في لبنان مرض عضال يصاب به السياسيون والمقلدون أيضاً. وهذا المرض ليس فيروساً أو عارضاً، هو مثل اللقاح الذي يفترض بمن يرغب العمل السياسي أن يأخذه، حتى يصبح من أهل الدار. ومن يتمنع لبعض الوقت، تَرَهُ أخذه لاحقاً على شكل جرعات، إلى أن يعطي مفعوله.
المرض نتيجة جرثومة تسبّب تلفاً متسارعاً في مركز الأخلاق في الدماغ. وأهم عوارضه ما يحترفه المصاب به لجهة احتراف مهنة «الضحك على الناس». صحيح أنه لا يوجد دليل مكتوب للوصول إلى هذه الحالة، لكن حكايات اللبنانيين تنفع في جمعها ضمن مجلدات تحت عنوان «كيف تصبح نصاباً في ساعات».
والنصب فنون، فيه ما يصرف في السياسة، وفيه ما يصرف في الإدارة وفي المال أيضاً. لكن أهم ما فيه، هو أن تُجمَع المكاسب، مهما تنوعت وتعاظمت، في كيس يوصي المريض بدفنه معه. لكنّ أحداً لا ينفذ هذه الوصية. فيكون الوارث نصاباً بالجينات، ومعه عدة العمل. وهي بالمناسبة عدة قابلة للإيجار أو البيع لمن يرغب من المنتمين صدفة إلى النادي، وهؤلاء كثر أيضاً. أما المواد المستخدمة للنصب، فهي من حواضر البيت والزمان. وفيها تجديد دائم لمواكبة العصر. وصار عندنا في لبنان «بيوت خبرة» عمر بعضها تجاوز المئتي عام، تحولت إلى مركز لتطوير المهارات مقابل بدل. وفي كل مرحلة تشهد تطورات تفرض تبديلاً في اللاعبين، يشتد سوق النصب والنصابين. وتنطلق حملات الدعاية والتسويق للإبداعات الجديدة. وربما يتركز النشاط اليوم في لبنان، على المرغمين بالانتماء إلى طوائف ومذاهب تنظم باسمها كل حفلات النصب.
بما أننا ندخل في مرحلة الاستعداد للانتخابات النيابية، وفي ظل التطورات الكبيرة الحاصلة من حولنا، التي قد تفرض وقائع مختلفة من الآن حتى موعد الانتخابات، فإن صعوبةً ما تواجه سوق النصب، وتسبّب أرقاً للبائعين والشارين أيضاً. وبما أن المؤشرات تقول بأن لا تغييرات شكلية ولا جوهرية ستصيب «أهل الشيعة»، وأن التجديد سيكون موضعياً عند «أهل الدروز»، فإن تثبيت المكاسب والتموضع هو شغل «أهل المسيحيين»، ما يجعل عناصر التشويق تتركز بصورة أساسية عند «أهل السنّة». والأكيد، أن فريق الرئيس سعد الحريري يحتل صدارة المشهد، في ألعاب البقاء والفوضى والوراثة.
يعاني سعد الحريري من تعب كثيرين.
بين خصوم الحريري جهات لا يمكن جمعها مع الآخرين. بمعنى أن شخصيات مثل أسامة سعد وعبد الرحيم مراد وجهاد الصمد وفيصل كرامي لم تكن يوماً تسبح في البحر الذي ينافس الحريري على «الرزق». بل لهؤلاء مواقفهم التي حافظوا عليها لسنوات طويلة، وفيها أن المشكلة تكمن في المرجعية الفكرية والسياسية التي يعتمدها الحريري. كذلك فإن المشكلة في محاولة خلق وقائع معاكسة تماماً لطبيعة أبناء هذه البلاد.
لكن الآخرين، وكل الآخرين، لديهم ما لدى الحريري من مشاكل نمو، وضائقة شعبية، وفقر مدقع في الأفكار. ولديهم أيضاً، حب الارتماء في أحضان خارج يتولى أمرهم، سياسياً أو أمنياً أو مالياً. وجل طموحهم، مشاركة الرجل عدة النصب، لأجل مشاركته قيادة الجمهورنفسه. وأبرز مشاكلهم، أن عدة العمل عندهم، هي نفسها التي عند الحريري، أما عناصر التمايز، فلا تتعدى، حجم الابتسامات، أو عدد القبضايات، أو كيفية التعاطي مع الناس. لكن جوهر ما يفكرون به، سياسياً واقتصادياً، داخلياً وإقليمياً، مطابق إلى حدود كبيرة جداً، مع ما يقول به الحريري نفسه.

بكل ما فيه من خير أو شر، يبقى الحريري
الأكثر وضوحاً والأكثر شفافية

بين الأقربين إلى الحريري، يقود فؤاد السنيورة «نادي العشرين»، أولئك الذين يعترضون على «ضعف» الحريري في مواجهة الحالة الشيعية ــ المسيحية. وغالبيتهم أعضاء في نادي «فاشلون إلى الأبد». يريد هؤلاء أن يتمسك الحريري بما أخرجته الساحرة الشريرة من صندوقها من عدة وشعارات النصب في عام 2005. توقف الزمن عند هؤلاء، وهم يعوّلون على تعب الحريري، واستسلامه لهم، حتى يعودوا إلى استكمال «مسيرة الخسائر دون خجل أو وجل».
يقف إلى جانب هؤلاء، من انشق عن الحريري من شخصيات وقيادات، كالتي ترفع شعار «المواجهة حيث يتخاذل الآخرون»، قد يكون أشرف ريفي أبرز هؤلاء، بما يمثل شخصياً أو كحالة سياسية، لكنها حالة تنزل إلى طبقات أدنى من التمثيل في بيروت والشمال والجنوب والبقاع. ولهؤلاء عدتهم أيضاً، التي اختلط فيها المزح بالجد. فهم لا يعرفون أن رفع الحريري شعار نزع سلاح المقاومة، إنما كان هدفه الدائم هو المقايضة على سلطته ونفوذه داخل الدولة والبلاد. يعتقد المنشقون، عن «هبل»، أنه شعار حقيقي وأصيل و«أصلي» وقابل للتطبيق، حتى ولو كان على دماء الجميع. ومشكلة هؤلاء، أنهم باتوا أسرى شعارات ميتة، فتراهم كمن سقط في رمال متحركة، كلما تحرك لحظة، غرق أكثر.
وإلى جانب الصنفين، نجد صنفاً ثالثاً، يمكن وصفهم بـ«المتلونين». بينهم شخصيات تعتقد أنها تملك ميزة إضافية عن كل جماعة الحريري، باعتبارهم تدربوا على «ألعاب الحبال»، فتراهم يصمتون هنا، وينطقون هناك. عملهم موسمي، مرتبط بحاجات اللحظة. وليس من داعٍ لبذل أي جهد في محاولة معرفة ما الذي يدفعهم إلى الثورة على الحريري، وما الذي يدفعهم إلى الهدوء. وأبرز هؤلاء، نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي في الشمال، وفؤاد مخزومي و«بيروت مدينتي» في بيروت.
وحدهم أبناء التيار الإسلامي، تظهرهم الأحداث وكأنهم من «أصحاب بندقية للإيجار». لديهم قناعات لا تلقى رواجاً شعبياً، فتكشف كل الاستطلاعات هزالة تمثيلهم في كل المناطق. لكنهم، يجيدون، طوعاً أو غصباً، التصدي لمهمات الصراخ والفوضى متى تطلّب الأمر. وهم في حالتنا الراهنة، أهل صبر وسكون، إلى أن يأمر الله بعمل مقبول.
وسط هذا الركام، كيف يمكن الفرز، وكيف يمكن النقاش، وكيف يمكن أن يكون هناك موقف واضح يكفي لزمن انتقالي قد لا يطول؟
في حالة الأقربين، يظهر أن أحداً منهم لم يتعلم، لا قراءة الأحداث ولا نتائجها، وهم أقرب إلى جماعة «أهل الإنكار» الذين ينفون عن أنفسهم صفة الفشل في تحقيق كل ما رفعوه من شعارات. ويعزون خسارتهم إلى قوة خصمهم، متناسين، أنه بين العامين 2005 و2007، تجند العالم كله لخدمته. فصار مجلس الأمن الدولي مثل مجلسهم الوزاري المصغر. وتولى الغرب، بقيادة أميركا وبريطانيا وفرنسا اتخاذ كل ما يلزم من قرارات ومحاكم لمساعدتهم. وتولت ممالك القهر تمويلهم. وشنت إسرائيل حرباً مدمرة لنجدتهم، قبل أن تجنّد الآلاف المؤلفة من مجانين العصر لتعويمهم... وظلوا في حالة فشل. ومشكلة هؤلاء أن الصمت هو جوابهم الوحيد عندما يُسألون: ماذا بمقدوركم أن تفعلوا غير ما يقوم به الحريري؟
أما المنشقون، فلا حول لهم ولا قوة، غير رفع الصوت مكررين شعارات بائدة. ملّ منها جمهورهم قبل أن يتوقف الآخرون عن الاستماع إليها. وعندما سجلوا تقدماً على الحريري، عادوا ليواجهوا مأزق الفشل في تقديم نموذج بديل في الإدارة، ومثالهم الحي، تعثّر عمل بلدية طرابلس من جهة، وسعيهم في الخفاء لبناء منظومة علاقات تقوم على مبدأ تحريض الناس طائفياً ومذهبياً، ظناً منهم أن الشعار السياسي هو الجاذب للناس بدل العمل على البناء والإنماء. وما سيقومون به من الآن حتى موعد الانتخابات، لن يتجاوز شعارات كتبت قبل عشرة أعوام، وإنفاق القليل من المال المستورد باسم مواجهة المد الإيراني.
لكن الطامة الكبرى تقع في صف المتلونين الذين يحار المرء في التعامل معهم. ولنأخذ منهم الرئيس ميقاتي مثلاً. فالرجل يعشق تقليد الراحل رفيق الحريري، سواء في خطبه السياسية القائمة على الحب والتعايش المشترك والعبارات والجمل التي لا تعلق في ذهن مستمع. أو في برنامج المساعدات ــ الصدقة، الذي يمنح المحتاج مؤونة يوم، ولا يوفر له عملاً يقيه شرّ العوز والفقر. أو السعي إلى كسب ودّ الخارج، في الإقليم والعالم، من أجل ضمان لعب دور الشريك أو البديل في حال صدور الأمر. وفي حالته الراهنة، لا يبدو أن ميقاتي ومن معه، فهموا معنى خسارة معركة بلدية طرابلس، إلا من زاوية واحدة. هم يعتقدون أن ريفي فاز في المعركة. صحيح أن الرجل له حصته، لكن الأمر يرتبط أكثر بواقع المدينة وحاجاتها. والأهم، بالحاجة الملحّة لعودة الدولة ومؤسساتها إلى هناك. ولذلك، ترى ميقاتي اليوم يعتقد أن الشعارات هي التي تجذب له الجمهور، فينتظر فرصة لمهاجمة الحريري، منتقداً إياه بأنه يفرّط بحقوق «أهل السنّة»، ثم يهادن ريفي بدعوى أنه قد يحتاجه حليفاً في الانتخابات، ثم يقترب من بيروت، ساعياً إلى دعم «متلونين» آخرين، وخصوصاً من «بيروت مدينتي»، أو ساعياً لربط الود مع شخصيات تخاصمت مع الحريري، مثل مفتي الجمهورية السابق محمد رشيد قباني، أو بعض العائلات البيروتية التي لم يمنحها الحريري موقعاً أو منصباً أو مكسباً. أو أن يتواصل مع فؤاد مخزومي، باعتبار أن الأخير يعد نفسه بدور حاسم في انتخابات بيروت المقبلة. يتخيل المرء لقاء ميقاتي ومخزومي، فيقول الأول إنه مستعد لكل شيء مقابل هزم الحريري في عقر داره. فيردّ الثاني بأنه يملك القوة الانتخابية الكافية لتنفيذ الأمر. وعندما يخرجان من الاجتماع، يشيع الأول أنّ على الحريري التعامل معه كشريك، بينما يتصل الثاني بالحريري عارضاً عليه دور «الشريك المضارب». فتكون النتيجة، أن ميقاتي حصد كلاماً بكلام، بينما ظل الثاني يعيش حلم تحوله إلى «بيضة القبان» التي يحتاجها الجميع، فينال شرعية الانضمام إلى طاولة أهل الحل والعقد والعلم والبيان عند «أهل السنّة».
مرات كثيرة، يشعر المرء بالحاجة إلى احتضان سعد الحريري. ربما، لأنه، بكل ما فيه من خير أو شر، يبقى الأكثر وضوحاً، والأكثر شفافية، وله لونه الواحد، بينما تتلوى المعدة من كذب الآخرين ودجلهم وباطنيتهم!