من الواضح للعيان، إذا ما دخل إلى أحد مختبرات الجامعات أو الوحدات البحثيّة التّابعة للدّولة، أنّ معظمها بات «عجوزاً»، أو «كهلاً» في أفضل الأحوال، فكيف به إذا ما حصل على فرصة الدّخول النّادرة إلى مختبرات الشّركات الخاصّة، حيث الأجهزة والمعدّات المتطوّرة من أحدث جيل؟ حتّى إنّ حالة دورات المياه ستكون علامة فارقة، لا تُظهِر، مع العلامات الأخرى العديدة، إلّا تراكم الرّساميل ووسائل الإنتاج في قطب القطاع الخاصّ، فما هو السّبب؟
وما هي النّتيجة؟ أكان في مجال البحوث والعلوم أم في الاقتصاد؟
مع الاتّجاه المستمرّ نحو سياسات نيوليبراليّة أكثر تطرّفاً، في الغرب/المركز، وبالتّالي على نطاق الأطراف التّابعة حكماً، يتفشّى مفهوم «المنافسة تحفّز الإنتاج والإبداع»، كما مفهوم «الدّولة تاجر فاشل»، فتكون النّتيجة تسهيلات اقتصاديّة وإداريّة/قانونيّة، أي سياسيّة، لمصلحة القطاع الخاصّ، وهذه التّسهيلات ستكون بالضّرورة على حساب القطاع العامّ. وما من مصلحة في ذلك إلّا لرجال الأعمال وأصحاب الشّركات والمصارف، بما في ذلك من فرص لمراكمة أرباح أكبر على حساب استغلال أوسع للطّاقة المنتجة، أي بالأساس العمّال والموظّفين على اختلاف اختصاصاتهم ومستواهم الأكاديميّ (باحثين، مهندسين، فنّيّين، إداريّين، إلخ...).

المنافسة ضدّ التّعاون

وفي هيمنة منطق المنافسة، وبعيداً عن أسطورة الأغصان المجتمعة التي يصعب كسرها، والتي ذكرت في كتاب التربية الوطنيّة (ربّما كانت قد أُلغيَت أخيراً!)، لا بدّ من مقاربة في عمق التّعاون البحثيّ، حيث تجتمع الكفاءات والاختصاصات والإمكانات لإنتاج دراسة، ابتكار أو اكتشاف، فيكون الحافز الأساس في هذا التّعاون حاجة المجتمع واقتصاد البلاد إلى التّطوير، أو ربّما إحدى حاجات الحضارة البشريّة في صراعها التّاريخيّ مع الطّبيعة.

الحافز الأساس للتّعاون يكمن
في حاجة المجتمع والاقتصاد
إلى التّطوير

لكن في ظلّ الثقافة ونمط العلاقات الليبراليّ، الذي تسوده الـ «أنا»، تصبح هذه الحاجات ــ بأفضل الأحوال ــ شعاراً ورديّاً أو رواية خياليّة جميلة أو «مثاليّات»، في مقابل بروز أهداف أخرى كالحلم الوهم بتحقيق ثروة، أو شهرة، تتراجع طبعاً حتّى تبلغ الحاجة للمحافظة على حدّ أدنى من الحياة الكريمة، وربّما «الحياة». وفي إطار هذا الصّراع، تصبح المنافسة حتميّة، ويصبح إلغاء الآخر وتحطيمه واجب وضرورة، فإمّا «النّجاح» وإمّا الموت. وهذا المبدأ ينطبق على الوحدات البحثيّة، حيث إنّ عدد المنشورات الصّادرة عنها هو معيار يحدّد فرصها بالحصول على تمويل لاستكمال المسيرة العلميّة، وهكذا وبدل مراكمة القدرات والطّاقات، تنفرد المؤسّسات والشّركات بموارد وكفاءات مجزّأة ومتفرّقة في خوض الإشكاليّات البحثيّة، مع ما يرافق ذلك من انخفاض في الإنتاجيّة الفكريّة والمادّيّة وهدر الوقت، كما الفساد والتّلاعب بالمعطيات والنّتائج بغية إصدار المقالات العلميّة وبيع الابتكارات، فيمسي الرّبح المادّي هدفاً بديلاً من تطوير المجتمعات، دون حدّ أدنى من الأخلاقيّات العلميّة، لينتج ما ينتج من هدر موارد وأخطاء تطبيقيّة قد تكون كارثيّة (صناعة أدوية، تكنولوجيا طبيّة، أنظمة أمان، إلخ...) (انظر مقال فاتن الحاج - أخلاقيّات البحث العلميّ: «التّنافس» يضرب الصّدقيّة – جريدة الأخبار –http://www.al-akhbar.com/node/280273).
وفي إطار التّسويق لثقافة المنافسة ومحاولة الدّفاع عنها، يلجأ اللّيبراليّون إلى تفسير انخفاض الإنتاج في ظلّها إلى «البلادة» (التي يربطونها تاريخيّاً بالقطاع العامّ)، يتذرعون بها لتبرير ضرورة رفع عدد ساعات العمل، كما إلغاء عدد كبير من وظائف الدّولة، بما في ذلك من تشريع لاستغلال أكبر وقضاء على حقّ العمل ومكتسبات كانت قد حقّقتها الفئات المنتجة عبر نضالات نقابيّة وسياسيّة تاريخيّة.

قيد التّمويل: تقويض واحتكار وقمع

وفي ظلّ سيادة النّموذج النّيوليبراليّ، تتّجه الدّول إلى المزيد من التّقشّف في الاستثمار العلميّ، وبالتّالي حذف الميزانيّة المخصّصة للبحوث وتقييدها، لينخفض عدد المنح والتّمويلات كما المبالغ المخصّصة لهذه التّمويلات، ما ينعكس تراجعاً ملحوظاً في الإنتاج البحثيّ في الجامعات ومختبرات القطاع العام لكونها تعتمد على تمويل الدّولة بنحو رئيسيّ، وينخفض معها حتماً عدد منح الدّكتوراه وفرص التّدريب وعقود العمل، في ظلّ تراكم الرّساميل في قطب القطاع الخاصّ والشّركات، حيث لا تهدف البرامج البحثيّة والدّراسات إلّا إلى خدمة مراكمة الرّبح عبر التّطبيق الصّناعيّ، كما عبر احتكار المعرفة والمعلومات في ما يسمّى «الحقّ الحصريّ» أو «براءة الاختراع» (Brevet)، ما يتناقض وينفي منطق المنافسة الليبراليّ «بغية الإبداع وتحسين الإنتاج» مقابل التحكّم بأسعار المنتجات والسّلع بحرّيّة مطلقة دون أي اكتراث بحاجة المجتمع لها أو لغيرها، وبالتّالي لا تأبه البحوث في الشّركات لأيّ حاجات «غير مربحة»، ليترافق ذلك مع قمع واضح للمسيرة العلميّة، في توجيهها بعيداً عن هدفها الأسمى، أي خدمة البشريّة، وذهابها لخدمة مراكمة الرّبح، كما قمع الحقّ في التعلّم عبر ترافق انخفاض عدد منح الدكتوراه الجامعيّة مع تحديد عدد ومواضيع أطروحات الدّكتوراه المموّلة من القطاع الخاصّ (تسمّى في فرنسا مثلاً «اتفاقيّة صناعيّة للتّدريب عبر البحث» –CIFRE)، لما في ذلك أيضاً من تسيير للطلّاب والباحثين في عدد محدود من الاختصاصات قد لا يمثّل طموحاتهم الأكاديميّة والمهنيّة ولا يحترم ميولهم العلميّة (انظر مقال محمّد المعوش - خرق جدار الأكاديميا والعلوم والدّيمقراطيّة المزيّفة – جريدة قاسيون –http://kassiounpaper.com/science-and-technology/item/31682-2017-07-29-12-30-51).
في المحصّلة، لقد بات واضحاً أنّ السّياسات المهيمنة حتّى اليوم في المركز الغربيّ والمفروضة على الأطراف، التي تهدف بالأساس إلى مراكمة رأس المال، باتت عائقاً أمام تقدّم العلوم، وبالتّالي الحضارة البشريّة نحو شروط حياة أفضل، أو حتّى باتت تشكّل خطراً على حياة النّاس الماديّة والمعنويّة، لذا بات التّغيير الجذريّ لهذه السّياسات، والاتّجاه نحو بديل قائم على توزيع عادل للثّروة ولوسائل الإنتاج، ضرورة ملحّة لبلوغ نظام يحترم الإنسان كقيمة أساس.