بينما يدخل، اليوم، المعترضون على قانوني سلسلة الرتب والرواتب والتعديلات الضريبية قصر بعبدا للمشاركة في اللقاء الحواري الذي دعا إليه رئيس الجمهورية، ميشال عون، واستبعد منه هيئة التنسيق النقابية... يخرج أصحاب الحقوق، من معلمين وموظفين في الإدارة العامة وعسكريين متقاعدين، في الوقت نفسه، إلى الشارع لمطالبة الرئيس عون بتوقيع القانونين ونشرهما في الجريدة الرسمية فوراً، بعدما تطلب إقرارهما في مجلس النواب أكثر من 5 سنوات من الصراعات والحوارات والتسويات والتنازلات... حتى لم يبقَ هناك أمر يمكن التفاوض عليه.
مَن يحاور مَن؟

سيدخل المعترضون إلى حوارهم كمجموعات ضغط منظمة ومؤثّرة وصاحبة قرار، وسيشكلون تحالفاً قوياً، قادراً على قلب الأمور راساً على عقب. سيجتمع أصحاب الرساميل وكبار المودعين والمضاربين العقاريين والتجار وأصحاب المدارس الخاصة والمهن الحرّة... كطرف واحد لا يقابله أي طرف آخر محدد، إذ إن سطوة هذه المجموعات واضحة على الأحزاب الممثلة في السلطة، وليس هناك شك بقدرتها على تطويع المؤسسات الطائفية والإعلام ومنظمات «المجتمع المدني»، أمّا دعوة الاتحاد العمالي العام ليمثل الطرف الآخر، فهي تثير السخرية في ظل انصياعه لمصالح «الهيئات الاقتصادية»، وهذا ينطبق على نقابة المعلمين في المدارس الخاصة التي لم تمتلك قدرات تفاوضية في أي وقت، ولم تحظ بأي مكاسب إلا من خلال نضالات الأساتذة والمعلمين في المدارس الرسمية.

على ماذا سيتحاورون؟

بحسب المعلومات، ستُستغَل مطالب القضاة وأساتذة الجامعة اللبنانية كمدخل لطرح بقية الاعتراضات. فالمطالب المتعلقة بالحفاظ على مكاسب القضاة وأساتذة الجامعة في سلسلتيهما وصندوقي التعاضد الخاصين بهاتين الفئتين، التي يمكن الاستجابة لها ببساطة عبر تعديل قانون سلسلة الرتب والرواتب من دون ردّه أو تعليق نفاذه، ليست هي السبب الفعلي للحوار، باعتبار أن الجميع أبدى الاستعداد لتبني هذه المطالب ومنع تفاقم اعتكاف القضاة. الأسباب الفعلية تتعلق بضغوط تمارَس على المدارس الخاصة من أجل استثناء المعلمين فيها من قانون السلسلة، وإلا فزيادة الأقساط المدرسية وتأليب الأهالي على المعلمين وحقوقهم أو انتزاع المزيد من الدعم على حساب المال العام لتعزيز ربحية المدارس، إذ توجد اقتراحات في هذا الشأن تتحدث عن دعم مباشر لكل تلميذ يوازي ما تنفقه الدولة في المدارس الرسمية والمدارس المجانية. كذلك تتعلق الأسباب الفعلية للحوار برفض «الهيئات الاقتصادية» أي تعديل ضريبي يصيب الثروات الفاحشة لمن تمثلهم أو يمسّ حصتهم الضخمة من الفائض والأرباح والريوع المحققة، في ظل النموذج الاقتصادي اللبناني القائم. فالهيئات الاقتصادية لم تقبل بهزيمتها وواصلت التهويل بالخراب والدمار والانهيار في حال اقتطاع، ولو قدراً محدوداً جداً، من الضرائب الإضافية على الأعمال المربحة، لإعادة توزيعها على السكان الرازحين تحت أعباء خدمة العجز المالي الداخلي والمديونية العامة وسعر الصرف الثابت وربحية المصارف وفورة الأسعار العقارية وتمويل الاستيراد وعجز الحساب الجاري... المفارقة في هذا اللقاء الحواري أن من سيتحاورون هم الذين راكموا ثرواتهم من هذه الأعباء تحديداً (الفوائد، الأقساط المدرسية، كلفة السكن...) وهم الذين يتمتعون بمعدّلات ضريبة منخفضة جداً (ويسجلون أعلى معدّلات التهرّب الضريبي) ويحظون بإعفاءات ضريبية هائلة وبمبالغ دعم خيالية على حساب المال العام وميزانيات الأسر والاقتصاد الحقيقي، وليس آخر هذا الدعم المباشر نقل نحو 5.6 مليارات دولار من المال العام إلى أرباح المصارف وكبار المودعين في ما عُرف باسم «الهندسة المالية» في العام الماضي، بالإضافة إلى شفط نحو 5 مليارات دولار سنوياً من الموازنة العامة مباشرة لتسديد الفوائد للمصارف ودعم فوائد القروض لأصحاب الرساميل.

هيئة التنسيق النقابية تهدِّد بتعطيل انطلاقة العام الدراسي


ليس للناس من يمثلهم

في المقابل، سيخرج المتضررون إلى الشارع قليلين ومشرذمين وخاضعين... وبلا أمل. فليس لدى أكثرية اللبنانيين من يمثلهم في هذا اللقاء الحواري، حتى تلك الأحزاب «المعارضة»، التي انزلقت نحو مطالبة رئيس الجمهورية بردّ القانونَين بحجّة أنهما ظالمان للناس الفقراء والمتوسطي الحال، ليست مدعوة ولا صوت لها أصلاً. في حين أن أساتذة التعليم الثانوي والمعلمين في التعليم الأساسي والمهني والموظفين في الإدارات العامّة، وطيفاً واسعاً من الجنود ورجال الأمن والأُجراء والمتعاقدين والمتقاعدين، وجدوا أنفسهم الآن يسددون فاتورة تغليب خياراتهم الحزبية على مصالحهم الاجتماعية... فلم تعد روابطهم تحظى بالثقة، وليس لديها المشروعية الكافية لاستعادة مشهد ربيع عام 2013.
اختارت هيئة التنسيق النقابية مكان اعتصامها، عند الحادية عشرة ظهراً، أمام مقر جمعية المصارف في وسط بيروت. هذا المكان ينطوي على رمزية فائقة في الصراع الدائر، إذ إن جمعية المصارف هي التي تقود الهجوم لإسقاط قانونَي السلسلة والتعديلات الضريبية، كي لا يسقط واحد من أهم الإصلاحات الضريبية منذ عام 1998، الذي قضى بإلغاء الإعفاء الذي تحظى به المصارف من الضريبة على الفوائد (التي رفعت من 5% إلى 7% فقط لا غير)، علماً أن المصارف ستبقى مُعفاة من أي ضريبة على أرباحها السخية من التوظيفات في سندات الدين بالعملات الأجنبية، وستسدد فقط الضريبة على أرباح الفوائد من توظيفاتها بالليرة اللبنانية، بعدما سمح لها القانون سابقاً بحسم هذه الضريبة من الضرائب على الأرباح.
لكن اختيار الهيئة لموقع اعتصامها لم يكن وليد نية لتأجيج الصراع الاجتماعي ودفعه إلى الأمام من أجل إيجاد قوّة اجتماعية على طاولات الحوار، بل كان مخرجاً من مطالبات البعض في الهيئة بالاعتصام أمام قصر بعبدا، على غرار الاعتصام الشهير الذي نفذته الهيئة بقيادة النقابي حنا غريب يوم 21 آذار 2013 وأفضى إلى إجبار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على إحالة مشروع قانون السلسلة على مجلس النواب لأول مرّة.
بُرِّر استبعاد روابط المعلمين والموظفين من اللقاء الحواري بأنها ممثلة بالوزراء المختصين. ليس بصفتهم يمثلون الإدارات والأسلاك، فهم بهذه الصفة يمثلون الدولة كصاحبة عمل، بل بصفتهم يمثلون أحزابهم التي سيطرت على هذه الروابط. سيكون حاضراً اللقاء إلى جانب الرئيس ميشال عون، رئيس الحكومة، سعد الحريري، بصفته أيضاً رئيس تيار المستقبل. وسيحضر نائب رئيس مجلس الوزراء، غسان حاصباني، بصفته يمثل حزب القوات اللبنانية، ووزير التربية، مروان حمادة، بصفته يمثل الحزب التقدمي الاشتراكي، ووزير العدل، سليم جريصاتي، بصفته يمثل التيار الوطني الحر، وكذلك وزير الاقتصاد والتجارة، رائد خوري، كذلك سيحضر وزير المال، علي حسن خليل، بصفته يمثل حركة أمل، وهو استبق اللقاء بمناشدة رئيس الجمهورية توقيع قانون السلسلة، قائلاً: «نحن مستعدون لأن نناقش بعدها أي تعديل تفرضه الوقائع والمعطيات العلمية»... البعض اعتبر أن تصريح خليل يرسم صراعاً سياسياً بين الرئيسين عون ونبيه بري سيجد تعبيراته على الأرض.

ستسقط كل المحرمات

رأت هيئة التنسيق النقابية، في بيان أصدرته بُعيد اجتماع طارئ عقدته السبت الماضي، أن استبعادها جزء من «محاولات ضرب كيانها، وهي التي خاضت نضالات واسعة ضد الهدر والفساد والتسيّب وسرقة المال العام، والضغط لانتظام عمل المؤسسات الدستورية، ولا سيما رئاسة الجمهورية».
ينفي رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي نزيه جباوي لـ «الأخبار» ما قيل عن أن التحرك مسيَّس ويعكس الخلاف بين الرئاستين الأولى والثانية، وبالتالي التجاذبات بين الأحزاب المكونة لروابط هيئة التنسيق، فالمعلمون والموظفون على اختلاف توجهاتهم السياسية، ولا سيما معلمو التيار الوطني الحر وموظفوه، سيشاركون في الإضراب والاعتصام اللذين «سيساعدان ربما رئيس الجمهورية في مواجهة الضغوط التي تمارسها كل من المصارف والهيئات الاقتصادية وأصحاب المدارس الخاصة».
لماذا اخترتم جمعية المصارف مكاناً للاعتصام، في حين أن بعض النقابيين طرح أن يكون القصر الجمهوري؟ يجيب جباوي: «إن رئيس الجمهورية لم يتخذ أي موقف من قانون السلسلة حتى الآن، وبالتالي لا مبرر للاعتصام أمام القصر الجمهوري، أما إذا قرر الرئيس بعد الاجتماع الموعود ردّ السلسلة إلى المجلس النيابي، عندها ستسقط كل المحرمات وسنلجأ إلى تنفيذ كل الخطوات التصعيدية من إقفال للإدارات العامة، وصولاً إلى عدم البدء بالعام الدراسي في المدارس الخاصة والرسمية ومدارس اللاجئين السوريين على السواء. أما لماذا جمعية المصارف؟ فلأنها تمثل أحد الأطراف التي تقود حملات تجنٍّ على أصحاب الحقوق في السلسلة». ويقول: «هذا القانون ليس آخر القوانين، فمن لديه ملاحظات أو تعديلات يمكن رفعها بقوانين معجلة مكررة، ونحن مع التعديل، ولا سيما في موضوع الضرائب، وخصوصاً أن جميع المسؤولين ينتمون إلى كتل نيابية وازنة، والمجلس النيابي مفتوح للتشريع».
رئيس نقابة المعلمين في المدارس الخاصة رودولف عبود، الذي دُعي إلى اللقاء الحواري إلى جانب الاتحاد العمالي العام لتمثيل أصحاب الحقوق، يقول: «إننا سنحضر إلى طاولة الحوار والاعتصام على حد سواء، ولا صحة لما يقال عن أن التيار الوطني الحر لن يحضر في الشارع». ويعرب عبود عن اعتقاده بأن حوار بعبدا لن يناقش الحقوق في سلسلة الرواتب، بما هي أرقام ودرجات، بل سيقارب المسائل الخلافية، ولا سيما في ما يتعلق بالمواد الضريبية والتقديمات الاجتماعية.




روابط السلطة فقدت ثقة الناس

فور إعلان هيئة التنسيق النقابية الإضراب والاعتصام، سارع التيار النقابي المستقل (الجناح المعارض في رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي) إلى دعوة مناصريه لالتزام التحرك، وإن أتى متأخراً، ما دام ينطلق من حقوق الناس في مواجهة حيتان المال، داعياً هيئة التنسيق إلى التزام القرار النقابي المستقل الذي ينتزع الحقوق والكرامة، وعدم الرضوخ للضغوط السياسية. وأثنى التيار على اختيار جمعية المصارف مكاناً للاعتصام، «وهو المكان الذي لطالما دعونا الهيئة إلى التحرك باتجاهه».
مع ذلك، يرى القيادي في التيار جورج سعادة، أنّ «روابط السلطة» فقدت ثقة الناس لجهة عدم مواكبة حدث سلسلة الرتب والرواتب يوماً بيوم على الأرض والدفاع عن الحقوق والمكتسبات لكل مكوناتها، ولا سيما الفئات المغبونة منها، أي أساتذة التعليم الثانوي الرسمي. بحسب سعادة، هيئة التنسيق ببنيتها الحالية غير قادرة على قيادة عمل نقابي جماهيري، لكن قد يقتصر دورها على مواكبة أحداث عابرة تأخذ وجهاً نقابياً من باب رفع العتب وليس فيها تراكم نضالي من أجل انتزاع الحقوق، لأن أعضاءها يخضعون لأجندات أحزابهم السياسية والتجاذبات التي قد تنشأ في ما بينها.




موظَّفو الإدارة العامة: تلويح بالتصعيد

استبقت رابطة موظفي الإدارة العامة موقف هيئة التنسيق النقابية بإعلان الإضراب منذ مساء الجمعة، أي قبل يوم واحد من اجتماع الهيئة، ملوحة بخطوات لاحقة متدرجة تصاعدية، وصولاً إلى الإضراب المفتوح، في حال استمرار نهج التهويل والتعالي على الموظف الإداري وحقوقه، وقالت إنّ «السلسلة حق لا رجوع عنه»، منتقدة «الهجمة الشرسة التي تقودها الهيئات الاقتصادية وعمودها الفقري أصحاب المصارف وأصحاب المدارس الخاصة والقضاة وأساتذة الجامعة اللبنانية وتهدف إلى إلغاء السلسلة».
ودعا «تجمّع الموظفين المستقلين» إلى المشاركة الكثيفة في الإضراب والاعتصام أمام جمعية المصارف، مطالباً رئيس الجمهورية بتوقيع القانون، ومن ثم معالجة المواضيع الخلافية في أُطرها الدستورية. وناشد التجمع الموظفين والمعلمين والقوى العسكرية وكل الروابط والتجمعات مهما كانت مسمياتها الوقوف صفّاً واحداً بوجه هذه الطغمة المالية وأصحاب المصارف لتحصين ما أُنجِز من حقوق.




اعتصام مفتوح للمتقاعدين العسكريين

تداعى المتقاعدون العسكريون إلى التجمع منذ السادسة صباحاً في ساحة الشهداء، تمهيداً للانطلاق باتجاه عدد من الأهداف، وفيما تكتمت مصادر الهيئة الوطنية لقدامى القوات المسلحة على الأهداف التي تنفذ تحركاتها عليها، تردد أن إقفال مصرف لبنان سيكون أحدها. وقالت الهيئة إنها ستنفذ اعتصاماً مفتوحاً إلى حين إقرار قانون تعديل المادة 79 من قانون الدفاع الوطني لجهة تثبيت حقوق المتقاعدين العسكريين وتصحيح المواد المتعلقة في قانون السلسلة. وقال العميد الركن الطيار أندريه بو معشر، المسؤول الإعلامي في الهيئة: «إن الاعتصام ليس موجهاً ضد رئيس الجمهورية، بل ضد الجهات التي تضغط عليه»، سائلاً: «ما الذي يمنع من أن يجري تثبيت الحقوق اعتباراً من 1 أيلول 2017 وينظر في ما بعد في تاريخ صدور القانون بعد مناقشة الحلول الممكنة التي قد يكون أحدها تجزئة السلسلة لكل القطاعات الوظيفية؟».