«... في النّهاية تمّ التوصّل الى حلٍّ غريبٍ، ولكنّه مألوفٌ في مثل هذه الحالات. طالبت الأدميرالية بست سفن، فيما مديرو الاقتصاد عرضوا أربعة فقط، فتوصّلنا أخيراً الى مساومة: ثماني سفن»وينستون تشرشل وهو يصف المفاوضات حول بناء سفن «دريدنوت» قبيل الحرب العالمية الأولى

■ ■ ■


الامبراطورية هنا هي الامبراطورية البريطانيّة في بداية القرن العشرين، حين كانت في قمّة سلطانها: تحكم جزءاً معتبراً من العالم، لا يتحدّاها أحدٌ بجديّة من الهند الى كندا، وهي لا تنخرط في صراعات البرّ الأوروبي، بل تظلّ بعيدةً عن هذه الحروب والمخاطر ضمن سياسة «الانعزال الرّائع» عن أحوال القارّة.

«دريدنوت» هي فئةٌ جديدةٌ من البوارج الضخمة أشرف على تصميمها «لورد البحر» جون (جاكي) فيشر، صاحب آخر الإصلاحات الكبرى في البحرية الملكيّة، كان يفترض ــ بحسب الادميرالية ــ أن تجعل بحضورها كلّ البوارج في العالم متقادمة، لا قيمة لها، وتضمن مكان بريطانيا على قمّة القوى البحرية بلا منازع.
يبدأ روبرت ماسي كتابه عن سباق التسلّح البريطاني ــ الألماني، الذي مهّد للحرب العالمية الأولى، بمشهدين: الأوّل من عام 1805 وهو معركة «الطرف الأغرّ»، حين حطّم أسطول نلسون ــ خلال أقل من أربع ساعات، بين الظهيرة والرابعة مساءً ــ الأسطول الفرنسي والاسباني مجتمعاً، وأعلن بريطانيا قوّة عظمى لا منازع لها في البحر (مع نهاية المعركة كانت أكثر من 18 سفينة صفّ فرنسية واسبانية قد استسلمت، وهي كانت سفناً خشبية بأشرعة ولكنّها ضخمة، تحمل الواحدة منها ما يقارب المئة مدفع في عدّة طبقات، ويتراوح حجم طاقمها ــ بحسب ماسي ــ بين 600 و900 بحّار). المشهد الثاني كان في 1897 مع الاحتفال باليوبيل الماسي للملكة فيكتوريا، التي كانت قد أمضت ستين عاماً على العرش، وهو ما جرى عبر استعراضٍ مهيبٍ للبحريّة البريطانية في مرفأ بورتسماوث. شاركت أكثر من 150 سفينة في الاستعراض، يكتب ماسي، مرصوصةً في طوابير تتقدمّها 13 سفينة صفّ هائلة (أي أكثر مما يملكه أي أسطولٍ آخر في العالم، وهذه كانت تنتمي لأسطول القناة الانكليزية فحسب)؛ ولكنّها ليست سفناً خشبية هذه المرّة، بل مصنوعةً من فولاذٍ أسود وتحمل مدافع هائلة، يفوق وزن الواحد منها المائة طن.
أيّام نلسون في «الطرف الأغرّ»، لم يكن البحارة البريطانيون يضعون جهداً في تدريبات الرماية، فهم سيقصفون عدوّهم من مسافات قريبةٍ للغاية (مئة متر أو أقلّ فلا مجال لأن تخطىء الهدف)، والمدافع صغيرة وبسيطة. مع التقدّم في صناعة الفولاذ والمدافع، بدأ حجم المدفعية البحرية يتعاظم باضطراد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأصبحت في الإمكان صناعة مدافع وفوهات تحتمل ضغطاً كبيراً، وبعيارات عالية، ترمي مقذوفاً يزيد وزنه على مئات الكيلوغرامات (كمدفع ال12 انش ــ 305 ملم ــ الشهير) الى أكثر من عشرة آلاف متر. في هذا السياق المتغيّر تمّ تصميم فئة الـ«دريدنوت»، وخرج نموذجها الأوّل عام 1907.

فتحٌ جديد

عام 1890، نشر الكابتن ألفرد ماهان، من البحرية البريطانية، كتاباً عن أهمية الحرب البحرية أثّر في جيلٍ كامل من المخططين والخبراء، وأعاد لفت الأنظار الى أهمية التفوق البحري. كتب ماهان أنّ المحيطات التي تغطّي الكوكب تعبرها طرقٌ محدّدة، تسلكها أكثر السفن تاريخياً لأنها تصل بين المراكز التجارية العالمية في أقصر وقتٍ ممكن. هذه هي طرق التجارة التي تشبه اوتوستراداً يربط العالم، ومن يتحكّم بها، ويضبطها، أو يقدر على قطعها، هو فعلياً من سيحكم الكوكب. تأثّر القيصر الألماني الشاب، غليوم الثاني، بالكتاب وأصرّ بحسب ماسي على وضعه في كلّ سفن الأسطول، وقرّر أنّه من دون أسطولٍ موازٍ للأسطول البريطاني، فإنّ ألمانيا لن تصبح قوّةً مستقلّة وستظلّ معرّضةً لحصارٍ بحري بريطاني، وسفنها لا تقدر على الخروج من بحر الشمال الا بعد عبور القناة الانكليزية أو الالتفاف حول الجزر البريطانية شمالاً؛ أو سيظلّ أسطولها محبوساً في مرافئه إن قررت البحرية الملكية المتفوّقة منعه من الإبحار ــ وستتمكن بريطانيا، في هذه الأثناء، من الاستيلاء على المستعمرات الألمانية حول العالم. حصل غليوم الثاني على موافقة المؤسسة السياسية لبدء برنامج بناءٍ بحريٍّ محموم، وأصبحت بريطانيا، التي لم يكن لها نزاع تاريخي مع ألمانيا، وتحتسب تقليديا من أساطيل فرنسا وروسيا وليس من الألمان، في موقعٍ من يحتاج الى الحفاظ على تفوّقه. فحصول ألمانيا على قوة بحرية موازية للانكليز كانت تعني، من وجهة نظرهم، أن تضحي الجزر البريطانية معرّضة للانزال والاحتلال، وهو ما تحاول لندن منعه منذ تجربة نابليون. «دريدنوت» كانت محاولةً بريطانية لحسم سباق التسلّح هذا بأقلّ كلفةٍ ممكنة.
في مقالٍ بحثي للمؤرخين آرشر جونز وآندرو كيو عن تصميم الـ«دريدنوت» (دورية «ميليتاري أفيرز»، تموز 1985)، يسرد الكاتبان أن جاكي فيشر صمّم البارجة الجديدة لتكون «ثورية» بمعنيين: لن تحمل البارجة الّا «مدافع كبيرة» من عيار واحد، 305 ملم، بدلاً من تشكيلة الأعيرة التي كانت تحملها البوارج في ذلك الزمن. ثانياً، ستكون سرعة «دريدنوت» 21 عقدة، أي ما يفوق سرعة أي بارجةٍ منافسة من الحجم نفسه، بل أسرع من أكثر الطرادات الثقيلة في العالم. كانت نظريّة فيشر أنّ المواجهات البحرية الحديثة سيتمّ حسمها من بعيد، عبر «المدافع الكبيرة»، قبل أن تدخل الأعيرة «الصغيرة» (عيارا 155 و205 ملم تعتبر «صغيرة» بالمقاييس البحرية) في الاشتباك. انت تحتاج، اذاً، الى رمي أكبر كمية من المتفجرات خلال أقصر وقتٍ ممكن ومن أبعد مدىً متاح حتّى تهزم العدوّ، والحلّ هو أن تبني هذه البوارج التي تحمل عشرة مدافع ضخمة فحسب، فتطلق في آن واحد النيران على شكل «رشقات» من عشر أو أربع قذائف (في الحالة الثانية، يتم تصحيح رمي الرشقة الأولى فيما الثانية في الهواء لكسب وتيرة قصفٍ أعلى)، قادرة على إلحاق أذىً بليغٍ بأي سفينة معادية من مسافات بعيدة، تفوق الثمانية آلاف متر، وهي في مأمنٍ من نيران العدو (وسرعتها تعطيها خيار المواجهة أو الانسحاب، واختيار المسافة بينها وبين الخصم).
هذه الابتكارات ضاعف من قيمتها، يكتب جونز وكيو، التقدّم في مجال ادارة النيران في البحرية البريطانية، والنظام الجديد للتسديد الذي وضعه بيرسي سكوت، وهو ما يسمح بالرماية ــ بدقّة ــ من مسافات بعيدة. في بوارج فئة «دريدنوت»، لا يقدر طاقم المدفع (الذي يستقرّ في أبراجٍ ثنائية) على رؤية المكان الذي تحطّ فيه قذائفه بعد مسافةٍ معيّنة. بل يوجد ضابط رمايةٍ يجلس في أعلى صارية السفينة، ومهمّته أن يسجّل مكان سقوط كلّ رشقة مدفعية، وهل هي تسقط خلف الهدف أم أمامه، ثم يصحّح رمي الطواقم في الأسفل حتى يحدّدوا المسافة بينهم وبين العدو ويبدأوا بتسجيل الإصابات.
حين خرج المشروع السري الى العلن كتبت مجلّة «جاينز» العسكرية أنّ الفئة الجديدة توازي بارجتين او ثلاثة من تلك التي في الخدمة حالياً (بعد 1907، أصبحت البوارج الرئيسية في العالم تقسم الى فئتين «دريدنوت» و«ما قبل دريدنوت»)، فيما أعلنت الادميرالية البريطانية بثقة أنّ البارجة قادرة على تدمير أيّ عددٍ من السفن المعادية من مسافةٍ آمنة، ما يعني أنها جعلت كامل الاسطول الالماني الجديد (وبوارجه وطراداته لا تحمل أكثر من مدفعين أو أربعة من هذا العيار الكبير) بلا قيمة عسكرية. المشكلة التي لم يتحسب لها البريطانيّون هي أن الألمان، فور معرفتهم بالجيل الجديد من السفن، بدأوا ببناء بوارج مماثلة، وبوتيرةٍ لم يتوقّعها أحد، فاحتدم سباق التسلّح بدلاً من أن يهمد، وازدادت كلفته على عكس ما توقّع المخططون.

«أسطورة دريدنوت»؟

في دراسةٍ من عام 1985، يتساءل المؤرخ العسكري جون مور عن سبب استمرار وجود هالةٍ حول فئة «دريدنوت» مع أنّ ميزاتها الخارقة، في رأيه، لم تكن أكثر من دعايةٍ حربيّة، تلقّفتها الصحافة وصدّقها الجمهور والصحفيون. الامتياز الوحيد «الثوري» الذي يعطيه مور لـ«دريدنوت» كان في استخدام محرّكٍ بخاري توربيني، أعطاها سرعةً كبيرة واعتمادية عالية، أمّا العوامل الباقية (كتوحيد عيار المدافع) فقد كانت كلّها تطويرات «بديهية»، تتجه اليها جميع الأساطيل، حاولت الادميرالية أن تقدّمها على أنّها فتحٌ ثوري. بل إنّ تصميم السفينة كانت تعتريه مشاكل جمّة: صارية المراقبة مثلاً، يكتب مور، وُضعت خلف مدخنة السفينة مباشرة، ما يعني أن ضابط ادارة النيران سيتم اعماؤه حين يكون اتّجاه الريح غير مناسبٍ، ولا تعود للمدافع قيمة ودور. التدريع الخفيف نسبيا (لزيادة السرعة) كان يعني أنّ هذه السفينة الهائلة، والمكلفة، يمكن أن تشلّها قذيفة واحدة محظوظة، تخترق سطحها وتفجّر مخزن ذخائر، أو تصيب صارية المراقبة. وفي حين أنّ كتّاباً مثل ماسي وجونز وكيو يعتمدون «النسخة الرسمية»، ويذكرون أن «دريدنوت» قد تمّ اعتمادها بعد أن أثبتت تفوّقها الكبير على باقي الفئات في تمارين الرماية لعام 1907، يشرح جون مور أن الادميرال فيشر قد «رتّب» شروط اللعبة حتّى يضمن تفوّق سفينته الجديدة وإخراس النقّاد (غيّر فيشر، مثلاً، مدى الرماية حتى يكون مثالياً لـ«دريدنوت»، وزوّد السفينة بأفضل طاقم مدفعية في الأسطول البريطاني بدلاً من طاقمها المعيّن لها).
ما هو أكثر من ذلك، أدّى ظهور فئة «دريدنوت»، كمعيارٍ جديد للقوة البحرية، الى خسارة بريطانيا للامتياز العددي الكبير الذي كانت قد راكمته في اسطولها مقارنة بباقي القوى. إذ «بدأ العداد من الصفر» حين فرضت بريطانيا «دريدنوت» كسفن خطٍّ رئيسية وجعلت الأسطول السابق متقادماً، فأصبحت ألمانيا تطمح للّحاق ببريطانيا عبر بناء عددٍ مماثل من هذه القطع البحرية الجديدة. كتب المنظّر ألفرد ماهان، المذكور أعلاه، منتقداً مفهوم «دريدنوت» وتصميمها، وفكرة أن تصعّد بريطانيا (رغم تفوّقها) سباق التسلّح الى مستوىً جديد. في نهاية الأمر، يقول مور، لم تدمّر «دريدنوت» الأصلية الّا قطعةً عدوّةً واحدة، هي غواصة ألمانية في الحرب الأولى، في حين انفجرت ثلاث من طرادات فيشر الضخمة (الفئة الثانية التي صممها الى جانب «دريدنوت») خلال معركة «جوتلاند» (وكانت الخسائر في تلك الحالات مريعة، ولم ينج من أحد الطرادات الا خمسة بحارة من أصل طاقمٍ يزيد على الألف).
من المغري أن نُقارن حالة الامبراطورية البريطانية، قبيل الانحدار، مع اميركا اليوم. انتصار «الطرف الأغَر» يشبه، بمعنى ما، نهاية الحرب العالمية الثانية، حين أرخى الأسطول الأميركي سيطرته على الباسيفيك والأطلسي في آن واحد، وأصبح «حارساً» لمعابر البحار من دون منازع. ولكنّ الاختلافات ايضاً كبيرة: كانت بريطانيا تتنافس مع قوىً متعددة تقاربها في الحجم (كان هدف الادميرالية مثلاً أن يظل الأسطول البريطاني أقوى من الأسطولين اللذين يلياه مجتمعين، فيما كانت أكثر القوى الاوروبية الكبرى ــ ألمانيا، فرنسا، روسيا، النمسا ــ تملك جيوشاً برية أقوى وأكبر من الجيش البريطاني)، فيما المسافة بين اميركا ومنافسيها بعيدة جداً. كانت بريطانيا تراقب تغيّر الأحلاف في اوروبا وهي في قلقٍ من أن تجد نفسها معزولةً، أو مع المعسكر الأضعف، فيما واشنطن تقود، مع اوروبا واليابان، حلفاً صلباً يحكم العالم بلا منازع، ويصعب تخيّل انفراطه. هناك عاملٌ واحدٌ فقط يربط بين الامبراطوريتين، وقد يؤشّر الى ضعفٍ في بنية الهيمنة القائمة اليوم: مشكلة بريطانيا مع «دريدنوت» وسباق التسلّح ضد ألمانيا لم تكن في تصميم السفينة أو ادائها، بل كان أساساً في أنّ لندن أساءت تقدير مستوى الصناعة البحرية الألمانية، وقدرتها على انتاج هذه السفن الهائلة بوتيرةٍ تضاهي انتاج بورتسماوث. هذا ما أدّى الى ما يسمّيه المؤرّخون «ذعر 1909»، حين اكتشف الجمهور والسياسيون في لندن أن ألمانيا قد تسبقهم في امتلاك هذه البوارج خلال سنوات، فطلبوا سفناً اضافية وأصبحت كلفة التسلح لا تطاق. من يرقب وتيرة الانتاج الصيني اليوم، وسرعة اكتساب التكنولوجيا واستنساخها ــ وبخاصة في المجال الحربي ــ لن يصعب عليه أن يجد تشابهاً مع حالة ألمانيا الصاعدة في أوائل القرن العشرين. فيما الصين تخطط لامتلاك أربعة حاملات طائرات خلال سنوات، أكبرها سيكون في حجم حاملات الطائرات الأميركية، وتصنع المدمّرات الحديثة بالعشرات، يبقى السؤال مفتوحاً حول نهاية هذا «السباق».