كان الراحل غسّان تويني يصف شيعة لبنان بـ«طائفة الشهادة». كان ذلك في معرض المدح. كرّرها أكثر مِن مناسبة، إلا أنّ أكثرها رسوخاً في الذاكرة كان قبل 20 عاماً، إثر استشهاد هادي حسن نصر الله في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. لم يكن وصفاً عابراً، والواصف، أيضاً، ليس عابراً، أمّا الموصوفون فيُحسَدون اليوم على ما أنجزوه بفعل حبل استشهادهم المُتّصل. هناك مَن يَحسد الشيعي اللبناني هذه الأيّام، الشيعي العاديّ، الفرد، مع كلّ إنجاز وطني يُحقّقه حزب الله.
ثمّة اختلاف على توصيف «الوطني» هنا. لا بأس. الحزب الذي أصبح، أراد أم لم يُرد، رافعة الشيعة في لبنان... والخارج (إلى حدّ ما). ثمّة موجة حسد، أخيراً، بعد تحريره أراضي عرسال اللبنانيّة مِن تنظيم القاعدة. يُترجم هذا حالياً بمقالات «الخوف الاستراتيجي» على الصيغة اللبنانيّة، مع تصوير الشيعة كجماعة بشريّة على أنّهم فزّاعة، وبالتالي لا بدّ مِن التصدّي لهم. في مواضع أخرى يُرجم ذاك الحسد بـ«التنكيت» على الحزب وبيئته، بل على الشيعة عموماً، كمزاح «يكشف ولا يجرح». ما المزاح، غالباً، إلا وسيلة مبتكرة لقول «الحقائق»، إنّما بطرق غير مباشرة.

ربّما لم تخرج
الطائفة بعد في لاوعيها الجمعي مِن تلك الوصمة
الطبقيّة تاريخيّاً
على مدى أكثر مِن ثلاثة عقود كان الفرد الشيعي، وإن لم يكن متحزّباً، وإن كان علمانيّاً مثلاً، بل حتّى مخالفاً للحزبيّة الشيعيّة (حزب الله وحركة أمل)... يَشعر بأن أفراد الطوائف الأخرى، في لبنان، ينظرون إليه بعين الحسد. بعين الغيرة. يَشعر بهذا مع أصدقائه، في الشارع، في وسائل الإعلام، مع زملائه في العمل، حتّى وإن كان عمله جلي الصحون في فندق يملكه ثري مِن طائفة أخرى. كانت مظاهر هذه الحالة تتراكم مع كلّ إنجاز «شيعي». أن تُقاوم الإسرائيلي المُجمَع، أقلّه في القانون، على عداوته. أن تفوز بلقب «مُحرّر الجنوب». أن تقف في وجه الآلة العسكريّة الإسرائيليّة، وحدك، فلا تنكسر، بل تنكسر هي معترفة، فتخرج أنت منتصراً عام 2006. أن تُعيد أسراك و«أسرى الآخرين» مِن سجون المُحتل، مرّة تلو أخرى، باحتفالات «كابيتولينيّة» يراها العالم مباشرة. أن تنطلق وراء «المشروع الداعشي» خارج حدودك وداخلها، فتُنجِز، تَنتصر في مواجهات أعيت جيوش دول، فتبدو وكأنّك تُحارب العالم. ليس مُهمّاً كيف تصف نفسك، أنت، بأنّك «لست طائفيّاً». بعض الآخرين يرونك كذلك. بعضهم معك، في خياراتك العسكريّة كلّها، إلا أنّك في نهاية الأمر «آخر» في عمق وجدانهم. لا يخلو الأمر مِن استثناءات، حتماً، لكن ما الاستثناء إلا دليل ثبوت القاعدة.
بلغة الطوائف اللبنانيّة، كانت كلّ طائفة، منذ بداية الحديث عن كيان لبناني، تستَثمر إنجازاتها الداخليّة، وأحياناً الخارجيّة، في بنية المجتمع اللبناني. المارونيّة السياسيّة فعلتها. أنتجت حرباً أهليّة في النهاية. السنيّة السياسيّة فعلتها. أنتجت تصدّعاً و«إحباطاً» نعيش آثاره اليوم. لا أحد يتحدّث عن الدرزيّة السياسيّة، وهذا لأسباب ديموغرافيّة، لكنّها حصلت وأنتجت، لكن على نطاق محدود. أنتجت «فائدة» داخل بيئتها. كلّ هذه التجارب أنتجت «فوائد» (بمعنى ما) لبيئتها. بعض تلك الفوائد أصبح عرفاً دستوريّاً لا يُمكن المسّ به. لا يُمكن الهمس عنه. ماذا عن الشيعيّة السياسيّة؟ هل مِن شيعيّة سياسيّة أصلاً؟ هذه التهمة مِن «الآخرين» التي يعتب بعض شيعة لبنان على الأحزاب الشيعيّة لأنّها لم تمارسها حقّاً. كيف تُرجمت كلّ تلك «الانتصارات الشيعيّة» في الداخل؟ في الكهرباء مثلاً؟ أسوأ تغذية كهربائيّة في لبنان هي مِن حصّة المناطق الشيعيّة. أسوأ ترسيخ لـ«بدعة» المولّدات الكهربائيّة، البديلة من الدولة، بمافياتها وأوباشها، تجدها في المناطق الشيعيّة. في قطاعات العمل؟ شهد العقد الماضي ولادة «قطاع عمل» جديد اسمه «الفاليه باركينغ». مِمّن يتألف هذا «الجيش» الذي يُتقن ركن سيارات الأثرياء؟ إنّهم بغالبيتهم مِن الشيعة. حرّاس شركات الأمن (المدنيّة) للمؤسسات والشركات و«المولات» الكبرى، هؤلاء الحرّاس الذين يرتدون ثياباً أشبه بثياب الكشّافة، هؤلاء أصحاب الدخل الزهيد، إنّهم، في العاصمة، مِن الشيعة بأكثريّتهم. مَن الذي يُعاني، أكثر مِن سواه، وفق التصنيف الطائفي، مِن آفة المخدّرات؟ إنّهم مِن الشيعة. أوراق محاكم الجنايات في المناطق تؤكّد ذلك. تلك البيئة ليست بخير حتى تُحسَد مِن قبل أحد. تتشارك مع كثيرين «تعتيرهم»، لكن مع فارق أن فردها يُحسَد على «تعتيره». يَشعر الفرد الشيعي بما يُسمّى فائضَ القوّة... لكن غير المُستثمر في الداخل. لا مكان لصرفه، في المعيشة. في الرخاء (ولو النسبي مقارنة). تغيّر الكثير عن زمن «أبو ذنب» وزمن «عتّالة البور» و«الشيالين» و«البويجيّة» في وسط بيروت، ذلك حقبة خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته، إلا أنّ الطائفة لم تخرج بعد، ربّما في لاوعيها الجمعي، مِن تلك الوصمة الطبقيّة تاريخيّاً. أن تكون شيعيّاً تعيش في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، حيث قلعتك الحصينة، حيث يكاد ينقطع النفس، حيث يكاد العيش يُصبح غير صالح بشريّاً، يُمكن أن تُضرَب وتُكسّر عظام وجهك على أيدي «زعران» مِن أبناء هذه العشيرة أو تلك. أن ترى هناك عند الخامسة عصراً، يوم الثلاثاء الماضي، شبّاناً يعتدون على رجل أربعيني أمام طفلته الصغيرة وزوجته الحامل، وسط الشارع، قرب حاجز الأمن العام، فيغرق في دمائه ولا يقترب أحد للمساعدة. كلّ ما لدى رجل الأمن، عند الحاجز، أن يقول للمضروب: «عليك أن تهرب بسرعة مِن هذا الاتجاه». يسأله المُعتدى عليه: ألن توقفهم؟ أقلّه سيارتهم الخالية مِن لوحات التسجيل، فيُجيبه: «اسمع منّي واهرب». طائفة يكسر «حزبها» عدواً كإسرائيل، ويسير الرعب أمامه مسيرة سَنَة في عيون الآخرين، هو أعجز عن كسر، لا عشيرة، بل أفراد مِن عشيرة داخل طائفته. هل مِن داعٍ للحديث عن الخوّات على الماء والكهرباء والإنترنت والستالايت التي يُمارسها هؤلاء منذ سنوات؟ حُكي كثيراً عن هذا. السجون مليئة، وصدارة العدد، بلا منازع، لأبناء هذه الطائفة. كلّ هذا، ورغم مرارة المُكابرة عند الفرد الشيعي، تجده الأسرع لبذل دمه عند كلّ استحقاق وطني. إنجازات «أحزابه» لا تُقرّش في مجتمعه، وإن حصل، وهذا حصل، فلحفنة مِن «البرجوازيّات الشيعيّة» الصاعدة حصراً.
«المعتّرون» في لبنان تجدهم داخل كلّ طائفة، بفارق عددي، نسبي، إلا أنّ «تعتير» اللبناني الشيعي له شكله الخاص. «المعتّر» في لساننا العامي مفردة نُشير بها إلى المسكين وما شاكل. هي على الأرجح، في العربيّة الأمّ، لفظة «المُعتَر» (بلا شدّة على التاء). هذا المُعتَر، في القاموس، هو الذي «يَظهر مِنه الرغبة في أن يُعطى ولكنّه لا يَرفع يده ولا يَسأل».