أيّاماً قليلة قبل موعد الذكرى الثلاثين لاستشهاد ناجي العلي، خطر لشخصيّة بارزة في المشهد السياسي اللبناني، أن توجّه إهانة جديدة إلى الشعب الفلسطيني، ماضية في ممارسة تلك الهواية التي تميّز اليمين الانعزالي في بلد العسل والبخور، بين «رهاب الغريب» و«الهويّة المذعورة» و«السيادة المستهدفة».
المغرّد زعيم تيّار أساسي في البلد، متحالف مع المقاومة تحديداً، نشر على حسابه في أحد مواقع التواصل الإجتماعي صورة بالأبيض والأسود لمخيّم عين الحلوة «في أوّل الستينيات»، ويبدو كناية عن مجموعة خيم منصوبة في خطوط متوازية، فوق أرض بور عند أسفل تلّة، يفترض أنّها اللبنات الأولى لمخيّم اللاجئين المعروف في الجنوب اللبناني. وأرفقها بهذا التعليق: «ما تقبلوا بأي مخيّم يا لبنانيّي #ليبقى_إلنا_وطن». طبعاً ليس هدف هذا الموقف البليد سياسيّاً، والمشبوه أخلاقيّاً ووطنيّاً، سوى التجارة بـ «الخوف»، ومحاولة اقناع الناس (الفئة التي يتنافس عليها مع خصوم/ حلفاء أسوأ منه) بأن «الخطر» الذي يحدّق بهم، مصدره طيف «الغريب» الطالع من مسرحيّة للأخوين رحباني، لا مجارير النظام الطائفي الاقطاعي المنهار الذي تتناهشه طبقة مافيويّة، جاهزة لكل المساومات على الكرامة الوطنيّة، من أجل ثرواتها وامتيازاتها… نظام فاسد بائس، تجدر الإشارة إلى أن الفارس «الاصلاحي» الخائف على «وطن ـــ إلنا» و«اللبنانيي»، تمركز فيه بنجاح ملحوظ، وبات شريكاً أساسيّاً في اللعبة الموبوءة.
بعد يوم من تغريدة «مهووس عين الحلوة»، وعبر برنامج تلفزيوني مرتّب بعناية على خلفيّة أيديولوجيّة وبأجندة سياسية واضحة، لاقاه Zorro على «دبابة اسرائيلية» «لتحرير لبنان من الفلسطينيين والسوريين». و«زورو» هذا أحد «نواب الشعب اللبناني»، وابن زعيم «سيادي» آخر باع روحه للعدو الصهيوني. هكذا اكتملت الجوقة في زمن الربيع العربي المسرطن! تلك الجوقة التي يعرفها ناجي جيّداً: «إنت مسلم أو مسيحي، سنّي أو شيعي، درزي أو علوي، قبطي أو ماروني، روم كثوليك أو روم أرثـ… ؟»، يسأل القزم السمين، البلا عنق، بالبذلة والكرافات، مواطناً معدماً جالساً على برميل فارغ، في أحد رسومه الشهيرة. فيجيبه هذا الأخير: «أنا عربي يا جحش»! لقحوا أطفالكم برسوم ناجي العلي.
مخيّم عين الحلوة المحاصر اليوم بنيران مجموعات محصورة من المرتزقة والتكفيريين والموتورين لا تمثّل سكانه، ولا تخدم مصالحهم، ولا تؤمن بقضيّة فلسطين، هو جزء من تركيبة وطننا ومجتمعنا، ويعيش فيه أهلنا، لا جحافل الغرباء الذين «أخذوا مكاننا» كما يخيّل للانعزاليين الجدد. مخيّم عين الحلوة هو المكان الذين انطلق منه ناجي العلي في تغريبته الفريدة التي غيّرت مسار الكاريكاتور العربي، ولعبت دوراً حاسماً في وعينا السياسي والثقافي والاجتماعي. «عين الحلوة» رسمه ناجي مراراً، وأشهر الرسمات تلك التي تجسّد رأساً عملاقاً لامرأة بالطرحة الفلسطينيّة، تنهمر من عينها الدموع، فيما الجندي الاسرائيلي يقف كالحشرة عند سفحها. عين الحلوة؟ هنا كان ناجي العلي قد أوصى أن يدفن، على مرمى حجر من فلسطين، لولا وعورة الواقع التي أبقته سجين مقبرة باردة، في الأرض الغريبة. سيبقى المخيّم مكاناً عالي الرمزيّة، غالياً على قلوب اللبنانيين وجزءاً من وجدانهم. وكل محاولات أبلسته، عمداً أو عن جهل وتعصّب، وتحميله أخطائنا وذنوب نظامنا المريض، لا يمكن إلا أن تصب في مصلحة أفيخاي وشركائه.
ناجي العلي خرج من المخيّم، لكن روحه بقيت هناك. صار أشهر الفنانين العرب، وكانت الأمّة تصحو كلّ صباح على غضبه وصراخه، على نقده اللاذع واتهاماته المباشرة وتعليقاته المُرّة، على قراءته السياسية ورؤياه الثاقبة لجوهر الصراع، وحتميّة المواجهة مع العدو الاسرائيلي ورعاته الغربيين وخدمه العرب. كان يرسم بالسكين وجعاً على شكل الوطن الكبير، في مكان ما بين جورج غروس ورينيه ماغريت. الفنّان الملتزم جسّد الحكام والأسياد العرب بكروشهم المقيتة، وابن الشعب الصبور بملابسه المرقّعة، والمرأة العربيّة التي تختصر العذابات والآمال، والفدائي بالكوفيّة والبندقيّة الذي يشكّل أفقنا الوحيد… كان فنّه الثوري مطعّماً بكلام كثير، شاعري أحياناً، وبلمسات سريالية مدهشة. كان صادقاً وبسيطاً وواضحاً. لم يرحم أحداً، لا ياسر عرفات ولا محمود درويش. كان صدامياً وشرساً وعنيداً ولا يهادن، حتى حين دخل جنود الاحتلال بيروت، ليعودوا فيهربوا منها كالجرذان. كان وحده فعالاً أكثر من كل الأدبيّات الثوريّة. هذا يفسّر قوّة حضوره اليوم لدى الأجيال الجديدة، من خلال صنوه حنظلة غالباً، على القمصان والجدران وشاشات العالم الافتراضي.
يفرض ناجي نفسه الآن، كما لم يفعل يوماً، وقد بلغ الصراع أوجه مع العدو الإسرائيلي، وبتنا على خطوات قليلة من تحقيق حلمه بالعودة إلى أرض فلسطين. ناجي الملاذ، والأيقونة، والمرجع. ناجي «المثقف المعترِك» بتعبير أستاذه غسان كنفاني، والمبدع الذي لم يهادن حين هادن الآخرون. نستجير به، في هذه الأزمنة العصيبة، الحاسمة. صحيح هناك من تخاذل وتعب واستقال أو تاه ببساطة وضل طريقه… هناك من باع وساوم وتنازل ونخرته الجرثومة المذهبية البغيضة… هناك من غيّر موقعه، وبقي محتفظاً بدمغة المناضل الثوري! لكن أبناء ناجي وورثته كثر، على اتساع رقعة العالم العربي والمنافي وبلاد الشتات الواسعة. حين ضاع بعضنا في سراب «أوسلو» وغرق في متاهاتها، بقي ناجي يحرك ريشته كالمبضع في ضمائرنا. كان الفنان الرائي يعرف تماماً أن العدو الاسرائيلي لا يفهم إلا لغة واحدة، هي لغة الفدائيين، وأن الكفاح المسلّح وحده يشق طريق العودة إلى فلسطين.
بعد أيّام ثلاثة، تحل الذكرى الثلاثون لسقوط ناجي العلي. سقوطه بكاتم صوت مجازي يجمع بين الرجعيّة والاستبداد والتخاذل من الجانب العربي، والهمجيّة الاسرائيلية بحماية الديمقراطيات الكبرى من الجانب الغربي. أليس هذا الوحش الأسطوري المتعدد الرؤوس الذي أمضى ناجي العمر ينازله بالريشة، ويدير له إصبعه الوسطى؟ إسألوا اليوم هؤلاء القتلة: إن فناناً مثل ناجي العلي لا يملك ترف الموت، ما دامت المعركة مستمرّة حتى النصر.