أسوأ ما قد يحدث في الانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة ألّا تكون هناك منافسة جدية على اكتساب ثقة الرأي العام بين رجال وأفكار وبرامج. عندما تغيب أي قواعد تسمح بمثل تلك المنافسة، فإن الانتخابات نفسها تتحول ــ بقوة الواقع ــ إلى استفتاء مقنّع على مرشح واحد. بالنص الدستوري، فإن التعددية السياسية وتداول السلطة صلب نظام الحكم.
وإذا غابت التعددية الحقيقية، فإنّ الشرعية تشرخ بما يستعصي ترميمه، والمستقبل يغيم بما لا يضمن أمناً واستقراراً وتثبيتاً للدولة. هذا وضع ينال على نحو خطير من منسوب الثقة العامة في المستقبل، التي تحتاج إليها مصر لمواجهة أزماتها المستعصية، ويضرب بقسوة في جذور الشرعية الدستورية.
قبل أي حديث عمن ينافس الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، لا بد من طرح الأسئلة الرئيسية عن البيئة العامة، التي تضفي على الانتخابات جديتها وتدفع قطاعات عريضة من المواطنين للذهاب إلى صناديق الاقتراع حتى يحددوا بأنفسهم مستقبلهم السياسي.
في انتخابات على هذه الدرجة من الأهمية، يفترض أن تتوافر فرص السؤال العام عن السياسات المتبعة، ما نجحت فيه وما أخفقت، وأين الأخطاء الجوهرية وسبل تجاوزها؟ قبل أن يقرر المواطنون إلى أين تذهب أصواتهم. بقدر اتساع المجال العام للتنوع السياسي في المجتمع، تكتسب أي انتخابات قدرتها على التصحيح والتصويب وضخ دماء جديدة في شرايين الشرعية. إذا جفت السياسة، لا يمكن الحديث عن انتخابات لها صفة الجدية. وإذا حجبت الأفكار والتصورات عن أن تطرح نفسها بحرية، فإن المشهد كله سوف يكون فقيراً ومنذراً في بلد منهك يبحث بالكاد عن أمل. الحوار من طرف واحد مشروع أزمات لا سبيل للفكاك منها، فهو لا يؤسس لأي توافق وطني ضروري ولا يسمح بتصحيح أي أخطاء. التوافق قضية إقناع لا إملاء، والتصحيح ضرورة إنقاذ لا تآمر. لا يعقل النظر إلى كل اختلاف رأي كأنه مؤامرة تستهدف الدولة في وجودها والاستغراق في نوع بدائي من إعلام التعبئة يصادر الحوار العام بنوبات صراخ لا تقنع أحداً ولا توفر احتراماً، فضلا عن أنه يسطّح الأزمات الماثلة.
أخطر ما يحدث ــ ترتيباً على خنق الحوار العام ــ التجهيل بأحجام الخطر الذي يعترض البلد ويهدده في مصيره. في المقابل، هناك من ينفي أي خطر من باب النكاية في الحاضر.
بلغة الحقائق، فإن تفشّي الإرهاب خطر وجودي يهدد الأمن والاقتصاد وسلامة المجتمع، وسيناريوات تقسيم دول عربية رئيسية مثل سوريا والعراق وليبيا يضرب في الأمن القومي المصري على نحو غير مسبوق، وينذر بنزع شمال سيناء في أي «صفقة قرن» محتملة، خطر وجودي ثان، وانخفاض حصة مصر من المياه بأثر بدء ملء سد النهضة الإثيوبي، خطر وجودي ثالث يؤثر على قدرتها في إنتاج الغذاء لمواطنيها.
الأزمات الوجودية ليست متخيلة، وقد تداهمنا بأخطارها من دون أن تتوافر أي أرضية صلبة من توافق وطني يدرك حقائق الموقف الصعب.
التوافق مسألة حوار وقواعد وبيئة عامة تصنع الثقة في المستقبل. البيئة المسمومة لا تسمح بأي توافق، كما أن الثقة العامة لا تصنعها «فوبيا» إسقاط الدولة.
تعبير «الفوبيا» نفسه يعكس الأزمة المستعصية في تعريف الدولة ويهز ثقة المجتمع حيث يجب توكيدها. وقد ينظر إليه كإشارة لاستباحة كل رأي مخالف وكل من يجرؤ على النقد.
وذلك كله يهدم أسس الدولة بمعناها الحديث وينهي أي رهان على الانتخابات الرئاسية في تصويب السياسات. بالتفكير الدستوري، الانتخابات الرئاسية مسألة جوهرية في بناء الشرعية تتسق مع ما طلبته ثورتان في الانتقال إلى دولة مدنية ديموقراطية حديثة. وبالتفكير الأمني، فإنها تحصيل حاصل والنتائج مقررة سلفاً. وقد أدت تنحية السياسة إلى التوغل في التفكير الأخير إلى حد مطالبة برلمانيين بتعديل الدستور لإرجاء الانتخابات الرئاسية لعام أو عامين باسم الظروف الطارئة، التي تتطلب إعادة النظر في فترة ولاية الرئيس. مخالفة الدستور صريحة والعواقب لا يمكن التهوين منها، فمثل هذا التفكير ينهي بالضبط أي شرعية. الفكرة أجهضت، وهذا إيجابي، غير أن التفكير بذاته يشير إلى عدم اكتراث بالشرعية الدستورية. بذلك النوع من التفكير يصعب التعويل على أي إقبال يُعتدُّ به أمام صناديق الاقتراع. نسب الإقبال الشعبي تشير إلى معدلات القبول العام، وهذه مسألة شرعية.
إذا كان الإحجام كبيراً، فهذا يعني أمام العالم شهادة لا شك فيها على نهاية العملية السياسية في مصر. ولذلك تداعيات بالغة السلبية على حركة الاقتصاد والاستثمار.
بصياغة أخرى، فإن للاستفتاء المقنّع وجهاً آخر في لجان الاقتراع، وكلاهما يسحب من خزان الشرعية. وذلك وضع لا يثبت دولة في عصر ثورة المعلومات.
بعد انقضاء الشرعية الثورية، لا شرعية أخرى غير الشرعية الدستورية. عودة الماضي شرخ عميق في جذر الشرعية. ليست هناك مصلحة واحدة للدولة بمعناها الحديث في العودة إلى خطوط عام ٢٠٠٥، حين أجريت لأول مرة انتخابات بين أكثر من مرشح رئاسي افتقدت أي قواعد تضمن حياد أجهزة الدولة ونزاهة العملية الانتخابية وبدت استفتاءً مقنّعاً.
كان هذا العام بداية الانحدار الكبير لنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك. لا نظامه اكتسب شرعية جديدة ولا الدولة تأكدت قوتها، فالتآكل أخذ ينخر في بنيتها باسم الاستقرار حتى وصلنا إلى «يناير». القضية ليست البحث عن مرشح ينافس الرئيس الحالي، بقدر ما هي إحداث تغيير جوهري في البيئة العامة التي لا تشجع على أي تنافس جدي حتى تكتسب الانتخابات صدقيتها واحترامها وتأثيرها الإيجابي على ثقة المجتمع في نفسه.
هناك فارق جذري بين انتخابات مفتوحة وأخرى مغلقة. في الانتخابات المفتوحة، وفق قواعد دستورية تضمن مدنية الدولة وديموقراطيتها وتداول السلطة، قد تبرز في السباق الرئاسي جياد جديدة تتقدم من الخلف إلى الأمام بقوة حضورها السياسي وما تطرحه من أفكار وتصورات جديدة. على هذا النحو، صعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لم يكن يعرفه أحد تقريباً خارج دوائر ضيقة، إلى قصر الإليزيه.
شيء من ذلك حدث في الانتخابات الرئاسية المصرية عام ٢٠١٢، فقد أفضت ما وفرته من أجواء مفتوحة إلى صياغة جديدة للخريطة السياسية، وكادت أسماء لم تكن معروفة من قبل على نحو كاف لجمهور الناخبين أن تحسم السباق الرئاسي لو أُتيح أمامها وقت كاف إضافي ــ حمدين صباحي مثالاً. كانت تلك التجربة ــ رغم ما شابها من تجاوزات نسبية ــ واعدة بالانتقال من عصر إلى عصر، غير أن العملية السياسية التي صعدت بها الجماعة إلى الحكم تعرضت لضربة قاصمة من تنكرها للمبادئ الديموقراطية ومحاولة التكويش على مفاصل الدولة، ثم أجهضت التحولات التالية العملية كلها باسم الدفاع عن الدولة. وقد كان للتجربة التالية في انتخابات ٢٠١٤ ظروفها الخاصة التي لا يقاس عليها، فدويّ الانفجارات يهزُّ العاصمة من حين لآخر وأشباح الاحتراب الأهلي في المكان. التحدي الحقيقي الآن هو الانتقال مما هو غير طبيعي إلى ما هو طبيعي، من بيئة مسمومة إلى بيئة صحيّة، تجيب بثقة عن سؤال تثبيت الدولة.
*كاتب وصحافي مصري