في روايته «كان غداً» (دار الساقي)، يعمد الكاتب اللبناني هلال شومان إلى بنية سردية مفككة تتداخل فيها أشكال صحافيّة عدة، لتصوير لبنان فضاءً سردياً يشهد أحداثاً غامضة ترمي بالأمس إلى الغد، إلى درجة يخال القارئ الحاضر لحظةً هاربةً من الماضي وما تلبث أن تعود إليه.
تعتبر رواية شومان رواية عن الزمن الراهن، حيث تتقدم الحرب من وراء الحدود، وتشهد الساحة السياسية والإعلامية سجالات حيال النأي اللبناني بالنفس. تتحدث عن النازحين وقضايا الإرهاب والعنف. يسرد شومان داخل روايته، روايةً تعود إلى فترة الحرب الأهليّة اللبنانية، لتكوّن تقاطعاتها مع رواية الزمن الراهن... رؤية الكاتب لواقع لبنان ولمشارب ثقافته السائدة. فالبلد محكوم بقانون الحرب، لا باعتبارها حدثاً سياسياً أو ثيمة أدبيّة في النص، وإنّما وفق هواجس نبتت جراء الحروب المتتالية وعلى هوامشها. هواجس لم تنته بانتهاء القتال، بل بدأت بانتهائهِ، ليظهر المجتمع قلقاً ومرتبكاً، يفتقد للاستقرار ويعيد خلق أزماتهِ، حيث الأبناء ورثة لهوية آبائهم.

يأخذ الخوف من المستقبل شكل نكوص إلى ماضٍ يأبى أن يغادر. اعتمد الكاتب أسلوباً خاصاً في كتابة الرواية عبر «تمزيق البنية القصصية وجعلها أشلاء» بسلسلة من الإقحامات أو «المشوشات» تبدو خارج سياق النص لكنها تنقل مزاجاً عاماً. الأسلوب جاء متوافقاً مع طبيعة المجتمع الذي يكتب عنهُ. إذ يورد أجزاء من مقالات صحافية أو مقابلات تلفزيونية وتحقيقات حيّة عن مواضيع شتى. يورد تلك الشذرات في متن السرد، على نحو بدا عبثياً. لكن البطء الذي كانت تسير به حكايات الشخوص في الرواية، بات مشوباً بتحفيز الوضع العام. لقد نجح الكاتب ــ وفق الأسلوب الذي اعتمده ــ في جعل قارئهِ رهيناً لنصٍ لا يتقدم. نص مُلغّز، ينقل قلقاً عارماً، وفي الوقت ذاتهِ، يروي حياةً شائكة على نحو شديد الطمأنينة.
تروي «كان غداً» حكاية خالد وطليقتهِ سهى، إذ تأخذ قصتهما حيز السرد الأكبر. يشكل دخول ريم وهي صديقة سهى إلى حياة خالد سبيلاً لإيضاح حياة الأخير، وفهم عاطفتهِ، وطريقته في الحب. في الوقت ذاتهِ، تراه ريم نوعاً من السلوى من أجل الخلاص التدريجي من مديرها الفرنسي ألبير. تبدأ الرواية بينما يجرّب خالد الاعتياد على الحياة بعد انفصالهِ عن سهى، يعيش أيامه مثل «لاجئ». يتعرف إلى ريم في كافيتيريا، وتتالى المواعيد بينهما، لكنهما لا يصلان إلى شكل أخير لعلاقتهما على امتداد الرواية. لقد بدا شومان مهتماً، باقتطاع جزء عفوي من حياة أبطالهِ، وبدت الرواية لديه عيّنة عن الحياة لا نقلاً مُدّعياً ومحبكاً أو تاماً لها.

بدا كأن لبنان يقترب من الانفجار من دون أن يبلغه
تتتالى زيارات ريم، إلى استديو خالد، ويزورها في منزل طليقتهِ، بعدما ائتمنتها على المنزل خلال سفرها. يمضي خالد أيامه في بيروت في زيارات إلى أماكن عمل لينا، وتلتقي سهى مع روجيه زوج لينا في لندن. يمثل هؤلاء الزوجان شكلين متقابلين للعلاقة الزوجية، وهي ناجحة لدى لينا وروجيه وإن كانت تتسم بنهايات باردة، وفاشلة لدى خالد وسهى وإن تتسم بنهايات صاخبةِ وغير اعتياديّة. بينما تجد سهى سبيلها للإنجاب خارج علاقتها مع خالد، يبقى هو محاصراً بأسئلتهِ عن موت الأجنة في رحم سهى. تفوته الحقيقة التي لم تقلها طليقته، بأنّ رحمها يقتل أطفاله فقط. بالتوازي مع رواية العلاقات المعقدة، يسرد ضرغام الصليبي، جار خالد في الاستديو، رواية حياتهِ، التي كان غياب جانيت الخوري عنها شرخاً رافقه من شبابهِ إلى نهايتهِ عجوزاً على كرسي متحرك، وهي الصورة التي تظهر والدته فيها، في تداعٍ للمصائر لا يتوقف عن التكرار.
تتلخص الحالات التي يذكرها الكاتب؛ في قصص موت مفاجئ، حوادث سير وخطف علني، انتشار للجريمة والعنف الجنسي، معاناة من القمامة والأمراض الغامضة، الاقتراب من مجتمع النازحين ومقاربة مشاكلهم في ضوء الحلول اللبنانية. التفجيرات، وموت القطط، الواقع الخدمي السيئ... بدا لبنان، يقترب من الانفجار من دون أن يصلهُ، وتمثل الإعلانات الطرقية للمبيدات الحشرية التي تظهر فيها الصراصير بأحجام عملاقة، قبل أن تنتشر صور ثلاث فنانات يشاركن في حملات وطنية، تلخيصاً هازئاً من الواقع، وسخرية سوداء ترافق مشادات الوزراء والمؤتمرات الصحافية للمسؤولين؛ ما يعقد منها وما يتم إلغاؤهُ. يبدو البلد كما لو أنّ لا أحد يفهم ما يحدث. تبدو حملة الفنانات الثلاث «ما تحلق لبلدك» دعوة تشي بأنّ الجميع على وشك الفرار من بلد لا معقول. الضجيج هو الخطاب الأمثل فيه، والفوضى هي نقطة النظام الأقوى.
إنّ رواية الحرب الأهليّة، في إحدى أشكالها، تأتي جواباً عن هوية الجثث الخمس في البئر، التي تُكتشف في الصفحة الأولى. وبالمثل، فإنّ «كان غداً» تأتي جواباً، لسؤالٍ ما! إذ إنّ هذا العرض الحساس والتفصيلي لأخبار مجتمع اليوم، ستصنع أحداثهُ في المستقبل. نستطيع الاقتباس من رواية شومان، الذي يطمح الوصول إلى نص يخلو من الاقتباس، مقولة الرواية الأثيرة في أنّ «الأمس هو اليوم والخوف أن يبقى الأمس هو المستقبل».