«المنطق الإمبريالي الأميركي بسيط: من حق الولايات المتحدة أن تحكم العالم الذي تملكه. وليس بمقدورها التساهل إزاء أي أعمال إجرامية من شأنها تعكير الاستقرار... الاستقلال القومي وانعدام التبعية أخطار يجب القضاء عليها فوراً بحيث تعود الأمور إلى نصابها».(«سنة 501 الغزو مستمر»، نعوم تشومسكي).

إثر ثورة 14 تموز في العراق في عام 1958، لاحت مباشرة احتمالات وحدة عربية كبرى خطرة تضم كلاً من الجمهورية العربية المتحدة والعراق. واللافت هنا رد فعل القوى الامبريالية المريب في حسمه وسرعته. الإنزال العسكري الأميركي في لبنان والإنزال العسكري البريطاني في المملكة الأردنية الهاشمية. ولم يتم سحب القوات العسكرية الأميركية والبريطانية إلا بعدما تلاشت احتمالات تلك الوحدة بصعود مدّ معاد للوحدة مؤلف من حلف ثلاثي يضم عبد الكريم قاسم والحركة القومية الكردية والحزب الشيوعي العراقي. إنها حالة جديرة بالتأمل فعلاً في تاريخنا المعاصر: أن يتم الانسحاب الأميركي من لبنان والبريطاني من الأردن في وقت بلغ فيه المد الشيوعي العراقي الأوج (وكان القوة الأضخم والأكثر عدائية ضد الوحدة) وأن يكون الإنزال قد تم في وقت لاح فيه ولو من بعيد احتمال وحدوي ثلاثي.
إنه مثال يطرح لنا حجم الإرث الناصري بكل أبعاده: احتمالات الطريق البروسي العربي للوحدة. المشروع الوحيد الجدي الذي من شأنه تحقيق «جرائم» الاستقلال القومي وتدمير علاقة التبعية وعملقة قوة العرب فيقزم الهيمنة الإمبريالية وجميع القوى الإقليمية التي هي ليست «قوى» إلا بسبب ضعف العرب وتمزقهم. إسرائيل وتركيا وإيران وحتى أثيوبيا، يشكل النهوض العربي والتوحد العربي بالنسبة لهم تهديداً وخطراً. وإسرائيل بالطبع هي الحالة القصوى. فالوحدة العربية ليست سوى نهاية مؤكدة للحلم الصهيوني. وكما لخّص نتنياهو المسألة بأن التناقض الرئيسي في الشرق الاوسط هو التناقض بين الوحدة والتعدد. فأي مشروع توحيدي من شأنه أن يورث التناقضات والحروب والنزاعات في المنطقة في حين أن التنوع والتجزئة إلى دويلات وطوائف وكيانات يأتي بالاستقرار والازدهار والسلام في منطقة الشرق الأوسط.
ذلك هو إرث عبد الناصر. فمن معركة السويس ثم من المعركة المتممة لها إلى المعركة ضد مبدأ أيزنهاور والمعركة ضد حلف بغداد، خرج عبد الناصر زعيماً للأمة العربية كما خرجت مصر بوصفها الدولة ــ المركز بالنسبة للوطن العربي. لتكون وحدة عام 1958 ذروة جبل الجليد وضرورة فرضها المسار المقاوم للاستعمار الذي اتخذته السياسات الناصرية منذ بداية تبلورها. إنه إرث مواجهة الامبريالية والاستعمار الغربي والاميركي للمنطقة ورفع لواء الاستقلال القومي العربي في أول محاولة جدية منذ أيام محمد علي. وتأكيد استحالة وجود مقاومة فعلية وجدية وازنة للقوى الاستعمارية من دون ذلك المشروع الراديكالي الخطير الذي من شأنه تغيير التوازنات الدولية والعالمية مشروع الوحدة العربية.
ولعل «جردة حساب» بسيطة لسلوك الامبريالية العالمية ورد فعلها إثر قيام الجمهورية العربية المتحدة يوضح لنا خطورة هذا المشروع ونتائجه الكبيرة. فبحسب جورج قرم في كتابه «انفجار المشرق العربي» الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية ــ بيروت عام 1968 يستخلص فيه من الجداول الإحصائية هبوط معدلات الهبات المالية المقدمة إلى الدولة الصهيونية من قبل كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية خلال الفترة الممتدة بين عامي 1954-1957 ليصعد صعوداً صاروخياً خلال الوحدة. ففي عام 1957 كان حجم الهبات الغربية يقدر بنحو 245 مليون دولار ليرتفع إلى نحو 346 مليون دولار خلال عام واحد وليعود إلى الهبوط إثر انهيار الوحدة إلى 306 ملايين دولار. خلال الوحدة فقط، تبنّت إسرائيل فكرة صنع القنبلة الذرية بمساعدة فرنسية. وفي عام 1958 كانت أول صفقة سلاح أميركية علنية مع إسرائيل حيث زودتها ولأول مرة بأسلحة وصواريخ هجومية. إن صرخة بن غوريون المهتاجة عقب قيام الوحدة «إن هذه ليست جمهورية ولا هي عربية ولا هي متحدة!»، كان لها أسبابها العميقة. فلأول مرة منذ إعلان قيام دولة اسرائيل يهبط المعدل الوسطي للهجرة اليهودية إلى إسرائيل بمقدار النصف خلال سني الوحدة الثلاث، ليعكس رهاباً إسرائيلياً وذعراً امبريالياً لا مجال أبداً لعدم ملاحظته.
يكمن إرث الناصرية في أنها محاولة جدية كبرى لتحدّي الهيمنة الأميركية والامبريالية في المنطقة مستندة إلى أسس راسخة وقوية ألا وهي وحدة العرب. وحدة من شأنها تغيير المشهد الإقليمي والدولي وعلى الصعد كافة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وهي الشرط الوحيد لتحقيق أي تغيير ديموقراطي حداثي جذري في البلدان العربية. في عالم اليوم لا يمكن تصوّر التنمية الحقيقية في العصر الحديث إلا في إطار التجمعات والتكتلات القومية الكبيرة، حيث يتوجب تشكل أقطاب إنمائية ونقاط استراتيجية ومراكز عصبية لمناطق جغرافية فيها غنى كاف ديموغرافياً واقتصادياً تمكّن من بناء مجتمع حديث بما تحمل الكلمة من معنى.
المشروع المتابع للرؤية الناصرية هو الوحيد الذي من شأنه أن يملأ «الفراغ» الذي تعيشه المنطقة العربية سياسياً وأيديولوجياً. ومن شأنه أن يقود المنطقة إلى مرحلة جديدة تختلف كلياً عن الاستنقاع والاندثار الذي عاينته المنطقة خلا العقود الماضية.
إنه المشروع العقلاني الوحيد الذي من شأنه أن يُخرج المجتمع العربي من مأزقه واستعادة تماسكه الاجتماعي والبنيوي. فالمشروع التكاملي العربي كفيل بأن يفقد جميع الطروحات الطائفية والإقصائية بريقها ويعيد الأمل برؤية إصلاح شاملة تعيد إلى هذا المجتمع ثقته بنفسه وبوحدته وتكامله. إنه شرط نهضة وتحرر واستقلال كانت قد ظهرت تباشيرها في عهد الناصر إلا أنها لم تستمر. فما أثبتته التجربة الناصرية بما لا يرقى إليه الشكّ أنه وفي المسار العربي الراهن هناك تلازم خبيث بين التجزئة والتبعية والتخلف من جهة. وتلازم حميد بين التكامل والوحدة والنهضة والتحرر من جهة أخرى. فقد قالها جبران يوما: «ويل لأمة مقسمة إلى أجزاء... وكل جزء يحسب نفسه فيها أمة».
*كاتب سوري