«الحقيقة هي دائماً أسوأ من أكثر نظريات المؤامرة تطرّفاً»جوزيف مسعد


الحرب كإنتاج

يتساءل الاقتصادي علي القادري: لماذا شهدنا نمطين مختلفين تماماً من «إعادة الإعمار» تحت الاشراف الأميركي؟ في كوريا الجنوبية، مثلاً، جرت في الخمسينيات عمليّة إعادة إعمارٍ «امبرياليّة»، ولكنّها تتقصّد تحويل البلد الى دولةٍ متماسكة ومركز انتاج.

القصّة، يقول القادري، لا تتوقّف عند المساعدات الأميركية المباشرة (وصلت الى أكثر من 10% من الناتج القومي في مرحلة الصعود الكوري) والميزات التجارية والاستثمارية، بل في تشجيع سياساتٍ تقوّي الدّولة وتعطيها سلطةً على الاقتصاد وتحكّماً بعناصر الانتاج. بل إنّ الأميركيين تسامحوا مع سياساتٍ شبه اشتراكيّة للحليف الكوري، من بينها اصلاحات زراعيّة أعادت توزيع الأرض وكانت العمود الفقري لمشروع التنمية. أمّا في بلادٍ كأفغانستان والعراق ولبنان (وسوريا وليبيا واليمن اليوم)، فإنّ مشروع «إعادة الإعمار الامبريالي» لا يكون على شاكلة «خطّة مارشال». على العكس تماماً، هو يهدف الى إضعاف الدّولة، وتطييفها أو فدرلتها، ويسلبها السيادة الاقتصاديّة ويمنعها من تطوير مواردها الطبيعية والبشرية، ويؤسّس لتوتّرٍ سياسيّ دائم وحروب مقبلة (في لبنان مثلاً، بعد عقودٍ من «إعادة الإعمار» على المنهاج الحريري، أصبح من المفروغ منه والمتوافق عليه أنّه ليس للدولة أي دورٍ تنموي أو اجتماعيّ في البلد، بل هي مجرّد أداةٍ لتوزيع الرّيع والرواتب، ولا تجد في الموازنة أثراً لإنفاقٍ تنموي. بل إنّ الموقف «المطلبي» تجاه الدّولة اللبنانية يكاد يقتصر على أن تدفع لموظّفيها رواتب جيّدة وأن تقدّم الخدمات الأساسيّة كالكهرباء والهاتف ـــ وهذا يمكن توفيره عبر الخصخصة).
الإجابة، يكتب القادري في دراسةٍ بعنوان «إعادة الإعمار والتهجير الامبريالي في سوريا والعراق» نشرتها Economy and Society في نيسان الماضي، تبدأ من أنّ «إعادة الإعمار» في الشّرق الأوسط ما هي الّا «الحرب بوسائل أخرى»، في تحويرٍ لتعبير كلاوشفتز الشهير. والشّرق الأوسط ـــ في عين واشنطن ـــ هو ميدان حربٍ، وليس موقع تصنيعٍ و«استغلال» تجاري: هناك دولٌ يكون الاستغلال فيها عبر التجارة والانتاج (super-exploitation)، كحالة كوريا الجنوبية وآسيا، ودول أخرى ترفد عملية التراكم في المركز الغربيّ عبر الحرب وعبر «تدمير» مواردها وقواها العاملة و«إخراجها» من عملية الانتاج، كما في الشرق الأوسط وافريقيا. حجّة القادري هنا ترتكز حول المساهمة الأهمّ التي قدّمها في كتابه الأخير، وهي عن دور الحرب في عالم الرأسمالية. اليسار الغربي، الذي يحاجج القادري ضدّه، يعتبر أنّ حروب اميركا حول العالم هي أساساً «تصريفٌ» للفائض الرأسمالي (في الرأسمالية الحديثة، انت تنتج أموراً أكثر بعمّالٍ أقلّ، فيصبح لديك فائض دائم في الانتاج، تحتاج الى تصريفه ولو في «الهدر»: سلعٌ غالية جدّاً للأثرياء، أن تبدّل سيّارةً كلّ سنة، والصناعة العسكرية والحرب هي وسيلة ممتازة لتصريف الطاقات الانتاجية والرساميل على نطاقٍ ضخم). من هنا، نسمع الخطاب الناقد للامبراطورية في الغرب ــــ على طريقة نعوم تشومسكي ــــ وهو يتحدّث على الحرب بوصفها بنت «المجمّع الصناعي ــــ العسكري» ونفوذه، والأرباح الكبرى لشركات السلاح، وتأثير اللوبيات ومصالحها الخاصّة. هؤلاء، يقول القادري، يعترفون بجانبٍ واحد من المثلّث، ولكنّهم يهملون الآخرين: دور الحرب في التّراكم الرأسمالي، وأهمية السياسة والاستراتيجيا في صناعة القيمة في دول المركز.
مشكلة «ماركسية المركزية الأوروبية» ــــ بتعبير القادري ــــ هي أنّ جزءاً كبيراً منها يفسّر ماركس على أنّه مجرّد محاسب، يشرح لك من اين يأتي سعر السّلعة، وأنّ «الاستغلال» الرأسمالي عندهم يقتصر على شكلٍ واحد، هو سحب القيمة من عمّال المصانع في الغرب أو المشاغل في آسيا. هم لا يفهمون العلاقة الكليّة بين الحرب والانتاج، وأنّ «السّعر» ما هو الّا تعبير عن القيمة، التي يقرّرها الى حدٍّ كبير ميزان القوى على مستوى العالم. لهذا السبب هم لا يرون العلاقة العضوية والمباشرة بين تدمير كوريا في الخمسينيات وإعمار اليابان، وبين تدمير فييتنام في الستينيات وإعمار كوريا. وهم يفصلون بين الغزوات الاوروبية، التي شكّلت العالم وشعوبه منذ القرن السادس عشر وبين «الاكتشافات الاوروبية» في عهد الثورة الصناعية.
لهذا السبب، يقول القادري، تجد من بين الماركسيين الاوروبيين (والعرب) من يحدّثنا عن «فضائل» التوسّع الرأسمالي الاوروبي ودوره «التحريري» و«التحديثي»، ويفسّرون كلام ماركس في الهند على هواهم ليخبرونا أنّ الرأسمالية الاوروبية، على علّاتها، قد أخرجتنا من «عهود الظلام» وأدخلتنا في الحداثة. المعادلة في عُرفهم اذاً ــــ بحسب تعبير القادري ــــ هي أن «الشيء الوحيد الأسوأ من أن يتمّ استغلالك عبر الرأسمالية، هو أن لا يتمّ استغلالك عبر الرأسمالية». بتعبير آخر، أن تجري إبادة ثلث شعوب العالم واستعمار قاراته، وأن يتمّ تدمير الكوكب، كان «أمراً يستحقّ»، مقابل أن يحصل من تبقّى منّا على رشّاش المياه السّاخن ــــ وهو هنا، يقول القادري، يتمّ تقديمه كـ«اختراع» اوروبيّ خالص، ما كنّا لنصل اليه وحدنا، وما كان ليحصل لولا هذا المسار التاريخي «الضروري» (وهو ثمنٌ مقبول طالما أنّ الضحايا ليسوا اوروبيين بيضاً، تخيّلوا أن يقوم أحدهم في الغرب بتطبيق المنطق ذاته على الهولوكوست).
المشكلة في تفسير الحرب وعلاقتها بالانتاج والبشر، يقول القادري، هي أنّ المحلّلين يرفضون رؤية الانسان كسلعة، وهو كذلك تماماً في عين الرأسمالية. مثلما يستفيد المركز الاوروبي، حين ينتج «آيفون» مثلاً، من فارق الكلفة بين أجر العامل الآسيوي البخس والسعر العالي الذي تُباع به هذه السلعة في المركز، يكتب القادري، فإنّ الحرب تُعامل البشر على المنوال نفسه: الانسان اليمني أو السوري أو العراقي يكلّف «قليلاً»، بالمعنى النقدي الرأسمالي، حتّى ينشأ ويكبر ويتعلّم، وهو سينتج ويستهلك «قليلاً» لو تمّ استغلاله في مشغل، ولكنّ عمليّة قتله وتصفيته (من القنبلة التي تقتله الى الطائرة الى الصناعات خلفها الى الأثر الاستراتيجي للحرب) تنتج ملايين الدولارات. دورك «الانتاجي» في الرأسمالية، كعربيّ اليوم، هو أن تموت. وحين تموّل اميركا ميليشياتها في المنطقة، لإطالة أمد الحروب، فالمعادلة أفضل: المقاتل يكلّفك مئات الدّولارات في الشّهر، فيما موته أو قتله للآخرين يستجلبان «عائداتٍ» كبيرة. العراق وسوريا، لو تمّ استغلالهما على النمط الآسيوي، سيراكمان فوائد بسيطة لأميركا، بالحساب التجاري، غير أنّ مصالح حرب العراق تحوّلت الى صناعة بمئات مليارات الدّولارات. واشنطن مستعدّة ــــ بلا تردّد ــــ لصرف المليارات على عسكريّتها لتدمّر الموصل، مثلاً، ولكنّها لن تتبرّع بعشر هذا المبلغ لإعمارها.


الخيار الفردي

على المستوى الفردي، كلٌّ منّا يواجه خياراً شبيهاً. حين تكبر وتكتشف طبيعة العالم الذي تعيش فيه، وأنّ الرأسماليّة هي حياة عملٍ وتعبٍ ومخاوف وقيود وتنافس، فأنت ــــ بطبيعة الحال ــــ سوف تحلم بنقيضها: حياةٌ لا تحتاج فيها الى المادّة، ولا شيء يجبرك على العمل، أو فعل أيّ شيءٍ لا تريده، وتصنع مسارك ونفسك كما تشاء، أي ــــ بكلمات أخرى ــــ الحريّة في عالمٍ يقوم على العبودية. هذه الحياة الجميلة، بالمناسبة، لها اسمٌ وتوصيفات، وقد تكلّم عنها المفكّرون من أفلاطون الى انجلز، وهي ببساطة «الحالة الارستقراطية». أن تكون ارستقراطيّاً يعني أنّك، بسبب الولادة، متحرّرٌ من الحاجة الى المال أو العمل، تعيش حالةً مستمرّة من «الفراغ الاختياري» (idleness)؛ فيمكنك أن تقضي حياتك كما تريد: في وسعك أن تدخّن غليوناً وتقرأ روايات بوليسية، بإمكانك أن تكتب وتبحث، أو تراكم الأموال، أو تدخل مضمار السياسة ــــ ولكنّك تفعل كلّ هذه الأمور من خارج حسابات الحاجة والاضطرار. هذه، بأيّ مقياسٍ، هي حياةٌ جيّدة، ولو حاول ابن ثريّ اقناعك بغير ذلك فهو يدلّس ويكذب عليك (المشكلة، بالطّبع، هي أنّ قلّة صغيرة من الناس تنتمي، تاريخياً، الى طبقةٍ كهذه، ورفاهها يكون دوماً على حساب الأغلبية الباقية).
الخديعة الكبرى التي تمارسها الرأسمالية علينا هي أنّها تحاول اقناعك بأنّ في وسعك الارتقاء الى هذا المثال عن «الحريّة» من داخل الرأسمالية، لو أنّك نجحت أو راكمت أموالاً أو وصلت الى مرتبة معيّنة، وكنت أذكى من الباقين وأكثر تفوّقاً وطاعةً وشراسة. هنا، تصبح المخاوف التي تولّدها الرأسمالية، وشعور انعدام الأمان وفقدان الحريّة، هي الحافز الذي يدفع الكثيرين الى الإنكباب عليها، بدلاً من مقاومتها. أقول إنّ الإغواء وهم لأنّك، ببساطةٍ واختصار، إن لم تولد ارستقراطياً فأنت لن تصبح كذلك، و«النّضال من داخل الرأسمالية» قد يعطيك راتباً أكبر، ولكنّه لن ينقلك الى حالةٍ مختلفة، ويعطيك «الحرية» والاستقلالية والأمان. المسألة هي أنّك، لو تكلّمت مع كبار الموظّفين ومدراء الشّركات في الغرب، فإنّ مخاوفهم ــــ مهما ارتفعت رواتبهم ومراتبهم ــــ لا تختلف نوعياً عن تلك التي يعاني منها أصغر موظّف: الخوف من الصّرف، الخوف من أن تفشل الشركة، الخوف من أن تخسر نمط حياتك ومنزلك، الخوف من عدوّك في العمل، الخ… لا حرية ولا استقلالية هنا. ولديّ العديد من المعارف الطموحين الذين شرحوا لي، منذ سنواتٍ طويلة، خطّتهم للعمل بشراسة لسنوات ومراكمة المال، ومن ثمّ التقاعد شباباً ونيل «الحريّة»؛ ويكون هذا هو التبرير للتنازلات، والعمل المحموم لحساب الآخرين، وخسارة سنواتٍ طويلة في الكدّ والتوتّر. أؤكّد أن لا أحد منهم اليوم يسترخي في قصرٍ أو على شاطىءٍ في اميركا الجنوبية (الأثرياء في بلادنا قصّة أخرى، ومن يعرف ماذا تحتاج أن تفعل حتّى تجمع ثروةً في بلاد الجنوب يفهم أنّ الكلفة والتنازلات هنا تذهب الى ما هو أعمق بكثيرٍ من استهلاك جسدك ووقتك).
في هذه الحالة، حين لا يكون هناك فارقٌ نوعيّ بين المدير والبروليتاري، لا يعود أمامك سوى أن تركز هوسك على الأغراض المادية وأنماط الاستهلاك، وأن تعتبر أنّ فيها سرّ السّعادة. سيّارة أفخم من سيارة جارك، وبيتٌ أكبر، وحين تتقاعد أخيراً وتسافر على سفينة الرحلات لتستمتع بثمار عمرك، مصطحباً معك عبوة الأوكسيجين، فأنت تحجز في الدرجة الأولى. الميزة الثانية لديك، في هذه الحالة، هو أن تقارن نفسك بغيرك (والرأسمالية البرجوازية، كما يقول جيجك، جوهرها الحسد والمقارنة) وأن تسعد بأنّك، ولو كنت تعيساً وغير حرّ (الزّوج السيّئ، مثلاً، له تأثيرٌ على سعادتك أكثر بكثيرٍ من درجتك الوظيفية)، فأنت تظلّ أفضل من أولئك «الخاسرين» الذين هرستهم الرأسمالية عن حقّ، أو ظلّوا في بلاد الجنوب ولم يتح لهم الهروب الى الغرب، أو يكدّون طوال حياتهم من دون أن يعرفوا طعم لحم البقر الياباني. لهذا السّبب، كانت الحركات الثورية والاشتراكية، على مدى التّاريخ، تبدأ محاججتها مع الفرد بأن تفهمك موقعك في المجتمع، وأنّك ــــ طالما لم تولد ارستقراطياً ــــ فإن اللعبة قد انتهت بالنسبة اليك، ولا جدوى من أن تحاول تقليد الأثرياء وخدمتهم والطموح الى الانتماء الى ناديهم. أملك الوحيد في هذه الحياة هو أن تحاول، مع الأغلبية التي تشاركك موقعك، أن تبني عالماً مختلفاً.

خاتمة

على المستوى الدّولي، الأمر لا يختلف كثيراً. هناك دائماً بين نخب الجنوب من يعتقد أنّ في وسعه التحايل على الهيمنة، وأن يبني سنغافورة حيث يشاء، ويعتقد أنّك عبر التّماهي مع الغربي القوي، واتّباع أنظمته وسياساته وقواعده، فإنّك ستصبح مثله. هذا يرجع أحياناً الى نرجسيات قوميّة، وأحياناً أخرى الى طبيعة النّخب ذاتها وهي، في خلفياتها وطموحاتها وهمومها، أقرب الى اليساري الأوروبي منها الى ماو ورفاقه. وتجد دوماً، وهذا أحقر، من يعتقد أنّه «أفضل» من غيره، ويستحقّ أن ينتمي الى الغرب على حساب من يحيط به (النّموذج الاسرائيلي، أو اصرار بشير الجميّل على أنّ لبنان لا ينتمي الى «العالم الثالث» ولا يجب أن يُجمل معه). واقع الهيمنة هو ما يستدعي المقاومة، وليس لأنّ المقاومة شيءٌ جميل. في وسعك أن تتجاهل هذا الواقع، أو تخفيه وتجمّله، وتدّعي أنّ السّبيل الأسلم هو الرّضوخ للنظام العالمي ومحاولة الاستفادة منه وترك الحروب والنّضال لشعوبٍ أقلّ حظّاً. هذا خطابٌ قد يكون عقلانيّاً في كوريا أو اليابان، وهو السائد في اوروبا (كما يقول علي القادري، لمن ينتظر راديكالية من البرّ الأوروبي، فإنّ عدد العمال الصناعيين يتناقص في القارّة باضطراد، وهي لم تشهد انتفاضة عمّاليّة حتى في عزّ الثورة الصناعيّة، فهل نتوقّع ثورة اشتراكية فيها اليوم؟). ولكنّ ما معنى هذا الخطاب حين يوجّه لعربيّ من الشرق الأوسط، الدور الوحيد لمنطقته، في النّظام العالمي، هو أن تكون ميدان حربٍ وغزوٍ وتدمير للمواردٍ والبشر؟ من الممكن أن تعقلن الرضوخ والتّصالح وعدم رفع السّلاح في وجه نظامٍ أقوى منك يروم «استغلالك»، ولكن ما العمل مع علاقةٍ أسّسها الغرب معنا، تكون وظيفتك فيها هي أن تموت؟