارة سيحدّ من تقهقر هذه الفئات اجتماعياً وطبقياً لمصلحة الفئات المستفيدة من العولمة وسياسات الإدماج وانتقال الرساميل والصناعات الأميركية إلى الخارج. لكن حصول ذلك كان يتطلّب إمساك ترامب بكلّ مفاصل الإدارة، بحيث يكون قادراً على حسم الصراع مع مراكز القوى التي تعيق حركته قبل الانتقال إلى معالجة الملفّات التي تهمّ جمهوره، وعلى رأسها التراجع عن قانون الرعاية الصحية واستعادة الصناعات الأميركية إلى الداخل لخلق فرص عمل جديدة وتقييد سياسة الهجرة و... إلخ.

يفتقر ترامب إلى الأدوات التي تتيح له خوض صراع متكافئ مع المؤسّسة
تعثُّره في أكثر من ملفّ وعدم قدرته على إنفاذ القرارات التنفيذية التي أصدرها بسبب معاندة السلطات القضائية في أكثر من ولاية زادا الاقتناع لدى جمهوره بحتمية انتقال الصراع إلى خارج المؤسّسات طالما أنّ تحقيق المطالب من داخلها أصبح مستحيلاً. فهو فضلاً عن خسارة المعركة بالنقاط، بات يفتقر إلى الأدوات التي تتيح له خوض صراع متكافئ مع المؤسّسة، بعدما أفقدته معظم أوراقه وأرغمته على التخلّي عن رجاله الواحد تلو الآخر.

معنى آخر لشارلوتسفيل

التزامن بين إضعاف ترامب تجاه المؤسّسة واعتراض فئات مؤيّدة له على ازالة تمثال الجنرال روبرت لي (قائد القوات البرية الكونفدرالية في الحرب الأهلية) من مدينة شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا لم يكن تعبيراً عن إحباط قاعدته البيضاء، بقدر ما كان انتقالاً للصراع من حيّز إلى آخر. فبعد استحالة حسم المعركة لمصلحة ترامب في الحيّز السياسي الذي تعبّر عنه نزاعات المؤسّسة، تسبّبت حادثة إزالة التمثال في نقلها إلى الحيّز الرمزي، حيث لا وجود لمراكز قوى تحتكر التعبير عن معارضة الرئيس، بل ثمّة فقط وضوح في الصراع بين قوى شعبية لكلٍّ منها ثقلٌ كبيرٌ على الأرض، يمكنه عبر الاحتجاج والتظاهر إظهار ما استطاعت المؤسّسة ببراعة قلَّ نظيرها إخفاءه أو طمسه. الفاشية هنا لا تعود ــ فقط ــ تعبيراً عن تيار معزول سياسياً واجتماعياً، بل تصبح حاملاً لفئات اجتماعية لم يُسمَح لها بالتمثّل كما يجب. وحين تمثّلت في الإدارة وأصبح لديها وجود فعلي وكبير داخل المؤسّسات المنتخبة، مُنعت مجدداً من تنفيذ برنامجها بسبب تعارُضه مع توجّهات النخبة التقليدية في الولايات المتحدة. بهذا المعنى، فانّ الدعوة إلى عزلها مجدداً ليست فقط تعبيراً عن تيار شعبي رافض لاستعادة تقاليد العبودية ورموزها في سياق اندثارها فعلياً، بل هي أيضاً ممانعة ــ من جانب اليسار تحديداً ــ لترك هؤلاء يعبرون عن إحباطهم من الهزيمة التي مُنوا بها في الإدارة عبر التمسُّك بما يعتبرونه «رموزهم التاريخية». وهذا المسار قد يكون مفيداً لمنع التمثّل برموز العبودية في كلِّ مرّة تقع فيها هزيمة لهذا التيار، لكنه لن يفضي بالضرورة إلى تراجع النزعة الفاشية لدى هؤلاء، بل قد يفاقمهما إذا تبيَّن بالفعل أنهم سيُحرَمون من التظاهر في الشارع بمعزل عن السبب بعد حرمانهم من تنفيذ مطالبهم إثر وصول ممثِّلهم الفعلي إلى الرئاسة.
* كاتب سوري