بعدما أوقعت السعودية نفسها في العديد من أزمات المنطقة، ووصلت شرارات النار إلى مجالها الحيوي، واستشعر قادتها حرارة تلك النيران في الداخل، سارعت إلى احتواء تلك الأزمات على أكثر من صعيد، فيما تعمل دبلوماسيتها على اختراق الأطواق الكثيفة التي تحيط بها من كل جانب. وتظهر الرياض أن إقامة العلاقة مع بغداد هو قطع لأول طوق عن رقبتها، وتقدمه على أنه جائزة كبرى في رصيدها الخارجي.
في هذا الإطار، حرّكت الرياض أذرعها السياسية وحلفاءها والمتعاونين معها الذين سارعوا إلى انتهاز الفرصة، لملاقاتها، فاندفعت كل من الإمارات العربية والبحرين في هذا الاتجاه، لكن عملهم يقتصر حتى الآن على التسابق على تحسين العلاقات مع العراق. وهنا تأتي زيارة مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، لطهران، وتوصيفه الدور الإيراني في اليمن بالإيجابي، كما أثنى عليه. مع العلم أن زيارة ولد الشيخ هي الثالثة لطهران منذ بدء العدوان على اليمن.
أيضاً، أعلن وزير داخلية العراق في نهاية الأسبوع الماضي، خلال زيارة لطهران بعد أن زار الشهر الماضي الرياض حيث التقى ولي العهد محمد بن سلمان، أن السعودية طلبت من بلاده رسمياً، «التوسّط من أجل تخفيف التوتّر بين الرياض وطهران»، مع أن وكالة الأنباء السعودية الرسمية، نقلت يوم أمس، نفياً على لسان مصدر لم تسمه قال فيه إن المملكة لم تطلب أي وساطة بأي حال مع إيران.
سواء أتأكدت الوساطة أم لم تتأكد، فإن الحراك الدبلوماسي والسياسي السعودي في المنطقة يشير إلى أنها تعمل على ترتيب أوضاعها في ظل التغييرات الجيوسياسية المقبلة، التي تأتي بعد الإنجازات المهمة لمحور المقاومة على الساحتين السورية والعراقية، وكذلك تراجع دور الولايات المتحدة في المنطقة بعد أن مني مشروعها بانتكاسات على مستوى الميدان السوري. وكذلك إخفاق الرياض في تحقيق أهدافها في الحرب التي تشنها على اليمن. وبذلك، يندرج تحرك السعودية والدول الحليفة لها في محاولة للتقليل من خسائرها والتموضع من جديد وفق المتغيرات الجديدة. كذلك، يمكن تسجيل الآتي:
أولاً: الموافقة السعودية على بقاء الرئيس السوري، بشار الأسد، خلال الفترة الانتقالية، ويحق له الترشح لولاية جديدة، وضمان سلامة ومشاركة الأقليات في الحكومة القادمة، وإنهاء المظاهر المسلحة والأسلحة الثقيلة خصوصاً في إدلب، إضافة إلى التعاون بين الفصائل المعارضة والقوات السورية لمكافحة الإرهاب... جاء ذلك في الورقة التي قدمها وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، إلى أعضاء في «الهيئة العليا للمفاوضات السورية المعارضة».
ثانياً: تسوية قضية الحج للإيرانيين الراغبين في أداء فريضة الحج لهذا العام، وتظهر تصريحات المسؤولين الإيرانيين ارتياحاً للاتفاق مع الجانب السعودي، معتبرين أنه يلبي المطالب الإيرانية، بما فيه القضايا التي كانت تعتبر في السابق خطاً أحمر، كقضية زيارة الأئمة في مقبرة البقيع في المدينة المنورة، مع الإشارة إلى أن الإيرانيين لم يتمكنوا العام الماضي من أداء فريضة الحج بسبب تعثر الاتفاق بين الجانبين.
ثالثاً: المسارعة السعودية إلى تحسين العلاقات مع العراق كلياً وتفعيل الاتفاقات المشتركة وفتح المعابر الحدودية بين البلدين، وكذلك التحرك باتجاه احتواء بعض القيادات الشيعية على الساحة العراقية ومد جسور التواصل الخليجي مع هذه القيادات. وتجدر الإشارة إلى أن مسؤولي الخليج لا يخفون رهانهم على انتزاع القيادات الشيعية العراقية من إيران.
رابعاً: ما كشفت عنه المراسلات الإلكترونية المسرّبة للسفير الإماراتي لدى واشنطن يوسف العتيبة، أن محمد بن سلمان، أعرب لمسؤولين أميركيين سابقين عن رغبته في إنهاء الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وأنه لا مانع لديه في أن تتواصل الولايات المتحدة مباشرة مع إيران. وكشفت رسائل إلكترونية بين العتيبة والسفير الأميركي السابق في إسرائيل مارتن إنديك، مضمون اجتماع عقده ولي العهد السعودي مع كل من مستشار الأمن القومي السابق ستيفن هادلي، وإنديك (عندما كان المبعوث الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط).
خامساً: أزمة السعودية مع قطر المرشحة للاستمرار، وهي فشل مميت لدبلوماسية الرياض. وسيعد خروج الدوحة عن بيت الطاعة السعودي مدخلاً إلى حالات تمرد أخرى في البيت الخليجي مستقبلاً، وسيكشف عجزها وتآكل قوتها العسكرية والدبلوماسية وتراجع دورها الإقليمي وقيادتها مجموعة كبيرة من دول العالم الإسلامي. تجدر الإشارة إلى أنه رغم استمرار المساعي لحل الأزمة الخليجية، فإنها وصلت إلى حائط مسدود، ويسلم الجانبان أن الأزمة طويلة، وهذا ما عبّر عنه يوم أمس وزير خارجية قطر، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حينما قال إن إعادة بناء الثقة بين دول مجلس التعاون ستتطلب «وقتاً طويلاً» بسبب الأزمة الدبلوماسية في المنطقة.