ينجو فيلم «ماورد» لمخرجه أحمد إبراهيم أحمد، من الانخراط مباشرة في خطاب الحرب، على غرار ما انزلقت إليه أفلام أخرى، أنتجتها «المؤسسة العامة للسينما» في السنوات الأخيرة، وإذا بها أقرب ما تكون إلى النشرات الدعائية، من دون أن تحقق أي بصمة جمالية لافتة. الشريط الذي شاهدناه في عرضٍ خاص قبل أيام في دمشق، عن سيناريو كتبه سامر محمد إسماعيل باقتباس عن قصة لمحمود عبد الواحد بعنوان «عندما يقرع الجرس»، يلجأ إلى تأريخ ثلاث حقب سورية من خلال شخصية معلم المدرسة.
هكذا يتعاقب ثلاثة معلمين على مدرسة في قرية جبلية نائية، ينشغل أهلها بزراعة الوردة الشامية لتصنيع مربى وزيت الورد. تلاميذ محشورون بين جدران غرفة ضيقة، وعقوبات شيخ الكتّاب قحطان (عبد اللطيف عبد الحميد) الصارمة التي تتمثّل في طلس شفاه التلاميذ بدبس الفلفل الحار بدلاً من ضربهم بالعصا، فيما تفوح رائحة عطر الورد على بعد خطوات من المدرسة. هناك نتعرّف إلى «نوّارة» (رهام عزيز) المنهمكة في تصنيع الورد، وشقيقها الأبكم (وسيم قزق)، و«محمود» (علي دهمان) التلميذ المراهق الذي هرب من المدرسة لمساعدتها في عملها، وصولاً إلى تعلّقه بها. أنثى يشتهيها كل رجال القرية بمن فيهم «شيخ الكتّاب» الذي يعيش صراعاً نفسيّاً بين قيمه الروحيّة وشهواته الدنيوية (سنتذكّر فيلم «لي لي» لمروان حامد، المقتبس عن قصة ليوسف إدريس). إلا أن السيناريو يطيح هذه الشخصية باكراً، من دون مبررات حاسمة، لمصلحة الحقبة الثانية، ومجيء معلم جديد يدعى غانم (رامز أسود) إلى القرية بصحبة زوجته الفرنسية لوسيان (نورا رحال). هكذا تحترق جبّة الشيخ في مشهد ليلي مؤلم، ليستيقظ أهل القرية على حقبة ثانية تتمثل في حداثة مباغتة مواكبة لمرحلة ما بعد الاستقلال. سينصح المعلم الجديد تلاميذه بدراسة المواد العلمية. كما سينهمك بتعزيز هوايته في التصوير الفوتوغرافي، فيما تعتني زوجته بتقطير زيت الورد وتهريبه خارجاً لصناعة العطور، إثر اكتشافها خيانته لها مع نوّارة.

مشهديات بصرية أخّاذة، تنطوي على افتتان بسحر البلاد



الصور التي التقطها المعلم خلال وجوده الخاطف في القرية، ووقع عليها «محمود» بما فيها صور «نوّارة» بأوضاع فضائحية، ستكون جزءاً من أرشيف تاريخ البلاد الذي يستعيده محمود في شيخوخته المتأخرة، وهو ممدّد على سريره في المستشفى، منهياً ذكرياته بحقبة ثالثة تتمثل في وصول معلمٍ ثالث يدعى ثائر (فادي صبيح)، بعد القبض على المعلم السابق بتهمة غامضة. لا نحتاج إلى فحص عميق لاكتشاف حقبة البعث وزمن الكاكي كزيّ موحّد يفرضه المعلم الجديد مصحوباً بشعاراته التعبوية، وخطابه الثوري في مواجهة المؤامرة على البلاد، إلى أن تقع بين يديه صورة تحت مخدة سريره، كان المعلم السابق قد نسيها قبل رحيله المباغت. «نوّارة» مرّة أخرى، ستؤرق رجلاً آخر، وها هو يتسلل إلى بيتها متلصصاً، على أمل تحقيق رغباته المكبوتة معها. عدا أرشيف الصور الملتقطة بالأبيض والأسود، لن نجد حاملاً سردياً متيناً، في مزج وتشبيك وربط الحقب الثلاث، إذ بدت كأنها ثلاثة أفلام قصيرة متتالية، ما يستدعي ارتباكاً موازياً في طبقات الزمن وتأثيره على ملامح الوجوه، كأن الزمن يمضي لوحده، من دون أن يترك ندوبه على شخوص الفيلم، فيما تختفي سارية العلم عن المدرسة في حقبها الثلاث (!). سنلمح فقط رايات التكفيريين في غزوهم للقرية، ثم تحريرها منهم بقدوم الجيش السوري إليها. قبل ذلك، ستغرق «نوّارة» في حوض الورد على يد شقيقها الأبكم، «غسلاً لعاره»، بعد اكتشافه علاقتها مع المعلّم الثاني. وفقاً للاشتغالات السيميائية للشريط، ينبغي وأد الأفكار السلفية للمعلم الأول، والنظر بريبة للأفكار الليبرالية المستوردة للثاني، والتهكم الملتبس والمراوغ لانقلاب البعث وعسكرة البلاد من جهة، وتمجيد الجمال المخبوء في بلاد الورد والعطور قبل أن يجتاحها البرابرة بالسيوف، من جهةٍ ثانية.
كاميرا أحمد إبراهيم أحمد في تجربته الروائية الأولى أنقذت هذه الحبكات المتجاورة بمشهديات بصرية أخّاذة، تنطوي على افتتان بسحر بلاد، أراد الآخرون تدميرها، وإذا بها تنهض من جحيمها بكنوزها المخفيّة في مواجهة البغضاء والكراهية. كان للحكاية أن تذهب بمفردها إلى صناعة الجمال، ورائحة العطر، ومراتب الشهوة والإغواء، من دون تلقيمها جرعة من خارجها، إلا أن هذه الاستدارة المباغتة إلى زمن الحرب، أرهقت الشريط بما يفيض عن حاجته، ويعيق مجراه البلاغي، لمصلحة التطريب البصري.
في المقابل، سنتذكر حبكات مشابهة سبق أن شاهدناها في أفلامٍ أخرى، ذلك أن «نوّارة» الأنثى المشتهاة، ستحيلنا إلى فيلم «مالينا» للمخرج غيسيبي تورناتوري. امرأة جميلة (مونيكا بيلوتشي) تعيش ويلات الحرب العالمية الثانية في زمن فرانكو، يطاردها الرجال والمراهقون بشهواتهم الحسيّة، وتحسدها نساء المدينة على فتنتها وجمالها، إلى أن يشاهدها فتى مراهق مع أصدقائه تسير على ساحل البحر، فينبهر بجمالها وفتنتها، ويقرر أن يتابعها على دراجته الهوائية، والتلصص عليها في منزلها الذى تعيش فيه وحيدة. وإذا بحياته تذهب إلى مجرى آخر. كما سنتذكّر وقائع من فيلم «شوكولا» لجولييت بينوش، وإخراج لاس هالستروم. ستتحول الشوكولا إلى «ماورد»، والأصم إلى أبكم، والعائد من الحرب بذراع واحدة إلى أعرج! على أن هذه الإحالات لا تؤذي خصوصية هذه التجربة، بصرف النظر عن بعض هناتها، أقلّه محاولة الذهاب نحو ضفة جمالية تفترق عن سواها من أشرطة ستذهب إلى المستودعات، من دون ألم.