ناجي العلي ليس مجرد فنان كاريكاتور، وحنظلة ليس مجرد رمزٍ للنضال الفلسطيني. ناجي العلي كان أهم وأخطر مثقف فلسطيني – عضوي، وفق المفهوم الغرامشي تحديداً – خلال تاريخ الشعب الفلسطيني في مرحلة ما بعد 1967. وكانت جرعة الوعي الحاد الذي يقدمّه للطبقة الشعبيّة الفلسطينيّة من خلال الكاريكاتور بمثابة كارثة يوميّة تلحق بالرجعيّة الفلسطينيّة مع صحف الصباح..
حنظلة كان تجسيداً لكل ما يمثله ناجي العلي. والعلي - كمثقف - كان نقيضاً لكل ما يمثله اليمين الرجعي الفلسطيني المهيمن، ورمزه الأعلى ياسر عرفات. رسومات العلي كانت ظاهرة عالميّة في ترفيع فن الكاريكاتور برمته إلى أداة تواصل ثوري مع أوسع القطاعات الجماهيريّة من دون الوقوع في مطب الرطانات النضاليّة والخطابات الخشبيّة التي كانت تستهدف بناء وعي زائف، ولا يستوعب معظمها الفلسطيني العادي المحاصر بالتجهيل والقمع والعزل. 
لكن نشوء هذه الرمزيّة النقيضة بين العلي وعرفات، كما تحليل مشروع العلي الفني - الفكري المناضل في مقابل سيرة تعايش منظومة الهيمنة الفلسطينيّة مع مشروع الاحتلال، لا يمكن فهمها اليوم إلا من خلال مقاربة تاريخيّة للأجواء التي أنتجت هذين الرّمزين، والإطار الطبقي الذي هو مسرح صراعهما الوجودي. 
الواقع أنه يستحيل نظريّاً فهم تاريخ الشعب الفلسطيني منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى اليوم من دون تحليل كلي يأخذ في الاعتبار ذلك التداخل بين منظومتي الهيمنة ــ اللتين أحكم تشابكهما الموضوعي والفعلي السيطرة على مصائر الفلسطينيين ومآلاتهم - منظومة الغزو الصهيوني ودولة الاحتلال الإسرائيلي، ومنظومة الهيمنة الفلسطينية اليمينيّة عبر مراحل تشكلها المختلفة. 
الغزو الصهيوني الذي بدأت طلائعه بالظهور في جنوب سوريا منذ عام 1882 وتكرّس دولة معترفاً بها عالميّاً منذ 1948 ثم نواة إمبراطوريّة إقليميّة تتحكم بمجالها الجغرافي منذ عام 1967 وإلى وقتنا الراهن، فرض إيقاعاً شديد السلبيّة لا يزال قائماً كل لحظة على مسار تشكل وصيغ عيش الفلسطينيين ليس تحت الاحتلال المباشر فحسب، بل وكذلك في المنافي ومعازل اللجوء. 
لكن مأساة الفلسطينيين الأكبر كانت في نخبتهم اليمينيّة ذات النفس البطركي البغيض التي تولت ـــ بفضل تعاونها الوثيق مع منظومة هيمنة الاحتلال وتشكيلات الهيمنة الموازية في الدول العربيّة ـــ إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتوجيهه إلى مرافئ آمنة تحقق غايات الاحتلال مع الحفاظ بشكل أو آخر على مصالحها الطبقيّة الضيقة. 
منظومة الهيمنة الفلسطينية هذه بنيت على أساس طبقي محض، ووظفت لضمان استمراريّة سيطرتها كل ترسانة المفاهيم الشوفينيّة والأفكار الأسطوريّة والتابوهات المقدّسة في الثقافة العربية لتلعب أدواراً لا تنسى في ترويض الشعبي الفلسطيني وتمكين مشروع الاحتلال ومحاربة العمل المقاوم، بينما قدّمت أدوات السلطة القمعيّة التي وفرها الجانب الإسرائيلي من جيش وشرطة واستخبارات ونظام سجون وقمع جسدي واقتصادي واجتماعي، عدَّة السيطرة القسريّة عندما تكون القيادة «الشرعيّة» للفلسطينيين غير كافية لتأمين الهدوء اللازم لتمرير المشروع الصهيوني في المنطقة. 
بدأ هذا التعاون بين فكي الهيمنة في وقت جد مبكر من تاريخ القضيّة الفلسطينيّة عبر استقطاب الوكالة اليهوديّة رموز الإقطاع وزعامات العشائر ورجال الدين ونواة البرجوازيّة الفلسطينيّة للعمل في خدمتها بطرق مختلفة، وهي دفعت بالتعاون مع سلطة الانتداب الإنكليزي بعد 1917 باتجاه تولي هؤلاء تمثيل مصالح الطرف الفلسطيني في الصراع، فكان تصعيد شخصيات مثل الحاج أمين الحسيني ــ الموظف أساساً لدى سلطة الانتداب ـــ ليكون النظير الفلسطيني لشبكة القيادات العربيّة الموالية للاستعمار: نوري السعيد في العراق، وعبد الله بن الحسين في الأردن، وإبن سعود في نجد والحجاز. وكان ذلك دائماً على حساب أي صعود محتمل لقيادات وطنيّة من طبقة العمال والفلاحين سواء من خلال التصفية الجسدية المباشرة أو أقله من خلال تفتيت قواعد تأييدها بشراء الذمم وتجييش العواطف. كان المفتي شخصيّاً وراء اغتيال بعضهم كميشيل ميتري رئيس جمعيّة العمال العرب في يافا، بينما قتل مئات الأشخاص «الخطرين» الآخرين في ظروف غامضة لم يكشف عن معظمها إلى اليوم. وقد تولت النخبة الفلسطينيّة العميلة حينها تقديم خدمات استخباريّة ثمينة للإسرائيليين ضد أي شخصيات قياديّة قد تتسبب في مشاكل للاحتلال على نحو مكّن العصابات الصهيونيّة من اصطيادهم واحداً واحداً وبالاسم ضمن قوائم مجهزة في اليوم التالي لقيام الدولة العبريّة... ليتكرر الأمر لاحقاً في الضفة الغربيّة 1967 وبيروت 1982، لكن ذلك مجاله مكان آخر. 
بطولات اليمين الفلسطيني في إفشال الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 - وهي التي استدعى من أجلها الإنكليز قوات أكثر عدداً من جيشها الذي كان يحكم الهند كلّها إضافة إلى الطائرات والمدرعات الحديثة – لا يمكن إخفاؤها بأي شكل. تذكر المصادر الإسرائيليّة من تلك الفترة أن جهود هذا اليمين في تفتيت العمل الفلسطيني المقاوم كانت حاسمة في تسهيل قيام الدولة العبريّة، إذ أن عدد المقاومين الفلسطينيين الذين حملوا السلاح في مواجهات 1948 لم يتجاوز الثلاثة آلاف إلا بقليل. 
تعاون اليمين الفلسطيني في الضفة الغربيّة بعد 1948 مع الأردنيين في تنظيم شؤون الهيمنة المؤقتة على ما تبقى من فلسطين وتآمرت نخبته مع نظام الملك حسين على دفن مشروع قيام جمهوريّة فلسطينيّة مستقلة في مواجهة دولة الاحتلال، وهي ما زالت مستمرة في هذا الدور إلى الآن مع تغير الأسماء والمعطيات والمهمات. لكن تأثير تلك النخبة المحليّة المحافظة القديمة بقي محصوراً في نطاق الضفة الغربيّة مقابل صعود نخبة بديلة من البرجوازيّة الناشئة في المنافي الفلسطينيّة أو من الكوادر التي نجحت في تحقيق نوع من صعود طبقي من خلال الالتحاق بوظائف مجزية ـ نسبيّاً - في دول الخليج العربي.
دفعت إسرائيل وأنظمة الهيمنة في الدول العربيّة المجاورة لفلسطين باتجاه تمكين قيادات من هذه الطبقة لتزعم الفلسطينيين بالنظر إلى الجموح الثوري المتصاعد في أجواء اللاجئين وظهور مقدمات على الأرض لبناء وعي يساري بينهم يقدم مقاربة مختلفة للصراع. لم تكن الأنظمة العربيّة بوارد فتح هذا الباب ليس فقط إخلاصاً منها لمصالح المشروع الصهيوني، لكن أساساً لمنع انتقال نموذج الفدائي المقاوم إلى أجواء شعوبهم الخانعة.
هكذا التقت مصالح كل الأطراف المهيمنة على ترفيع حركة «فتح» اليمينيّة على حساب الجبهة الشعبيّة، وتولى نظام عبد الناصر ــ الشعبوي المعادي بشدة لليسار - تسليم ياسر عرفات شخصيّاً مقاليد تمثيل الفلسطينيين عبر ما عرف وقتها بمنظمة التحرير الفلسطينيّة – التي كانت تماماً بمثابة نظام عربي يميني آخر يتولى إدارة شؤون الشعب المهزوم. كان ذلك في عام 1969 وهو العام الذي كشف فيه ناجي العلي عن «حنظلة»، الرمز النقيض لكل ما يمثله ياسر عرفات كرمز لغلبة منظومة الهيمنة الرجعيّة الفلسطينية بتشبيكاتها العربيّة والعبريّة على مصير الفلسطينيين. 
بذلت أجهزة الدعاية الأيديولوجيّة المصريّة المسيطرة على الإعلام العربي في تلك المرحلة جهوداً جبارة لتلميع خط عرفات وشخصه، وقدمته للجماهير العربيّة الهادرة من المحيط إلى الخليج كرمز وحيد لنضال الشعب الفلسطيني، وتعاونت مؤسسات الإعلام العربي والغربي والعبري في تكريس تلك الصورة مع تغييب وتدريجي متعمد للصوت الآخر بالتجاهل والاغتيال الجسدي. قتل غسان كنفاني وآخرون من المثقفين الثوريين وقتها بغرض إطفاء السرديّة الفلسطينية البديلة والمحافظة على صوت واحد هو صوت اليمين الرجعي. 
غسان كنفاني بالذات هو من اكتشف ناجي العلي وتلك القوة المبهرة على التعبير التي امتلكها ذلك الفنان المهمش ابن المعازل الفلسطينية في لبنان برسوماته الشديدة البساطة التي كانت أبلغ كلاماً من أطنان الكتب وأطلقهما في فضاء الصحافة. 
العلي ــ المثقف الطّالع من عمق الطبقة الشعبيّة الفلسطينيّة ــ بذكائه الحاد وانحيازه السياسي الحاسم، تحّول في جرعات وعي يوميّة ينشرها على شكل كاريكاتورات، إلى ناطق شبه وحيد باسم تلك الطبقة في مواجهة تقاطع هيمنة الاحتلال الإسرائيلي والنخبة الفلسطينيّة اليمينيّة. 
النقد الذي كان يقدمه العلي من خلال عدد محدود نسبياً من الشخصيات الكاريكاتوريّة، عكست طبيعة صراع الهيمنة الذي كان يعيشه الفلسطينيون: حنظلة - الوعي - الغاضب دوماً، و«الزلمة» الفلسطيني العادي الفقير والمحاصر، وفاطمة – فلسطين، مقابل المرأة البشعة – طبقة البرجوازية، والجندي الإسرائيلي – رمز الاحتلال – ثم وأساساً نماذج عدة من الشخصيات ذات المؤخرات المنتفخة التي تمثل رموز الرجعية الفلسطينية والعربيّة. وحتى عندما يصدف أن تظهر شخصيّة أخرى كالمسيح، أو ياسر عرفات، فهي تنتمي تلقائياً ـ وفق الرسم ـ إلى أحد طرفي النزاع. 
حاول كثيرون نصح العلي بتخفيف انتقاداته لعرفات وسياساته، بل وهو أبعد من الكويت وهاجر بعدها إلى لندن - حيث قتل - بسبب تلك التهديدات والمضايقات التي كان يتعرض لها من قبل أزلام اليمين الفلسطيني. لكن ناجي العلي لم يكن ليكون غير ناجي العلي. وهكذا بدل من أن يهدأ، زاد انفعاله لا سيما بعد 1982. وحتى حنظلة نفسه لم يعد بعدها يكتفي بالوقوف ويديه خلف ظهره، بل حمل الحجارة وألقاها على الإسرائيليين وذوي المؤخرات المنتفخة على حد سواء، وارتفعت لهجة نقده للنهج العرفاتي الاستسلامي والفساد الذي قامت عليه منظومته إلى حد الصراحة المباشرة على نحو لم يعد يمكن التعايش معه. 

أفكاره صارت سرديّة أمينة لنضال هذا الشعب

كان العلي ـ النبي ـــ يعلم منذ اليوم الأول أنه سيدفع ثمن أفكاره من حياته ذاتها. منذ البيان الأول لحنظلة عام 1969، كان يعيش اياماً من زمن مستعار يعرف أنها ستنتهي قريباً. وهكذا كان. يقول تقرير الشرطة البريطانيّة عن اغتيال العلي يوم 22 يوليو 1987 إن منفذ عمليّة الاغتيال هو أحد منتسبي منظمة التحرير الفلسطينية في لندن الذي كان معروفاً لدى الأجواء الاستخباراتيّة كما هو حال معظم كوادر المنظمة بالطبع. وقد غادر في اليوم التالي لاغتيال العلي على رحلة مغادرة من مانشستر إلى قبرص ويعتقد أنه إنتقل منها متجهاً إلى تونس أو الجزائر ـ مقرات عرفات حينها - ، لينقطع أثره بعدها ويختفي عن الأضواء. 
حاول كثيرون إلصاق تهمة تصفية العلي بالموساد الإسرائيلي. فالعقل العربي الساذج لم يكن ليتقبل فكرة أن ياسر عرفات - رمز النضال الفلسطيني كما كرسه إعلام الهيمنة - يمكن أن يقتل ذلك الولد المشاغب، فأحال التهمة للعدو الرسمي. ليس ذلك صحيحاً مطلقاً. كان ناجي العلي وحده في ذلك الوقت نقيضاً للهيمنة الفلسطينيّة المتشابكة مع هيمنة الاحتلال. حنظلة الرمز كان الشوكة في مؤخرة عرفات التي تقض مضجعه كل يوم وليلة. و«فاطمة» كبوصلة تكذّب في الصباح كل ما قاله عرفات في المساء. كان «الزلمة» على وشك التمرد وكسر هيمنة أزلام المنظمة الرجعيّة الذين تكيفوا ليصبحوا اليوم سلطة دايتونيّة رام الله. حتى المسيح المصلوب مد بيده ليلقي بحجر على الاحتلال. لم يكن ممكناً أن تتعايش سرديّة الرمز ناجي العلي مع سرديّة الرمز ياسر عرفات. كان لا بدّ من أن يطلق «الختيار» النار على نقيضه ليقتله. لم يكن الختيار ليدرك وقتها أنّ ناجي العلي لا يموت، وأن تغييب جسده كان استحقاقاً لا بد منه لانتصار سرديته النهائي على حساب سرديّة منظومة الهيمنة الفلسطينيّة ورمزها المتهالك في مبنى مقاطعته الهزيلة على ناصية شارع التنسيق الأمني مع الاحتلال. 
حنظلة - الذي هو ناجي العلي ذاته - صار أيقونة الفلسطينيين والثوريين عبر العالم، وأفكاره صارت سرديّة أمينة لنضال هذا الشعب لا يمكن لمؤرخ عاقل تجاهلها، وأداؤه الثوري سيبقى أملاً لكل منا بإمكان وجود مثقف عربي ـ غير جديد - يقول لا في وجه «الهيمنة».