قد لا نعترض من حيث المبدأ على انعقاد لقاء حواري اقتصادي بدعوة من رئيس الجمهورية، استكمالاً لمناقشة ما أقرّه مؤخّراً المجلس النيابي - المفتقد إلى الشرعية والممدّد له تكراراً - من قوانين وإجراءات تتعلق بسلسلة الرتب والرواتب ومصادر تمويلها، بعد خمس سنوات من «الرقص على الجليد» والتقلّب العشوائي في المواقف الرسمية.
ولكن العجالة التي تمّ فيها تنظيم هذا اللقاء والاستنسابية في تحديد لائحة المدعوين والمواقف والنقاشات الخلافية التي سرّبت عنه توحي كلّها بأن الحوار لم يكن جدّياً بل كان أقرب إلى «حوار طرشان» منه إلى حوار حقيقي وواعد. وبصرف النظر عن النوايا الحسنة التي روّج لها بعض أطراف الحكم في مناسبة انعقاد هذا اللقاء، فإنه من المفيد التوقف وإن بصورة مختصرة عند بعض أبرز الوقائع والمؤشرات التي تؤكد طغيان أجواء الطرش واللافعالية.
بداية، إن التدقيق في لائحة المدعوين يطرح العديد من التساؤلات المشروعة. فمعظم هؤلاء هم إما وزراء يمثّلون أطراف الحكم الأساسيين الذين يتحملون مسؤولية تفاقم حالة الضياع العام في مواجهة الأزمة الاقتصادية، أو جمعيات اقتصادية ومهنية غير حكومية تدور أساساً في فلك التحالف العضوي بين رأس المال الكبير وهذه الأطراف الحاكمة بالذات، أو ممثّلون لهيئات عامة وشبه عامة متوقفة فعلياً عن العمل، كما هو حال لجنة المؤشر التي لا يعرف عنوانها ولا يسمع صوتها إلا كل خمس أو عشر سنوات، أو كذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي انتهت ولايته منذ أكثر من عقد من الزمن من دون أن تبادر الحكومة إلى تجديد انتخاب أو تعيين هيئاته. أما أصحاب «الرأي الآخر» المعنيون بشكل مباشر بحيثيات ونتائج مداولات هذا اللقاء الحواري – كالمتقاعدين أو جمعيات المستهلكين أو جمعيات الاقتصاديين غير الرسمية أو أطياف الحركة النقابية والمنظمات المدنية والمراصد الفكرية والقانونية المستقلة أو الباحثين الاقتصاديين المستقلين وسواهم - فقد جرى تغييبهم بشكل كامل أو اختير منهم فقط من لا يزعج القوى الحاكمة بل يعتبر مطيّة لها كما هو حال الاتحاد العمالي العام على سبيل المثال لا الحصر.
ثم ماذا نقول عن مدى الانسجام بين الأهداف المعلنة لهذا اللقاء وأهدافه المضمرة، وعن محاولات المقايضة الجارية فعلاً بين هذه الأهداف وتلك؟ الخطاب الرسمي المتعدّد المصادر يشدّد تكراراً في العلن على أن الغاية الأساسية من انعقاده هو تصحيح وترشيد الإجراءات التي سبق إقرارها حول السلسلة ومصادر تمويلها، وبخاصة ما يتعلق منها بالازدواج الضريبي وصناديق التقاعد ومطالب القوى الأمنية وربما أيضاً القطاع السياحي. غير أن الواقع الملموس يشير إلى أن كلّاً من أطراف الحكم كان وما زال يتسابق «من تحت الطاولة» على محاولة توظيف هذا الملفّ الحيوي – وتوظيف ما قد يطرأ عليه من تعديلات جزئية لاحقة - في خدمة أغراضه السياسية المباشرة المرتبطة بالمعركة الانتخابية النيابية الموعودة، خصوصاً بعد تمكّن هذه الأطراف، مجتمعة وموحّدة، من إزاحة القيادة السابقة لهيئة التنسيق النقابية لمنعها من قطف ثمار جهودها في انتزاع السلسلة. وبكلام أوضح فإن المقصود بهذه الأغراض السياسية بالتحديد هو الإيحاء الى مئات الألوف من اللبنانيين بأن المنافع والخيرات التي سوف توفّرها لهم السلسلة – أيّاً كان حجمها الفعلي وقدرتها على التعويض عن أضرار التضخم المتراكم منذ أواسط التسعينيات، وأيّاً كانت مصادر تمويلها - هي في الأساس من صنع هذا الزعيم اللبناني أو ذاك، من دون إعارة الاهتمام فعلياً لمسألة حجم ونوع الإصلاحات الاقتصادية الملحّة التي كان ينبغي أن ترافق إقرار السلسلة وتؤسّس بالتالي القاعدة للعهد الجديد، في وقت تتعزّز فيه من كل حدب وصوب مخاطر السيناريوهات الاقتصادية والاجتماعية الكارثية المحيطة بالبلد (بحسب ما تشير اليه جهات عدّة، دولية ومحلية).
نعم، كان في إمكان هذا اللقاء الحواري أن لا يتّسم بهذه القدر من الخفّة والتسرّع وأن يكون – في ظل العهد الجديد - أكثر جدية ومسؤولية واحتراماً لعقول الناس في تعاطيه مع مخاطر الأزمة، لو كانت لائحة المدعوين أكثر توازناً وتمثيلاً، ولو جاء كلّ من هؤلاء المدعوين باقتراحات جريئة ومعلّلة لمعالجة جذور الأزمة بدلاً من استمرار الارتهان الرسمي لسياسات الارتجال والترقيع والغوص في القشور. ومن ضمن هذه الاقتراحات، كان يمكن على سبيل المثال تصوّر الآتي:
ــ أن يعرض فريق الحكم – بداية – للظروف الوطنية العامة التي ينعقد في ظلّها اللقاء، ويضع في ضوئها تصوّره المحدّد لشروط ومتطلبات النجاح في المواجهة العسكرية التي تنتظر اللبنانيين بين لحظة وأخرى في منطقة البقاع الشمالي ضد داعش. هذه المجموعة الإرهابية التي استباحت الأراضي اللبنانية وزرعت فيها القنابل الموقوتة والأحزمة الناسفة متسبّبة باستشهاد المئات من المواطنين والعسكريين اللبنانيين وبخطف العشرات منهم؛ وأن يتولّى هذا الفريق بالتحديد إبراز موقفه السياسي الموحّد والمنسجم من كافة مندرجات هذه المواجهة، السياسية والعسكرية والاجتماعية واللوجستية؛ وأن يحدّد بشكل خاص التزاماته الإنمائية الملموسة تجاه أهالي عرسال التي دفعت أغلى التضحيات على مدى خمس سنوات متواصلة من المعركة مع الإرهاب، وأن يؤمن كل مقومات العيش والصمود الشعبي لأهالي رأس بعلبك والقاع من مياه وكهرباء وخدمات عامة، ويطالب نتيجة لهذه الحاجات الملحة الهيئات الاقتصادية بتحمل مسؤولياتها الوطنية والمساهمة في تمويل هذه المعركة، ويعمل من جهته أيضاً على تضمين هذه الالتزامات بصراحة ووضوح في متن مخصّصات الإنفاق العام المشمول في موازنة عام 2017.
ـــ أن يقدّم حاكم مصرف لبنان مطالعة يقترح فيها خفض معدلات الفائدة المرتفعة بمعدل 1%، آخذاً في الاعتبار الظروف المالية الاستثنائية التي تمرّ فيها البلاد، وهذا ما كان وفّر نحو 750 مليون دولار من تكاليف خدمة الدين العام (أي ما يوازي تقريباً إجمالي كلفة السلسلة!)؛ أو أن يقرّر فرض مساهمات حكومية في رأس مال المصارف توازي قيمة الأرباح الاستثنائية التي تحقّقت لها جرّاء الهندسات المالية المتعاقبة (كما فعل الرئيس أوباما مع المصارف الأميركية التي أفلست غداة أزمة عام 2008)؛ أو أن يدعو الى اعتماد شطور تصاعدية في الضريبة على الفوائد المصرفية والتحسين العقاري، كما هي الحال في غالبية البلدان الرأسمالية التي نتشدّق بالتماثل معها.
ـــ أن يأتي وزير المال وبين يديه مشروع واضح لاعتماد شطور تصاعدية في معدلات الضريبة على التحسين العقاري، صوناً لمصالح صغار ومتوسطي المالكين وتركيزاً للعبء الضريبي المستحدث على كبار المالكين؛ أو أن يقترح نظاماً ضريبياً خاصاً يطبّق على كبار المكلّفين على غرار ما هو معمول به في الكثير من البلدان؛ أو أن يقرّر سلّة محدّدة من التدابير الملموسة لضبط الهدر في عدد من المرافق العامة، على أن تشمل هذه التدابير بالأولوية المرافئ والمنطقة الحرّة في المطار وإدارة الممتلكات العامة والتحويلات الممنوحة الى الجمعيات غير الحكومية والى المدارس الخاصة المجانية؛ أو أن يوقف أو على الأقل يضبط الإعفاءات الضريبية غير المحدودة التي تتمتّع بها مؤسسات ومشاريع الأوقاف الدينية منذ عقود، من دون حسيب أو رقيب.
ـــ أن يبادر وزير التربية إلى اقتراح مشروع استباقي لتطوير وتفصيل مجمل جوانب عمل لجان الأهل في المدارس الخاصة (بدلاً من استمرار العمل بالقانون الحالي المتخلّف وغير القابل للتطبيق لغياب المراسيم التنظيمية)، بما يسهم في ضبط الزيادات العشوائية في الأقساط المدرسية في المدارس الخاصة التي قد تكرّ سبحتها بعد تنفيذ السلسلة الجديدة للرواتب؛ أو أن يضع خطة متكاملة لإعادة تجميع فروع الجامعة اللبنانية في المجمّعات الجامعية الرئيسية الثلاثة التي كان لحظها المخطط التوجيهي لترتيب الأراضي اللبنانية، بالتزامن مع تعزيز استقلالية إدارة الجامعة اللبنانية وضبط وتطوير المعايير المتعلقة بنوعية الجسم التعليمي الجامعي بعيداً عن علاقات المحاصصة والزبائنية.
ـــ أن تتقدم وزارات العمل والشؤون الاجتماعية والصحة والعدل – إضافة إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والمؤسسة العامة للإسكان – برؤية عامة ورزمة من المشاريع المتكاملة والقابلة للتنفيذ خلال السنوات الثلاث القادمة حول الموضوع المتعلق بتعزيز وتطوير كل مندرجات مفهوم الأجر الاجتماعي، بما يشمل: تأمين الصحة للجميع، وتوفير الإسكان الشعبي للفئات الفقيرة وما دون المتوسطة وإيجاد حلّ عادل لمشكلة الإيجارات القديمة، وإقرار نظام التقاعد والحماية الاجتماعية كبديل لنظام نهاية الخدمة في القطاع الخاص، وإنشاء صندوق ضمان البطالة، وتنفيد مشاريع للنقل العام داخل المدن وفي محيطها.
هذا غيض من فيض من الملفات الحيوية التي كان يجب على الإدارات والمؤسسات العامة أن تنكبّ على إعدادها للمناقشة والإقرار في لقاء مثل اللقاء الحواري الاقتصادي، بدل استمرار إمعانها في تراشق الإشارات الرمزية الملتبسة والشعارات العامة الممجوجة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ومرّة أخرى يتأكد لنا كحزب شيوعي أن المعالجة الفعلية لمثل هذه الملفات لن تتحقق إلا تحت الضغط الشعبي المنظّم والمتراكم والمحصّن ضمن تحالفات اجتماعية واسعة هدفها تحقيق العملية الأعمّ والأشمل للتغيير الديمقراطي وبناء الدولة العلمانية.
(افتتاحية مجلة «النداء»)