من بيروت الى كاراكاس، الأمثولة الأهم للاصطفافات التي نراها حولنا هي أنّ مصالح القوة وحساباتها تحكم المواقف التي يتوزّع عليها النّاس أكثر بكثير من «النظرية» أو الكلام السياسي (بمعنى rhetoric) أو تحليلك للتاريخ والسياق. السؤال الدائم في بيروت هو عن ما يجمع أوساط الإعلام الخليجي مع جمهور المنظّمات الغربية مع اليسار «الجديد»، وكلٌّ منهم يعتمد على مرجعيات سياسية و«فلسفية» مختلفة الى حدّ التّناقض والتّصادم، حتّى يقفوا جبهةً واحدة في أكثر الأسئلة الأساسيّة، وصولاً الى موضوع «جبهة النصرة» و«المفاضلة» بينها وبين المقاومة.
من زاويةٍ نظريّة بحت، لا توجد امكانيّة لتفسير هذه الاصطفافات «من داخلها»، أي اعتماداً على نظرة كلّ طرفٍ الى نفسه؛ ولا تصبح منطقيّة إلا لو وُضعت في إطارٍ أوسع يوصّف موازين القوى على المستوى العالمي، والأهداف والمصالح الحقيقية لهذه القوى في بلدٍ مثل لبنان. كما يقول أسعد ابو خليل، حتى المثقفين والنخبويين الذين يباعدون بين أنفسهم وبين 14 آذار، وينقدونها ويسخرون منها (بعد أن انتهت فعلياً وأصبحت كياناً اسمياً)، مشكلتهم الأساسيّة مع 14 آذار هي أنّها «لم تعادِ «حزب الله» كفاية»، ولم تكن جذريّة كفاية في وجهه، ولم تفتح معه المواجهة الشاملة بأيّ ثمن (وهؤلاء، من الضروري أن نُضيف، لم يأخذوا موقفاً «ليبرالياً»، «مستقلّاً» ونظيفاً، حتّى ينقدوا المقاومة وشوائبها من موقع تفوّقٍ أخلاقيّ، بل هم انضووا في التبعية والرهانات المتطرّفة، وقد طأطأوا الرأس لمختلف القوى وعملوا معها بصرف النظر عن «الأخلاق». طأطأوا الرأس للسعودية ولقطر، ولأحزابٍ طائفية رجعية، وتماهوا مع «النصرة» وعبد الباسط الساروت ــ الذي اشتهر، باكراً، بنداءٍ مسجّل يطالب فيه بالإبادة، ولكنّ هذا «التفصيل» لم يصنع فارقاً. هم ليسوا مستقلّين ولا طهرانيّين، ولو ادّعوا ذلك. ما حصل معهم، ببساطة، هو أنّهم اختاروا الفريق الخاسر).

عن «التكتيك»

الطرح هنا هو ليس دفاعاً عن الطهرانيّة، أو عن مفهومٍ مثاليّ وصداميّ للسياسة. على العكس تماماً، أن يكون لديك «تكتيك» وخطة وامكانية للتأقلم هو في أساس في كلّ مشروع، ولكنّ السؤال هو عن مكان هذا «التكتيك» ودوره. لدى الكاتب السوداني محمود المعتصم تشبيه يساعد على تقريب المسألة. يكتب المعتصم أن معيار النزاهة الفكرية والوفاء لأفكارك هو ليس في «أن تعيش وفقاً لأفكارك» وأن تمارسها بحرفيّة وإخلاص في حياتك اليوميّة. الإخلاص لأفكارك يكون ببساطة عبر أن تظلّ «وفيّاً» لها: أن تبنيها باستقلاليّة، وأن لا تغيّرها بحسب مصلحةٍ أو تماشياً مع جوٍّ محيط، أو لأجل تأشيرةٍ أو وظيفة، أو حتّى تندمج وترتقي في الغرب، الخ. أمّا كيف تعيش حياتك الفرديّة اليومية وتتعامل مع من هم حولك، يحاجج المعتصم، فهذا مجالٌ مختلفٌ تماماً وله اعتبارات مغايرة. إن كنت تؤمن بخياراتٍ لا يوافق عليها أغلب المجتمع، أو معادية بجذرية للنظام، وانت مقتنعٌ بها، فأنت لا تخدم أفكارك ولا تصبح انساناً نزيهاً ومبدئياً عبر الإصرار على أن تعيشها بحرفيّتها وأن تطبّقها بلا اعتبارٍ لأيّ شيء. بل إنّ الموقع الذي يريدك النّظام فيه، يضيف المعتصم، خاصّة إن كنت جذريّاً ومعارضاً وتحمل أفكاراً جديدة، هو أن تتحوّل الى «كاريكاتور» معزولٍ عن المجتمع وتمارس دور «المتطرّف»، فهذا ما يضمن أنّك لن تشكّل يوماً تهديداً حقيقياً على النّظام.
بهذا المعنى، المعارضة «الجذرية» التي يفضّلها النّظام هي على شاكلة النخب «الراديكالية» الأميركية التي تجدها في نيويورك وسان فرانسيسكو وفي المدن الجامعيّة، وهي كلّها تحاول أن تعيش وفقاً لأفكارها. النّظام يفضّل أن تكون «جذرياً» يتكلّم لغةً نظرية لا يفهمها أحد خارج «الفقاعة»، ولديه قصّة شعر غرائبيّة، وتربطه علاقة نفورٍ متبادل مع غالبية المجتمع. المقصد هنا هو أنّ الجذرية، من دون تكتيك، تتحوّل بسهولة الى غاية في ذاتها ومن ثمّ الى كاريكاتور (parody)، لا يهدّد النظام بل يشكّل معارضةً «مريحةً» له، لها موقعها ودورها الذي لن يتوسّع. كمثال، يروي أحد الأساتذة أنّ قسم العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي قد انقسم أيّام حرب فييتنام بين الأساتذة اليساريين، الرافضين للحرب، وبين أخرين مؤيّدين لها بشدّة. «خطة» اليساريين حين اشتدّ الخلاف كانت، على ما يبدو، في أن يستقيلوا جماعياً في حركة احتجاج، ويتركوا القسم ــ بمؤسسته، وميزانيته، وتأثيره على آلاف التلاميذ وتخطيط مستقبل التدريس والبحث ــ في يد اليمينيين. فيما انصرف أكثرهم الى «مراكز أبحاث مستقلة» هامشية، ولكنها أكثر اتّساقاً مع أفكارهم (منذ الستينيات في الجامعات الأميركية، أصبح في وسعك أن تؤسس هذه المراكز المستقلة، على هامش الأقسام الرئيسية، ولو بأستاذين أو ثلاثة، وفي أيّ موضوع، من التاريخ الافريقي ــ الاميركي الى دراسات «السيمبسونز»). بتعابير أخرى، كان «تكتيك» اليساريين «المبدئي» هنا يتلخّص في أن يهمّشوا أنفسهم بأنفسهم (على المستوى العالمي ايضاً، النظام يفضّل كثيراً أن تكون «داعش» على أن تكون عبد الناصر).
في الوقت ذاته، فإنّ الجزء الثاني من المعادلة، أي أن تعرف ما تؤمن به وأن تظلّ مخلصاً له مهما جرى من حولك، هو ليس أمراً سهلاً كما يتصوّر البعض. من الشائع، وبخاصةٍ في السّياق العربي، أن تخون أفكارك تحت حجّة التكتيك، وأن تحاول انقاذ المؤسسة أو القضيّة، أو نفسك، على حساب روحها. القاعدة البشرية هي أن تكون وفيّاً لمن يدفع راتبك وللجوّ الذي يحيط بك، وليس لضميرك ووجدانك. التحدّي الحقيقي هو حين تكون الأمور صعبة، وتضطرّ الى الهجرة مثلاً، أو لا تعود هناك وظائف «نظيفة» واضطررت للعمل مع من لا يتوافق مع مبادئك (سأفترض أن الجوع والإذلال هو ليس طريقاً يمكن أن نتوقّع من المرء سلوكه من أجل الاتساق مع قناعاته). الحلّ «المريح» هنا هو أن تقنع نفسك بأنّك في المكان الصحيح، وأنّك منسجم مع قناعاتك، وأن «الوفاء» يكون في التشابه مع محيطك وأن تضرب بسيفِ مَن يموّلك، وهكذا تعمل الهيمنة. ولكن، في الحقيقة، من الأشرف بكثيرٍ، في حالةٍ كهذه، أن تقوم بالعمل وأنت واعٍ لأنّه لا يتّسق مع مبادئك، وأن تظلّ وفيّاً لها ــ ولو عبر الصّمت ــ ولا تبحث عن الرّاحة، فعندها، أقلّه، ستملك فرصةً للنجاة (أمّا حين تساوم على رأيك وفكرك وهويّتك، وتضعف في هذا المجال، فأنت قد انتهيت ــ فكرياً ــ الى غير رجعة).

فلسطين كاختبار للراديكالية

في مقالٍ سابق، اقتبسنا نقداً وجّهه الباحث ستيفن غوانز لمواقف اليسار الغربي من القضايا العالمية، مفاده أنّ هذا اليسار لا يتعاطف و«يتبنى» طرفاً الّا إن كان في حالة «الضحية الكاملة»: الأقليات العرقية التي تضطهدها الشرطة في الغرب، اللاجئون الأجانب الذين يتم التمييز ضدّهم، السكان الأصليون الذين تُسرق أرضهم. ولكن، ما أن لا يعود الضعيف أعزلاً، ويحمل سلاحاً ويقاوم، أو يمسك بنظام حكمٍ ويواجه خياراتٍ حقيقية، يصبح من المستحيل على الناشطين الغربيين دعمه، بل يقفون في أحسن الأحوال موقفاً حيادياً و«نقدياً» حين تواجه أنظمةٌ في فنزويلا وكوبا وكوريا هجوماً وعدواناً اميركياً، هذا إن لم يدعموا خطّة «تغيير النظام» (في بلادنا، يذهب بعض «اليساريين» الى حدّ تقريع واشنطن لأنها لم تستثمر في حروبها علينا بشكلٍ كافٍ، ولم تشنّ اجتياحاتٍ دعماً للقضية الديمقراطية). أضحيت مقتنعاً بأنّ هناك «معياراً ليبرالياً» يحكم السّواد السياسي للناشطين في الغرب، بمن فيهم أكثر من يدّعي الراديكالية واليسارية؛ أي أنّهم مستعدّون للتعايش مع خرق أيّ مبدأٍ يساريّ (أن لا تكون الدولة اشتراكية، مثلاً، أو استمرار الظلم الاجتماعي والعنصرية) ولكنّ خرق أيٍّ من قواعد الديمقراطية الاجرائية، او تقييماً سلبياً من «فريدوم هاوس»، يجعله «نظاماً لا يمكن الدفاع عنه». لهذا السّبب يرتبط نقد الامبراطورية وحروبها، لدى أكثر هذه الأوساط، بالإدانة المسبقة لكلّ الأنظمة المعادية لأميركا في الوقت نفسه؛ والتأكيد الدائم على الموقف النقدي من النظام الكوبي، أو رفض الحكم الشمولي في كوريا، وإدانة النظام في طهران. حتّى اليساري العربي في الغرب، الذي يريد أن ينتقد سياسات واشنطن واسرائيل، عليه تاريخياً أن يحاكي هذه اللعبة، وهو يعرف أنّ نقده لن تكون له «مصداقية» هناك إن لم يقترن بالتبرؤ من صدّام حسين وحافظ الأسد وياسر عرفات (وهذا قد يفسّر خطاب العديد من المثقفين العرب في الغرب، الذين يعلنون عن معارضتهم للامبراطورية وللحركات التي تقاومها في آن، وهم ضدّ النّظام وضد المعارضة المسلّحة، وضدّ ترامب وضدّ كيم جونغ-أون، ويرفضون «الخيارات الثنائية»).
المشكلة الأكبر هي حين يتمّ تطبيق هذا المنطق معكوساً. في فلسطين، حيث أصبح مجرّد التعبير عن دعم المقاومة المسلّحة وخيار التحرير من دون مواربة أمراً مكلفاً (لن تسمعه في أوساط الخليج، وهو وصل الى حدّ تجريم قائله في الغرب، والمقارنة مع حالة سوريا هنا مذهلة)، تتجلّى القيم الفعلية لمن يدّعي الراديكالية. هناك جيلٌ كامل من «الناشطين» العرب والغربيين، يدّعي دعمه للشعب الفلسطيني ورفضه للاحتلال، ولكن من ضمن «المعيار الليبرالي» المذكور أعلاه. من يُحاضر باستمرارٍ للفلسطينيين عن مزايا العمل اللاعنفي، وسُبُل «المقاومة المدنيّة»، وكيفية «إحراج» اسرائيل أمام المجتمع الدّولي يتبع، في وعيه أو لاوعيه، «تكتيكاً» واضحا: تحويل الفلسطينيين الى «الضحية الكاملة»، التي تروق للناشطين الغربيين وتمتثل للقانون الأميركي ويمكن الدّفاع عنها في جامعات اميركا بحماسة وبلا تحفّظ. ولكن ما هي العلاقة بين هذا وبين تحرير فلسطين، أو تحصيل الفلسطينيين لأيٍّ من حقوقهم، أو ردّ القمع الصهيوني عنهم، فنحن لا نعرف تحديداً (بل إنّ التاريخ مليء بقصص «الضحية الكاملة»، التي زادت على ضعفها نبلاً، وهي دائماً تُهزم وتُباد).
مقابل هذا المنطق، يمكننا أن نعود الى أدبيات السبعينيات، التي يسخر منها «اليساري الجديد» والليبرالي الغرباوي، ويعتبرها وصفةً للفشل وماضياً تجاوزناه. في كتابات «الجبهة الشعبية» أوائل السبعينيات، مثالاً، تجد منطقاً بسيطاً وسلساً، ولكنّه متماسكٌ وواضح حول الاستعمار الصهيوني وطريق التحرير، ومركزية العمل العسكري في ذلك (أنظر، مثلاً، «الفكر العسكري للجبهة الشعبية» ــ وهو عبارة عن حوارات مع القائد العسكري «أبو همام» ــ و«الجبهة الشعبية والعمليات الخارجية». والكتيبان من منشورات «الهدف» في اوائل السبعينيات، ومن سلسلة كان يرأس تحريرها غسّان كنفاني؛ ومن يهمّه فكر الشهيد ومبادئه، عليه تتبّعها عبر هذا الانتاج ايضاً، وليس القصص والروايات فحسب). تقرأ محاججةً عن العمليّات الخارجيّة أكثر إقناعاً ووضوحاً من أيٍّ «خطة طريق» يتمّ طرحها اليوم على الفلسطينيين: اسرائيل قد خلقها الغرب ويدعمها ويبقيها على قيد الحياة، فمن غير المنطقي أن يتوقّع الغرب أن يظلّ معزولاً عن مأساتنا، أو أن يعتبر نفسه «وسيطاً» فيما هو يشرّع استمرار الكيان الصهيوني. أكثر من ذلك، اذا لم ننقل الحرب الى أرضهم ومصالحهم، فلن يكون للغربيين أيّ حافز، على الإطلاق، لدعم شعبنا أو الضغط على اسرائيل أو التحسّب من دعمها. نحن شعبٌ تشرّد وعلينا أن نقاتل حيثما نحن موجودين، لا أن نحصر صراعنا بحلبةٍ يرسمها عدونا. المسألة لا علاقة لها على الإطلاق بأن «نبدو محقّين» أو أن نكون «أنصار سلام» أو نفضّل حلّ دولة أو دولتين، فنحن محقّون منذ عقود وهذا لم يصنع فارقاً، واسرائيل ــ كأي محتلّ ــ لا حافز لديها لعقد سلامٍ وهي لا تواجه ضغطاً عسكرياً.
في عهد الامبراطورية تنتشر الراديكالية الزائفة، والمعارضات التي تناسب النّظام، ويسار تحت «سقفٍ» ليبرالي. التحدّي هو أن تجد، في التراث والماضي ووعود المستقبل، تكتيكاً يقدر على مواجهة خطاب الهيمنة، وأن تظلّ وفيّاً لأفكارك في عالمٍ بلا مبادئ. مفهوم «الراديكالية» يظلّ في عين من يراه، ولكنّ الأكيد هو أنّ جذريّة الزمن القادم ــ أقلّه تلك التي لا تقوم على الفاشيّة ــ لن تأتي من الغرب ولا من مسوخ النّفط.