برغم تفاوت التقديرات بين المراكز المتخصصة بشأن حجم الصادرات العسكرية الروسية، ثمة إجماع على أن موسكو تعدّ اليوم اللاعب الرئيسي في هذا المجال، باعتبارها ثاني مصدّر للصناعات الدفاعية على المستوى العالمي، بعد الولايات المتحدة.وتُعَدّ صادرات السلاح من بين المصادر الرئيسية للمداخيل في الاقتصاد الروسي.

وعلى سبيل المثال، فإنّ إجمالي الصادرات الروسية لعام 2016، بلغت ما يقرب من 286 مليار دولار، وفقاً لمعطيات الوكالة الفيدرالية للتعاون العسكري والتقني، وقد شكّلت الصادرات الدفاعية فيها نسبة 5.2 في المئة، بواقع 15 مليار دولار.
قد تبدو نسبة 5.2 في المئة رقماً ضئيلاً، إذا ما نظر إلى الأمر من زاوية واسعة، ولكن التدقيق أكثر في المعطيات الإحصائية يقود إلى نتيجة مغايرة، إذا ما تعلّق الأمر بحصة الصادرات العسكرية من إجمالي الصادرات الصناعية.
وللتوضيح أكثر، فإنّ المواد الخام - وعلى رأسها النفط والغاز - تشكل 62 في المئة من إجمالي صادرات روسيا، وإذا ما حُيِّدَت من بيانات التجارة الخارجية لروسية، فستحتل الصادرات الدفاعية 60 في المئة من إجمالي الصادرات الصناعية التي بلغت 24.4 مليار دولار في عام 2015.

أهمية الصادرات العسكرية
ترتبط بالحضور المتنامي
على الساحة الدولية

ولكن أهمية الصادرات العسكرية لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحضور الروسي المتنامي على الساحة الدولية، وهو ما عبّر عنه الرئيس فلاديمير بوتين في أحد خطاباته بالقول إن «التعاون العسكري والتقني الفعال يشكّل أداة مهمة في دعم مصالحنا الوطنية على المستوى السياسي، كما الاقتصادي».
انطلاقاً من ذلك، باتت الصادرات العسكرية من بين المظاهر الأشد تعبيراً عن تطوّر العلاقات الدولية لروسيا، سواء كانت وجهتها دولاً شريكة تجارياً مثل الصين والهند والجزائر وكازاخستان وفنزويلا، أو دولاً تتجاوز علاقاتها الثنائية مع روسيا الطابع التجاري، لتصل إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، كما هي الحال بالنسبة إلى أرمينيا وبيلاروسيا، العضوان في معاهدة الأمن الجماعي، أو حتى الدول التي باتت في صلب أولويات الأمن القومي الروسي مثل سوريا وقرغيزيا وطاجكستان.
فضلاً عن ذلك، ثمة من ينظر إلى الصادرات العسكرية من زواية مرتبطة بالاستقرار السياسي داخل روسيا نفسها، فبحسب وزارة التجارة والصناعة الروسية، توفّر الصناعات العسكرية فرص عمل لأكثر من 1.3 مليون شخص، ثلثهم من الطبقة الوسطى، وهي تؤثر مباشرةً بمستوى حياة أكثر من 400 ألف عالمٍ ومهندسٍ وتقني، معظمهم من الوطنيين الموالين لبوتين.
كذلك، فإن الصناعات العسكرية باتت تمثل الأداة الدعائية الأقوى للدولة الروسية، على نحو قد يتجاوز ما كانت عليه في أيام الاتحاد السوفياتي. ويكفي في هذا السياق إلقاء نظرة سريعة على مختلف وسائل الإعلام الروسية - ولا سيما الحكومية - للتعرف إلى المكانة التي تجعل تلك الصناعات درّة تاج السياسة والاقتصاد في البلاد.
ومنذ مطلع الألفية الثالثة، سلكت الصناعات والصادرات العسكرية الروسية مساراً تصاعدياً سريعاً، على نحو يجعلها أحد أهم إنجازات عهد فلاديمير بوتين.
وغالباً ما تركز وسائل الإعلام الروسية على دور الرئيس في هذا السياق، من دون إهمال الدور المحوري لشخص آخر، هو سيرغي تشيمزوف، صديق بوتين منذ أيام الخدمة الاستخبارية في ألمانيا الشرقية، الذي يتولى حالياً رئاسة مجموعة «روستيك»، وهي الشركة الأم لـ«روسوبورون إكسبورت» التي تتولى تنفيذ صفقات التسليح مع الخارج.
وليس الحديث عن دور بوتين مجرّد دعاية سياسية، فالإحصاءات تظهر اقتران مرحلة الازدهار في مجال الصناعات الدفاعية بوصول الأخير إلى قمة هرم القيادة الروسية. ويكفي في هذا السياق التذكير بأن حجم الصادرات العسكرية ارتفع بمعدل 440 في المئة من 3.4 مليارات دولار في عام 1999 (حين تولى بوتين رئاسة الحكومة للمرة الأولى) إلى 15.7 مليار دولار في عام 2013.
ولا شك في أن عوامل عدّة أسهمت في حلول العصر الذهبي للصادرات العسكرية خلال السنوات الخمسة عشر الماضية، وذلك على مستويين: خارجي وداخلي.
ويمكن رصد العوامل الخارجية من خلال الربط بين حجم الصادرات العسكرية الروسية من جهة، وبين الدول التي تستهدفها تلك الصادرات وحجم إنفاقها العسكري من جهة أخرى.
وبحسب أرقام «روسوبورون إكسبورت»، تصدِّر روسيا الأسلحة والمنظومات والمعدات العسكرية إلى أكثر من 116 دولة، غير أن دولتين أساسيتين تستحوذان على 80 في المئة من تلك الصادرات، هما الصين والهند اللتان رفعتا إنفاقهما العسكري بنحو أربعة أضعاف خلال العقد الأول من الألفية الثالثة.
وإلى جانب الهند والصين، اللتين تندرجان ضمن فئة الاقتصاديات السريعة النمو، ثمة فئة ثانية يمكن إدراج الدول المستوردة للسلاح الروسي فيها، وهي الاقتصاديات النفطية، التي استفادت من الارتفاع الكبير في الأسعار العالمية، خلال العقد الماضي، لزيادة إنفاقها العسكري، كما هي الحال بالنسبة إلى فنزويلا، والجزائر، والعراق، وأذربيجان، وماليزيا، وفييتنام.
لكن الأمر لا يقتصر على العامل الاقتصادي، فالتطورات السياسية كانت محرّكاً للكثير من الدول على تفضيل السلاح الروسي على سواه، كالصين التي واجهت حظراً غربياً منذ أواخر الثمانينيات، على خلفية أحداث «تيانمين»، والهند التي استهدفتها عقوبات أميركية بين العامين 1998 و2001، على خلفية تجربتها النووية، إلى جانب فنزويلا، التي بدّلت وجهتها نحو الاسواق الروسية بعد وصول رئيس يساري إلى الحكم في نهاية التسعينيات.
أما العوامل الداخلية، فتعود ــ بالدرجة الأولى ــ إلى عملية إعادة هيكلة للصناعات العسكرية، جعلت شركة «روسوبورون إكسبورت» الحكومية الجهة الأساسية المكلّفة تنفيذ صفقات التسليح مع الخارج - على نحو يقترب من الاحتكار - خلافاً لما كانت عليه الأوضاع خلال التسعينيات، حين هيمنت شركات خاصة على الصناعات العسكرية، مع وجود ثلاث شركات حكومية تفتقر إلى استراتيجية موحدة، هي «روسفوروجينيي» (تصدير الصناعات الحديثة إلى الخارج)، و«بروميسكبورت» (تصريف فائض السلاح لدى وزارة الدفاع)، و«روستكنولوجي» (إبرام صفقات التسليح الداخلية).
وبرغم ما سبق، تبدو الصادرات العسكرية الروسية اليوم أمام مفترق طرق، فبعد فترة الصعود المطّرد التي عرفتها منذ عام 2000، أخذ نموّها في التراجع من 15.7 مليار دولار في عام 2013، إلى 15.5 ملياراً في عام 2014، و14.5 ملياراً في عام 2015، فيما تشير معطيات العامين المنصرم والحالي، إلى احتمال دخولها في مرحلة ركود.
والمثير للانتباه في هذا السياق، أن التراجع في حجم الصادرات العسكرية الروسية يسير بمنحى معاكس لزيادة في الإنفاق العسكري لدول الاستيراد من 273.1 مليار دولار في عام 2013 إلى 309.7 مليارات دولار في عام 2015، ما يطرح تساؤلات عن سبب هذه الظاهرة.
في الواقع، لا يمكن تفسير التراجع الذي تشهده الصادرات العسكرية بمعزل عن تحديد طبيعتها، وذلك وفق التصنيفات الأساسية المعتمدة من قبل نائب مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيا الروسي قسطنطين ماكيينكو.
التصنيف الأول يسمّى «النموذج العسكري»، حيث تتحكم الاعتبارات العسكرية بخيارات الاستيراد، وتحتل الفعالية القتالية الأولوية على حساب العامل الاقتصادي، وهو ما ينطبق على الدول التي تواجه تهديدات مفاجئة، تجعلها تولي اهتماماً كبيراً بسرعة التوريدات والتدريبات (مثل العراق وسوريا).
والتصنيف الثاني يسمى «نموذج التبعية»، والمقصود بذلك أن الكثير من الدول تفضل تقليل مصادر تسليحها، لاعتبارات متعلقة بالتدريب، وسبل توفير قطع الغيار، وهو ما يفسر تركيز بعضها على السلاح الروسي، والبعض الآخر على السلاح الأميركي... إلخ.
والتصنيف الثالث يسمى «النموذج السياسي»، وتحتل فيه التحالفات والمصالح المشتركة، وكذلك العقوبات الدولية، الأولوية في إبرام الصفقات العسكرية، كما هي الحال، بالنسبة إلى الصادرات الروسية إلى أرمينيا وبيلاروسيا وسوريا وفنزويلا.
وأما التصنيف الرابع، فيسمى «نموذج الفساد» الذي تتحكم فيه المصالح الداخلية للمسؤولين على الاعتبارات الأخرى العسكرية والاقتصادية والسياسية، كما هي الحال في بعض دول الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.
ولا يختلف اثنان على أن العوامل المرتبطة بالتصنيفات الأربعة السابقة، كان لها تأثير كبير في دفع الصادرات الروسية إلى مستوى مرتفع، خلال العقد الماضي، وهي نفسها التي أرخت بظلالها على التراجع الأخير، بالنظر إلى متغيرات عدّة أثّرت في كل منها.
وإلى جانب ما سبق، يمكن إضافة عوامل أخرى، من بينها تهاوي أسعار النفط، والتحولات السياسية في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا (ولا سيما الحالتان الليبية والسورية، بما رافقهما من تعطيل للاتفاقيات)، والعقوبات الغربية على روسيا نفسها، فضلاً عن تزايد تركيز الصناعات الروسية على تلبية الاحتياجات الداخلية (مشاريع تطوير منظومات «أس 400» و«أس 500» للدفاعات الجوية، وطائرات «بافكا» من الجيل الخامس، ودبابات «أرماتا»... إلخ).
وانطلاقاً من الواقع الحالي، والتوقعات المستقبلية، يمكن الحديث عن ثلاثة مسارات قد تسلكها الصادرات العسكرية الروسية:
الأول تشاؤمي، لكن احتمالاته ضئيلة للغاية، ويتمثل في حدوث تغيير سياسي في روسيا، على غرار ما حدث في الاتحاد السوفياتي قبل 26 عاماً.
أما الثاني فتفاؤلي، وتراوح احتمالاته بين انتعاش جديد في أسعار النفط، وبروز أسواق جديدة، أو توترات عالمية متجددة (سواء في الشرق الأوسط أو الشرق الأقصى)، أو انتعاش اقتصادي ينهي الاقتطاعات الأخيرة في الميزانية العسكرية الروسية (25 في المئة).
وأما الثالث فواقعي، ويرتبط بتنفيذ روسيا للعقود القائمة حالياً، والعمل على توقيع عقود جديدة، مع تنامي الحاجة إلى المنظومات غير التقليدية الروسية، بدءاً بأنظمة الدفاع الجوي، مروراً بالغواصات الصغيرة والروبوتات القتالية، وصولاً إلى منظومات الحرب الإلكترونية.




تأثيرات التدخل في سوريا

يرى العديد من المحللين أنّ الترويج لمنظومات التسليح الروسية كانت من بين عوامل الدفع للتدخل العسكري الروسي في سوريا. بطبيعة الحال، لا يمكن اختزال أهداف الحملة العسكرية بهذا الهدف، ومع ذلك فإن ما يقوله هؤلاء المحللون ربما كان ينطوي على بعض الحقائق، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى الحماسة التي يبديها مسؤولو التصنيع العسكري في روسيا تجاه التدخل العسكري في سوريا، حتى إن «روسوبورون إكسبورت» نفسها كثّفت استخدام المواد الدعائية التي تظهر نماذج من الأسلحة المستخدمة على جبهات القتال السورية. وبرغم ذلك، ثمة أسباب عدّة تدفع إلى خفض سقف التوقعات بشأن تأثير الحملة العسكرية في سوريا على مبيعات الأسلحة، وقد لخصها تقرير «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» على النحو الآتي:
ــ أولاً، طبيعة القتال في سوريا قد لا تشكل حافزاً للمستوردين. وفي ما عدا الصين، فإنّ الدول التي تشكل وجهة تصدير للسلاح الروسي غير منخرطة في حملات جوية ضد مجموعات مسلحة.
ــ ثانياً، الجزء الأكبر من المنظومات المستخدمة في سوريا ليست جديدة، وإن كان الكثير منها قد تم تحديثه.
ــ ثالثاً، بعض المنظومات المستخدمة من الجيش الروسي ليست معروضة للبيع إلى جهات خارجية، حتى الآن، إذ يقتصر استخدامها على الجيش الروسي وحده، على غرار صواريخ «كاليبر» المجنحة، والقاذفات الاستراتيجية من طراز «توبوليف 22 أم 3» و«توبوليف 160».
ــ رابعاً، حتى الآن لم يجرِ أي استخدام عملاني لمنظومات الدفاع الجوي من طراز «أس 400» أو «بانتسير».
برغم ذلك، قد تشكل الحملة الروسية في سوريا فرصة لترويج بعض من الأنظمة التسليحية الحديثة مثل القاذفات التكتيكية، والطوافات القتالية، منظومات الرادار والتشويش، منظومات التسليح البري... إلخ.