كثيراً ما مررت أمام تلك البناية العجيبة التي تقف ناظرة إلى الشمس تحرس تمثال «العلاّمة ابن خلدون» في صمته الأبدي، وتلقي على الشارع قداسة العصور الغابرة وهيبتها، دون أن يشجعني فضولي يوماً على اقتحامها.وفي يوم، انهارت كل جدران المقاومة في داخلي، فوجدتني وجهاً لوجه مع الصلبان المعلّقة والأيقونات المضيئة المشدودة إلى جدران شاهقة عجيبة التكوين.

كان المكان ملفوفاً بالسحر كتميمة في قطعة برديّ مهملة. وكان ضوء خفيف يدخله من حيث لا أعلم، يشعرني بأنني في فيلم سينمائيّ، لا بين جدران كنيسة ترقد منذ عصور في الشارع الرّئيس في العاصمة.
لما اجتزت عتبة الباب، دغدغت وجهي رطوبة خفيفة كنسمة فجر. أحسست بوحشة غريبة كالداخل مقبرة عند المساء. ولكني جلست على مقعد خشبي بنيّ من المقاعد المنضودة بعناية بين الأعمدة الشاهقة المنتهية إلى سقف مزخرف بديع التكوين.
دارت في رأسي مئات الأساطير والخرافات، ودخلت مدائن الجنّ والغيلان، وطفت بقصور المردة وكهوف السحرة، إلى أن ظهرت...
ظهرت يتبعها ذيل ثوبها ذي الزرقة الناصعة والسواد القاتم كأنه سماء تربدّ للتوّ، انسدل على الجسد النحيل، فبدت دمية قطن سرت فيها الدماء.
كانت تتحرك بتؤدة الأميرات كأنها أمّ تتسلل من غرفة ولدها على أطراف الأصابع آنَ غَفَا. ثم اتّخذت مكانها أمام الصّبية الّذين يتطلّعون إليها، ورفعت صوتها بترانيم القدّاس. ولمّا علت طبقة الصّوت، رفعت وجهها عن الأرض حتى تطاوع الحنجرة الموسيقى. فالتقت عيناها عينيّ. حينها، شعرت أنّ كنيسة شارع بورقيبة قد سوّيت بالأرض، ورأيت العلاّمة يعوم في بحر أزرق، وانحنت أشجار الشارع، واجتمعت عصافيره في سماء المكان تعزف لحناً على إيقاع خطو راهبة تسير فوق الماء عارية.
لما انتهى القداس، كان بصري يتابع ذيل السواد الأزرق وهو يغادر القاعة الواسعة.

■ ■ ■


سابقاً، كنت أجلس في مقهى «القدّيس» خلف واجهة بلّوريّة تناسب فضولي. وذات يوم، مرّت يتبعها ذيل ثوبها على الرصيف المقابل لذهولي، فعلمت بما لا يدع مجالاً للشكّ، أنّ الأقمار يمكن أن تترجّل! انفجرت خلايا فؤادي نبضاً، وأحسست أنّ عروقاً جفّت منذ قرون بعيدة قد تسرّبت إليها دماء حرّى.
كانت تسير على إيقاع رَوعي بخطوات منتظمة كدقّات ساعة حائطيّة، تكنس الشّارع بعينيها. لم ترفع رأسها.
لم تلتفت.
لم تتعثّر.
لم تقع.
لم تكلّم أحداً.
فقط.. مرّت.
منذ ذلك اليوم، رابطت في مقهى «القدّيس» أيّاماً. فعلمت أنها راهبة. ورصدتها يوماً وهي تغادر كنيسة شارع بورقيبة من باب خلفيّ، فتشقّ النّهج الذي أجلس فيه ساعات طويلة في انتظار فسحة القمر في وضح النّهار. وآنَ انكسارٍ، وجدتني أسير خلفها حاملاً قلبي بين يديّ.
كيف أذبتُ جليد ثلاثين عاماً من الخجل الرّيفيّ الثّقيل؟! كيف جمعت شجاعة المحاربين في عضلات فمي؟! كيف خرجت من بركة عرقي لأقول لخجلها: «سأحبّك!»؟
الحقّ أقول: لقد كنت كالماشي نائماً. لم أفكّر كثيراً في ما حدث أو ما سيحدث. ولم أستعد وعيي إلّا عند فرقعة الرّاء في كلامها، وهي تقول باسمة متسائلة: Parrrdon؟. ظننتها فرنسية أوّل الأمر، ولكن سأكتشف فيما بعد أنّها إسبانيّة تعمل راهبة في كنيسة شارع بورقيبة، وسأجد تفسيراً لتلعثمها في الفرنسيّة، وسأفهم سرّ الرّاء المدوّية في عباراتها.
خطوات أخرى قطعتها جنباً إلى جنب مع الرّاهبة. قالت: Je suis trrrès contente de te connaitrrre. ثمّ ابتلعتها عمارة شاهقة في شارع «مرسيليا». فظللت واقفاً أرتّب ما قالت: «أنا من طليطلة. غادرتها منذ عامين لأستقر في تونس العاصمة»، ثمّ أضافت: À Tunis, je me sens chez moi...
لمّا عبرتُ شارع «بورقيبة» أحسست تمثال العلاّمة يضحك منّي، بل وصلتني قهقهاته مدوّية في الجلبة والضّوضاء، غير أنّني رفعت رأسي عالياً لمّا تذكّرت أنها قالت لي: Sois mon ami. فغمرني شيء من الفرح أنساني ضحكات العلاّمة.
في الأيّام التّالية، صرنا نلتقي في مقهى بعيد عن أنظار العلاّمة، لكن دون أن أفقد الإحساس بأنّه يراقب حركاتي وسكناتي، ويسمع ما يدور بيننا.

■ ■ ■


ذات مساء، كنت أنتظر خروجها من الباب الخلفيّ للكنيسة. كان العلاّمة يرقب باهتمام عقارب السّاعة العملاقة في الطّرف المقابل من الشّارع، وهي تعلن تمام السّاعة الخامسة مساء. وفي غفلة منه، وجدتني أتبع خطوات سمكة نطّت للتوّ من خليج شرودي. محوت السيّارات الرّابضة على حافّتي النّهج، وأطفأت العلامات الضّوئيّة البرّاقة المستفزّة، ورميت المارّة فوق السّطوح، وأخمدت الضّوضاء، وفرشت الأرض زهراً... وحينها..
حينها صار بإمكاني رؤية تفّاحة تتدحرج وسط نهج انهياري. وصار بإمكاني أن أسحب البساط الزّهريّ تحتها، كي أجدني بجانبها: «توحّشتك». ولمّا ابتسمت كمن فهم العبارة، أضفت: «متى نلتقي؟».
ستمانع التّفّاحة في البدء قبل أن تقول لإلحاحي: «نلتقي في غرفتي غداً. الطّابق العلويّ. الباب الأوّل على اليمين».
اندفعت يميناً نحو شارع بورقيبة. كنت فاقداً السّيطرة على قدميّ. أرتطم بالأشياء والنّاس، فلا أعتذر. سحبني أحدهم من السّكة الحديد قبل أن يسحقني المترو بثوانِيَ. حينها، كان العلاّمة يرقب عصافير الشّارع آوية إلى الأشجار. اقتنعت أنّني لم أعد صالحاً للمشي. فملت نحو مقهى «باريس» حيث كان عليّ أن أعيد ترتيب أوراقي من جديد.

■ ■ ■


كانت الزّجاجة العاشرة بطعم الحنظل. تساقط وجهي قطعاً دوّى رنينها على أرضيّة القاعة، فحسبتني أسقطت إحدى الزّجاجات الفارغة. فتحت عينيّ، فرأيت قطع وجهي تلتئم من جديد. أخذ فمي مكان عينيّ، تساقطت زخّات شعري في المجهول. ثمّ طار الوجه الجديد، وجهي، كورقة تحملها الرّيح. انساب بين الوجوه والرّؤوس وغادر عبر الباب الزّجاجيّ مسرعاً. تبعته. تلوّى بين الأشجار وحطّ على وجه العلاّمة. كنت أقف عند الأسلاك الحديديّة القاسية التي تطوّق التّمثال الأخرس. ترنّحت مادّاً يدي:
عد إليّ يا وجهي الهارب منّي... عد!
كان العلاّمة يضحك بملء شدقيه.. وكنت أشعر بغيظ شديد.. وتمنّيت لو أنّ لي فأساً أدكّ بها أحجاره.. ولمّا اقتربت منه أكثر، ومددت يدي لألطم وجهه، قال لي النّادل:
يبدو أنّك مثقل بالأحزان يا صاحبي! هل ترغب في زجاجة أخرى؟
(خمرك صار حليباً أيها النّادل.. اسقني ما في جعبتك.. لست حزيناً.. ولا فرحاً حتّى..)
أنا تائه يا صاحبي!
وأضفت كالمحدّث نفسه:
رأسي مثقوب!

■ ■ ■


كانت غرفتها بسيطة كحلم صبيّ.
تدلّت من السّقف ستائر حمراء. وعلى الجدران رأيت لوحات معلّقة. كانت راهبتي قد دخلت تجهّز قهوة تليق بمساء ليس ينتهي. أمّا أنا، فغادرت مقعدي في بهو المنزل، ورحت أتأمّل لوحة لأوهم نفسي أن الأرض ثابتة تحت أقدامي وأنّ الجدران في مكانها.
كان هنالك رأس مثقوب ذكّرني برأسي ليلة البارحة! رأيتني أنفذ منه إلى عالم تكتنفه غيوم وظلمة. كان الفراغ يحيط بي. سافرت في برّية بلا نهاية. طفت صحراء واسعة سعياً إلى الخلف. يصلني نباح كلاب بعيدة، وزئير أسود، وعواء ذئاب جائعة. أصوات لا أعرفها تتردد في مكان فان كأنه جحيم. دبّت على جسدي صراصير قبيحة، وزحفت ديدان مغادرة جمجمتي في بطء.
هل تحبّ سلفادور دالي؟ قالتها باسمة.
وانطلقت موسيقى من البهو الواسع تنضّد مساء بلون حرير رفلت به ذات العيون العسل. غادرت ثوبها الأزرق، وامتطت سبيل الشهوة، وراحت تترنح على وقع الموسيقى هبّةَ ريح دافئة. تئن لأنينها وتذوب لذوبانها، وأنا ملقى على أريكة تعبث بي الألوان. تسحبني إليها برقة موجة دافئة، وتأخذني الخطوات إلى براريَّ من الزهر وشعر من الجداول والأوتار، وزرياب المجنون يهندس لي مساء جحيمياً. تتماس الصدور، وترق الخصور، وتتلوى القدود، ويتبعثر الشعر الأسود ينير البهو الفسيح.
صرت على مسافة جحيم من شفتيها، سحبت يدي... تراجعتُ... تهالكت على الأريكة المطرّزة. ثمّ، في لمحة بصر، وجدتني أنزل السلالم وفي رأسي يضطرب سيل من الأفكار والهواجس.. كنت أتمتم كعجوز: «لستِ لي».. «لستِ لي»..
وقفت بين تمثال العلاّمة والساعة العظيمة تشير إلى منتصف الليل بالضبط. كنت وسط الشارع تماماً. المكان خال من المارة. كنت في المنتصف... على السكة. صار بإمكان العلاّمة أن يقهقه عالياً، وأن تردد الأرجاء الصّوت!
أحسست أنّ مارداً امتصّ دمي قطرة قطرة، واشتعل الرأس غيماً.
دقيقة أخرى، كنت أتحرّك صوب السّاعة العملاقة بين صفّي أشجار الشّارع، أرفع رأسي صوب عقرب الساعة تتحرك. تتحرك. تتحرك..
خلفي، أحسست العلاّمة يتعلّق بأجنحة راهبتي البيضاء ويذوب وإّياها في غياهب اللّيل!

* كاتب من تونس