لعقود طويلة ناقش علماء الفضاء احتمال وجود كواكب لُفظَت من محيط نجمها الأم فتحوّلت إلى كواكب يتيمة. وبالفعل، يمكن أن يحصل ذلك نظرياً خلال المراحل الأولى لتشكُّل المجموعات الشمسية جراء تصادم كواكب تقع على مسارات دائريّة متداخلة أو نتيجة التأثيرات الجاذبيّة في ما بينها، خاصّة في المجموعات المكتظّة التي تصل في نهاية المطاف إلى مسارات محدّدة مستقرّة بعد التخلّص من كل المسارات المتناقضة.
لكنّ المتابعة العملانيّة لتلك الفكرة كانت من ضروب المستحيل، إذ إنّ الكواكب تعَدّ أجساماً صغيرة جداً على مقاييس الفضاء، سواء لناحية أحجامها أو أوزانها. كذلك فإنها أجرام مظلمة لا تصدر الضوء والإشعاعات كما تفعل النجوم، ما يجعل رصدها المباشر مستحيلاً فعليّاً.

كيف يحصل الرصد؟

لا شكّ في أنّ تطوّر تقنيات الرصد الحديث خلال السنوات الأخيرة أتاح للعلماء إمكانية الرصد غير المباشر لهذه الكواكب، وتحديداً خلال مرورها العرضي أمام أحد النجوم البعيدة التي تراقبها التيليسكوبات. فعند مرورها تحصل تغيرات ملموسة في أشعّة النجم المرصود لفترة زمنية محددة، إذ يحصل ازدياد محدود في الضوء المرصود، حيث تؤدي جاذبية الكوكب إلى ظاهرة معروفة تشبه تأثير العدسات أو المكبرات التي تركّز الضوء على بقعة محدّدة. ومن خلال الوقت الذي تستلزمه للمرور والتغيّر الذي يحصل في الأشعّة المرصودة، يمكن العلماء أن يثبتوا وجود هذا الكوكب العابر، ويمكنهم أيضاً تحديد وزنه بشكل تقريبي، لأن نسبة تغيّر ضوء النجم المرصود تعتمد مباشرةً على وزن الجرم السماوي الذي يمرّ بينه وبين عدسات الرصد. على سبيل المثال، يؤدي مرور كوكب بوزن المشتري، أكبر كواكب المجموعة الشمسيّة إلى حدوث تغيّر في الضوء المرصود على مدى بضعة أيّام، فيما يؤدي كوكب بوزن الأرض إلى حدوث ذلك على مدى بضع ساعات. إلّا أن تلك الحسابات الرقميّة ليست سهلة ومباشرة، بل تتطلّب الكثير من الفرضيات والمعطيات الإضافية والمعادلات المعقّدة للوصول إلى تحديد الخصائص الأساسية لتلك الكواكب من تغيّرات أشعّة النجوم الخلفيّة. بناءً عليه، تقوم اليوم عشرات التيليسكوبات حول العالم برصد مستمر لملايين النجوم لرصد هذه الأجرام، وتحديداً في مجرّتنا الأم «درب التبّانة».

النتائج الأخيرة

تشير الدراسات التي أجراها فريق علمي من جامعة وارسو في بولندا ونشرت في مجلة «Nature» أخيراً، والتي استندت إلى أرصاد تيليسكوب عملاق في جبال دولة «تشيلي» في أميركا اللاتينية، وشملت مراقبة 50 مليون نجمة تخلّلتها 2600 حالة مرور لكواكب أمامها على مدى 6 أعوام، إلى أنّ عدد الكواكب التائهة الكبيرة يبلغ نحو ربع عدد النجوم الموجودة في المجرّة.

يبلغ عدد الكواكب التائهة
الكبيرة نحو ربع عدد النجوم الموجودة في المجرّة


تتوافق هذه النتائج مع النماذج النظريّة المعتمدة حول تشكّل المجموعات الشمسيّة حول النجوم، وتدحض نظريّات أخرى كانت تتوقّع وجود نحو ثمانية إلى عشرة أضعاف هذه النسبة من الكواكب التائهة. النتائج السابقة التي كانت تشير إلى أرقام أكبر بكثير كان قد أجراها مرصد كبير في نيوزيلندا، لكنّ أرصاده تعارضت مع النماذج العلميّة المقبولة. أتت الأرصاد الجديدة الأوسع والأدق لتؤكد النظريّات السائدة في علوم الكواكب والمجموعات الشمسيّة. ويمكن أن يكون سبب التباين في الأرقام التي رُصدَت في نيوزيلندا عام 2011 أنّها لم تأخذ بالاعتبار احتمال مرور نجوم قديمة منطفئة أو كواكب منتظمة في مساراتها أمام نجومها، لا كواكب تائهة فقط. كذلك يمكن أن يكون السبب بعض المعطيات الإحصائيّة الخاطئة، وتطوّر تقنيات الرصد ودقته خلال الأعوام الأخيرة القليلة. كذلك إنّ رصد منطقة واحدة من السماء في كل اختبار قد يحمل معه معطيات مختلفة، إذ يجب أن تشمل الدراسة تغطية مناطق متنوّعة من السماء كي يصبح تعميم الحالة الإحصائيّة ممكناً على سائر مكونات الفضاء. أما الكواكب الصغيرة التائهة، التي يقارب وزنها وزن الأرض، فرصدها أصعب وأدق وترافقها نسبة مرتفعة من الشكّ العلمي بصحة الرصد، إذ لا يدوم تأثيرها بأشعة النجم خلفها سوى بضع ساعات، لذلك رصدت الدراسة أعداداً قليلة منها، ما يؤكّد وجودها، لكن دون القدرة على تأكيد أعدادها وخصائصها المختلفة.

أبحاث مستقبليّة

فيما تستمر الأرصاد في مرصدي تشيلي ونيوزيلندا لإزالة الفوارق الممكنة بين المشاهدات المختلفة، يقوم مرصد ثالث في كوريا بإعادة هذه الأرصاد والتجارب بهدف الخروج بخلاصة نهائيّة عن أعداد ونسب وخصائص الكواكب التائهة التي لفظتها مجموعاتها الشمسيّة خلال مرحلة أوليّة من تطورّها. كذلك تنوي وكالة الناسا إطلاق مرصدها الخاص خلال السنوات العشر المقبلة بهدف إجراء دراسة واسعة تشمل الكواكب التائهة وتقنيات المراقبة والرصد خلال مرور الأجرام السماوية أمام النجوم الخلفيّة، ما سيساعد في حسم هذا الجدل العلمي القائم اليوم. وستساعد تلك المراصد أيضاً في مراقبة الكواكب التابعة لمجموعات شمسية معيّنة، التي تتمتّع بخصائص مناخية يعتقد أنّها صالحة لنشوء الحياة العضوية وتطوّرها، مثل تلك المجموعة الشمسيّة التي تشبه كوكب الأرض ورُصدَت خلال الأشهر الماضية إذ إن معرفة مكوّنات الأغلفة الجويّة لهذه الكواكب تعتبر أساسيّة ومحوريّة لتحديد الظروف المناخية والكيميائيّة السائدة لتحديد صلاحيّتها لأشكال الحياة العضوية. وليس مستبعداً أيضاً، وإن كانت الاحتمالات ضئيلة جدّاً، أن يجد العلماء ظروفاً مناخيّة ملائمة على بعض الكواكب التائهة نفسها، خاصّة إذا كانت تتمتّع بنشاط إشعاعي أو جيولوجي داخلي يوفّر لها طاقة كافية لتعويض الحرارة المفقودة نتيجة بعدها عن نجومها، وذلك مرهون بتطوّر تقنيات الرصد الأدقّ.
وعلى الرغم من أعدادها الكبيرة، ليس ثمة أي خوف من تداخل مسارات الكواكب التائهة مع مجموعتنا الشمسية على سبيل المثال، مع ما يعنيه ذلك من خطر محدق بالأرض، إذ إن مساحة الكون الشاسعة جدّاً تجعل من احتمال هذا التداخل صفراً تقريباً.