في جردة هي أقرب إلى إعلان انتصار ضمني في مجرى الصراع الدائر في سوريا بشكل خاص، أعلن رئيس غرفة العمليات في رئاسة الأركان الروسية، مطلع الأسبوع الحالي، أن المناطق الخاضعة لسيطرة السلطة الشرعية السورية قد تضاعفت أربع مرات منذ التدخل العسكري الروسي قبل عامين.
في هذين العامين استمر الدور الروسي العسكري يقظاً وناشطاً ومتفوقاً مع كل ما تطلبه ذلك من سياسات وعلاقات وقواعد عسكرية وأسلحة في البر والبحر والجو... حصل ذلك رغم أن القيادة الروسية كانت قد أطلقت وعوداً بأن تكون عمليتها العسكرية في سوريا محدودة ومحددة: من حيث الزمن والتكاليف وحجم الانخراط والتورط.
لقد أقرنت القيادة الروسية تدخّلها بجملة من المبادرات السياسية التي جمعت ما بين الحزم والمرونة. لقد تكامل العمل العسكري مع العمل السياسي بشكل يمكن وصفه بالخلَّاق. ففي الوقت نفسه كانت موسكو تحارب وتبحث عن حلول سياسية. وضعت تدخلها، بكل مجرياته، في خدمة أهداف بدت مقبولة، من وجهة نظر الشرعية الدولية، لجهة التوصل إلى حلول سياسية للأزمات، ومحاربة الإرهاب والتطرف، والتصدي للتدخلات الخارجية ولمنع هذه التدخلات من أن تكون العامل الحاسم في تحديد مصير الدول وأنظمتها وعلاقاتها وخرائطها واستقرارها...
لم يكن من السهل على روسيا أن تحقق أهدافها في سوريا والمنطقة والعالم، من خلال تدخل محدود ومحدَّد ببضعة أشهر. أغرى تدخلها العسكري خصوماً لدورها الحالي والمستقبلي، في المنطقة والعالم، بالعمل على استنزافها وخصوصاً من الناحية الاقتصادية. لكن التدخل الروسي المقترن بالمثابرة والمبادرة والإصرار، أفشل كل ذلك. كان الأمر على هذا النحو في ظل إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وهو مستمر كذلك، في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي بات على وشك إحباط الذين راهنوا على إدارته في تغيير توازنات الوضع في سوريا وفي المنطقة. وهم دفعوا، من أجل ذلك، رشوة هائلة تعامل معها ترامب على طريقة من «أكل الطعم وقضى حاجته على الصنَّارة»!
يتحرك الآن، الروس، بوصفهم أصحاب اليد الطولى في المشهد السوري. هم الذين يوزعون الأدوار والشرعية. وهم أيضاً الذين يتحكمون بالتوازنات وفق خريطة دقيقة لا تهمل مصالح وحسابات الآخرين، لكنها لا تستسلم لها، وذلك في خدمة هدفين متكاملين: أولهما توفير الشروط لهزيمة خصوم السلطة السورية. ثانيهما ترسيخ الدور الروسي في سوريا والمنطقة ومن ثم العالم، بوصفه دور قوة عظمى تستعيد أمجاد المرحلة السوفياتية، وتلغي «تفرد» الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم. كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أشار إلى ذلك، خصوصاً عام 2007 في ميونخ، وجدد التأكيد عليه مطلع هذا الشهر في لقاء عقده مع مديري وكالات عالمية في مدينة سان بطرسبورغ الروسية، حين قال إن «نزعات الغرب العدائية حيال موسكو (الروسوفوبيا) مرتبطة بسعي سلطاتها لإنشاء عالم متعدد الأقطاب... وهذا ما لم يقبله المحتكرون».
الواقع أن تراجع الدور الأميركي لا يتصل فقط بسياسة الانكفاء التي اعتمدها أوباما والتي حددتها «إخفاقات» التدخل العسكري في العراق وأفغانستان. هذا التراجع سابق، أيضاً، على اضطراب سياسات وعلاقات وسلوك ترامب الذي يبدو لاعباً عابراً وفي وقتٍ ضائع. التراجع الأميركي ذو صلة بجملة تحولات، اقتصادية بالدرجة الأولى، في العالم، لغير مصلحة الولايات المتحدة عبر منافسة نشيطة تقودها دول ناهضة في طليعتها روسيا (سياسياً وعسكرياً) والصين (اقتصادياً)... بحيث أن واشنطن تفقد زمام المبادرة، بشكل تدريجي، ما غذى نزعات الانكفاء التي جسدها، بشعبوية جامحة، المرشح دونالد ترامب عبر شعار «أميركا أولاً».
في سوريا يبدو الدور الأميركي عاجزاً وشبه مشلول سياسياً. حذَّر رئيس «قيادة العمليات الخاصة» في الجيش الأميركي الجنرال ريموند توماس من «أن روسيا تتجه لإخراج أميركا من سوريا. قد تكون لدينا الرغبة في البقاء من دون أن تكون لنا القدرة على ذلك»!
في هذا السياق من التحولات كان قرار ترامب بإلغاء برنامج تدريب المعارضة السورية، وكان العجز عن السيطرة على مثلث الحدود السورية ـ العراقية ـ الأردنية، وكان دعم أميركي لبرنامج «خفض التوتر»، الروسي أساساً، في لقاء الرئيسين الأميركي والروسي، على هامش قمة العشرين في ألمانيا.
في هذا السياق أصبح ممكناً مواصلة الهجوم الاستراتيجي من قبل السلطة السورية وحلفائها على امتداد الجغرافية السورية تقريباً: من «التنف» على الحدود السورية العراقية، إلى حلب وريفها على الحدود التركية، مروراً بتدمر وريف دمشق، وصولاً إلى... جرود عرسال.
معركة جرود عرسال هي، بالدرجة الأولى، ثمرة تصميم حزب الله على الانخراط في دعم سلطة الرئيس بشار الأسد حتى النهاية، وطالما كان ذلك ضرورياً وواجباً وفق حسابات حلفائه ومتطلبات معركتهم. وهي أيضاً ثمرة تحولات في الموقف الغربي (والأميركي خصوصاً) حيال الإرهاب وإفلاس سياسة استخدامه والرهان عليه والقدرة على التحكم به. وهي ثمرة المبادرات الروسية العسكرية والسياسية والاقتصادية حيال كل اللاعبين: من تركيا، إلى المعارضة السورية المسلحة وغير المسلحة، إلى العلاقات مع واشنطن، وطبعاً، بالأساس، عبر توطيد التعاون الروسي مع كلٍ من طهران ودمشق... وهي، أيضاً، ثمرة تدهور نفوذ وسمعة «المجاهدين» بسبب صراعاتهم وارتكاباتهم ووحشيتهم واستهدافهم للقيم والحضارة والأبرياء.
لا يقلل ذلك من نجاحات حزب الله وقدرته على حسم المعركة في أقل من أسبوع. كان ذلك ثمرة تخطيط وتصميم وكفاءة وتضحية ومراكمة خبرة ونجاحات ضد الإرهاب، تشمل الوضعين السوري واللبناني ولا تقتصر عليهما.
لم تكن معركة جرود عرسال شأناً بسيطاً في معادلات الصراع السياسي والعسكري في كل من سوريا ولبنان. إنهاء «جبهة النصرة» هو أخطر، في حسابات المراهنين على توظيف الإرهاب، من إنهاء «داعش»... ذلك أن «النصرة» حظيت بدعم إقليمي ودولي، معلن وضمني، في محاولة لتلميع صورتها والزعم أنها قوة «معتدلة» وقادرة على أن تكون جزءاً من الحلول العتيدة!
موسكو تراكم انتصاراتها. لا يعني ذلك انتهاء الصراع في سوريا وعليها، كما لا يعني زوال المخاطر على وحدة البلاد بشكل خاص. لكن موسكو تتصدر الصفوف في تسجيل نقاط وتحقيق نجاحات ثمينة. من هذا الموقع أعلن وزير خارجيتها، قبل أيام، استعداد موسكو للحوار مع واشنطن بشأن كل أزمات المنطقة والعالم: إنهاء «القاعدة» والإرهاب في سوريا مدخل لبناء قاعدة جديدة للعلاقات الدولية على حساب هيمنة وتفرد واشنطن!
* كاتب وسياسي لبناني