قبل الأحداث التي انطلقت عام 2011، كان يُنظر إلى راشد الغنوشي، في المشرق العربي خصوصاً، على أنه شخصية دينية معتدلة، وهي نظرة كسبها بسبب بعضٍ من كتاباته، أبرزها منشوراته حول «الحريات العامة» وعن المرأة. وكانت صورة «راشد الغنوشي ــ الشيخ والمفكّر»، مخالفة للصورة المكوّنة في الداخل التونسي عنه بصفته أبرز وجه لحركات الإسلام السياسي في البلاد، والمؤسس الفعلي لـ«حركة الاتجاه الإسلامي» صاحبة التاريخ السياسي الجدلي التي ستتحوّل في مرحلة لاحقة إلى «حركة النهضة».
صورة «الشيخ ــ المفكّر المعتدل»، لا تعني في أي حال خروجه من تحت عباءة الحركات الإسلامية المتأثرة بشدة بفكر «الإخوان المسلمين» وعقائدهم. في العقد الماضي فقط، كان الغنوشي المنفي في لندن هرباً من حكم زين العابدين بن علي، يؤكد في حواراته الإعلامية أنه يريد «إقامة الدولة الإسلامية... (إذ إنّه) أمل كل مسلم يريد للإسلام أن يحكم، ولا يكون الإنسان مسلماً إذا لم يُرِد لعقيدته أن تحكم». لذا، من باب الاستطراد، قد يكون من الواجب القول إنّ «الاعتدال» المنسوب إلى الشيخ راشد الغنوشي، «كان في شقٍّ منه دعائياً»، كما يرى البعض. فتلك الصورة صيغت في إطار الصراع المستدام في العلاقة بين «شرق وغرب»، وبالأخص في دفاع البعض عن أنّ «الإسلام لا يتنافى مع قيم الديموقراطية الغربية»، وعليه «كان يتم تقديم تصورات وقراءات الغنوشي وغيره من نظرائه»، للتأكيد والاستدلال.

من تاريخ عودة راشد الغنوشي إلى تونس عام 2011، وحتى يومنا، فإنه يمثِّل في الداخل التونسي أكثر شخصية انقسامية، خاصة أنّ جزءاً وازناً من المجتمع المحلي، يرفض حكم «حركة إخوانية». والحق يُقال، فإنّ «النهضة» وزعيمها، قدّما تنازلات عدّة (أو أجبِرا على ذلك) سعياً للاندماج في المجتمع السياسي التونسي وتثبيت المواقع، وخشية أن يلحق بالحركة ما حصل لـ«الإخوان» في مصر عام 2013.
مما قدّمته الحركة، أنّها أخرجت نفسها، ولو صُوَرياً قبل عام، من عباءة «الإخوان المسلمين» إثر المؤتمر العام الذي «فصَلَت خلاله بين الشأنين، السياسي والدعوي». وعلى الرغم من أنّ ذلك المؤتمر «غطّى السَماوات بالقبوات» بتعبير بعض العارفين، بمعنى أنّ الحديث عن «الفصل بين الشأنين» غطّى على حراك الغنوشي للهيمنة شبه الكلية على «النهضة» واستبعاد شخصيات مخالفة له، فإنّ الحدث بنفسه مثّل مفصلاً أعلنت الحركة خلاله، ولو رمزياً، تحوّلها نحو بدء الدخول الفعلي إلى الدولة التونسية وإطلاق عملية مدّ سيطرتها فيها.
بطبيعة الحال، شهد المؤتمر على تحوّل فكري (من الظلم ربما إنكاره)، لكن ما استفاد منه الغنوشي من خلال هذا المؤتمر الشهير، أنّه أزاح عنه وعن حركته «عباءة الإخوان» التي أضحت ثقيلة بسبب الظروف الإقليمية والداخلية. وبإزاحتها، اعتقد «النهضويون ــ الغنوشيون» (إن صحّ إطلاق هذا التعبير)، أنّ السياقات باتت أسهل لتثبيت الحضور في الدولة، بعد عقود من التمدد المجتمعي على غرار ما تفعله الحركات الإسلامية في أي بلد كان.
ما سُمِّي «تَونَسة النهضة» رافقه رسم صورة جديدة عن راشد الغنوشي، بأنه «رجل الدولة الذي يحمي التوافق الداخلي»، وبأنّه الدبلوماسي الذي يشارك في إيجاد الحلول للمسائل الإقليمية، حتى قال أحد الدبلوماسيين العرب قبل نحو عام: «أخشى من أنّ الغنوشي بات يحوز شبكة دبلوماسية إقليمية، أوسع من شبكة الدولة نفسها».
على الصعيد نفسه، لا بد من الإشارة هنا إلى أنّ «تَونَسة النهضة» أنتجت لوثة، كان بالإمكان تجنبها. فحين اغتيل الشهيد محمد الزواري، في مدينته صفاقس قبل أشهر، بسبب عمله مع الجناح العسكري لحركة «حماس» (القسّام)، وقيل إنه كان «نهضوياً» في السابق، ردّ الغنوشي بالحرف: «لا يمكنه أن يكون نهضوياً، وهو جزء من استراتيجيا أخرى... نحن نمتنع عن العنف، تفكيراً وعملاً، ونمنع المشاركة في أي عمل عنيف خارج بلادنا... ولو استشارني، فنقله ما تمشيش». (كان صاعقاً هذا الرد من الغنوشي، أقله هنا في بيروت. وقد بُرر كثيراً بما هو مقنِعٌ وما هو غير مقنِعٍ. وحتى لو أنّ حديثاً كهذا يتناسق وظروفاً إقليمية، فالأفضل ربما أن تواصل الحركة تبريره بنفسها، وتتحمل مسؤولية تصريحات كهذه ترتبط مباشرة بالقضية الفلسطينية).
مجمل هذا المسار (أي خلع عباءة الإخوان، والتَّونَسة)، أوصل أول من أمس، إلى خروج راشد الغنوشي، في حوار متلفز (كان لافتاً أنه قُدِّم خلاله بصفة الأستاذ وليس الشيخ راشد)، بصورة جديدة، خاصة أنه كان يلبس زياً «غير معتاد»، وفقاً لتعبيره، فيما علّق موقع إخباري تونسي معروف، على هذا اللباس بالتساؤل: «الغنوشي يستعدّ لربطة عنق.. رئاسية؟»، في إشارة إلى الحديث المتكاثر في المدة الأخيرة بشأن نية زعيم «النهضة» للترشح إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
أراد الغنوشي أن يُقدِّم صورة جديدة عن نفسه، لكن من المهم التنبّه أكثر إلى حديثه الطويل خلال الحوار المتلفز عن «الانتخابات البلدية» وضرورة إجرائها في موعدها، إذ إنّ هذه الانتخابات وحدها ستمكّن «النهضة» من تثبيت سيطرتها على واحد من أهم مجالات سلطات الدولة المحليّة.
برغم ذلك، فنظراً إلى الجدل الذي أثارته «ربطة العنق» (للأسف ربما)، فإنّ القيادي في «النهضة» والقريب من راشد الغنوشي، لطفي زيتون، كتب مُبرِّراً ارتداء زعيم الحركة «لما يعتبره التونسيون زياً رسمياً، أي بذلة وربطة عنق»، فقال إنّ ذلك يعني «مغادرة منه لمربع الطائفة، وخطوة منه نحو الدولة». وأضاف (بشيء من اللغط) أنّ «أساس الدولة هو البراغماتية، وأساس الأيديولوجيا هو الدوغما، لذلك تتسم العلاقة بينهما بالتوتر المستمر».
المفارقة أنّ هذا التبرير يُعيد إلى المربع الأول عملياً، أي إلى البحث في مختلف الصور التي عرفناها عن الغنوشي: هو الداعية فالشيخ فالمفكّر فالسياسي... فالطامح إلى حكم الدولة؟ لم يعد خافياً هذا الطموح، فكثر يتحدثون عنه ويشيرون إليه، لكنّ «الغنوشي يدرك ربما أنه شخصية خلافية في تونس، ولذا فهو يدرك مبدئياً صعوبة تحقيق ذلك»، كما يقول أحد الباحثين التونسيين (في العلوم الاجتماعية).
ولعلّ مختلف تلك الصور التي صيغت للرجل (وصاغها هو)، تُعيد إلى الذاكرة أنّ الباحث التونسي عبد الحق الزموري، حين أراد في عام 2012 تقديم مطالعة «تُعين على القراءة المتأنية» لمنشورات الغنوشي بالاستناد إلى كتابه «الحريات العامة في الدولة الإسلامية»، قال إنه «كثيراً ما يجد الباحث حرجاً في التعامل المعرفي مع راشد الغنوشي ومع ما يكتب أو يصرّح»، معتبراً أنّ «الرجل مسكون في كل ما يكتب وما يفعل بهموم ثلاثة: همّ الفكرة؛ وهمّ أدوات التغيير (الحزب/التنظيم)؛ وهمّ الواقع المرجو تغييره». ولئن نفى الزموري «الفكر الجامد» عن الغنوشي، فإنّه قال: «المشكلة في اعتقادي، (هي في) غلبة السياسي ــ الحركي ــ التنظيمي على تفكير الغنوشي».
«الغنوشي السياسي» هي الصورة التي يُكرّسها لمرة نهائية الحوار الملتفز الأخير لزعيم «النهضة». وثمة من يعتقد أنّ هذا «السياسي» لن يتراجع عن طموحه في الوصول إلى «قصر قرطاج» الرئاسي، خاصة أنّه «ينتمي بصورة أو بأخرى إلى نفس جيل الحبيب بورقيبة والباجي قائد السبسي، وهؤلاء لا يسلّمون بسهولة بناءً سهروا في إقامته عقوداً عديدة... ويعتقدون أن السفينة تغرق من دونهم»، على ما قال متابع للحياة التونسية سابقاً.
الرجل الذي وصل أول من أمس إلى تكريس صورته بصفته «سياسياً» وليس «شيخاً» أو «داعية» أو «مفكراً»، أجاب حين سأله محاوره عن «المرة الأولى التي يلبس فيها ربطة العنق» وعن «التبدّل الحاصل»، بالقول: «على كل حال، الدنيا تتبدل... و(اللباس) من العوايد، والعوايد تتغير لأن ما عندهاش أساس ديني». نعم، «(كم) تتبدّل الدنيا»... بين مسارات الدعوة الدينية وقرطاج.