تُعَدّ بداية شهر آب بداية شهر حرائق الأحراج في لبنان، بعد أن يكون شهر تموز الحارّ قد أسهم بيباس أعشاب الشتاء والربيع وجعلها طعاماً للنار. وبالرغم من أن أكثر الحرائق كانت تحصل في أشهر تشرين، بعد أن تكون عمليات اليباس والجفاف قد وصلت إلى الذروة، حاول البعض وضع خرائط للأماكن الحساسة التي تُفترَض مراقبتها في فصل الحرائق الذي يبدأ في شهر آب، حسب الإحصاءات المتوافرة.
عام 2005 وضع المركز الوطني للاستشعار عن بعد، ما سمّاه «خريطة مخاطر الحرائق» لتوقع المناطق الحرجية المعرّضة، ووُضعَت «الاستراتيجية الوطنية لإدارة حرائق الغابات»، بعد الحرائق الكبيرة التي حصلت عامي 2007 و2008، التي أقرها مجلس الوزراء عام 2009. كذلك انطلقت حملة في الفترة نفسها تقريباً أطلق عليها آنذاك اسم «forever green»، أي «أخضر للأبد»، للتبرع بالمال وشراء طوافات، وقد جُمع 15 مليون دولار أميركي واشتُريَت 3 طوافات «سيكورسكي»، لم تكن فعّالة، لأسباب كثيرة لن ندخل فيها الآن. كذلك حُصِل على ما يقارب خمسة ملايين دولار من مشاريع وبرامج أخرى للهدف نفسه، أو لما يسمى «الإدارة المتكاملة لحرائق الغابات في لبنان»، ومنها تطويع الدفاع المدني وتدريبه وتجهيزه. كذلك وُقِّعَت مذكرات تفاهم بين جمعيات ووزارة البيئة، ونشط كثيرون في هدف الحماية… إلا أن كل ذلك لم يحل دون تراجع ألسنة النيران، بعد تجاهل كل النصائح والآراء المعارضة لهذا المسار في المعالجة. ولا يزال البعض يذكر تلك النكتة أثناء عرض وزير الداخلية آنذاك الياس المر، ومدير الدفاع المدني درويش حبيقة، في ندوة عن مكافحة حرائق الغابات في مجلس النواب، لإنجازات تلك السنة التي قلّت فيها الحرائق، حين قال أحدهم تعليقاً على العرض الفضفاض من «الإنجازات» والأعمال: «قلّت الحرائق من قلة الغابات، وليس من زيادة الإنجازات»، أي لم يعد هناك الكثير ليحترق!
بداية الانتقادات كانت تتناول مبادئ استراتيجية المعالجة. فالاستراتيجية، كما كتبنا مراراً، كان يفترض أن تكون أشمل ولا تقتصر على الحرائق التي لا تهدد وحدها الأحراج في لبنان. فالتمدد العمراني والبناء وشق الطرقات، يُعَدّ المهدِّد الأول ربما، وتغيير استخدامات الأراضي والمقالع والكسارات والمرامل والرعي (والقطع) غير المنظم… كلها من الأسباب الرئيسية لتهديد الأحراج والموائل الطبيعية للكثير من الأنواع التي نعرفها والتي لا نعرفها. وبالرغم من أن بعض الدراسات تشير إلى أن الحرائق كانت السبب في الأول في تناقص أحراج الصنوبر على الخصوص، تشير دراسات أخرى إلى أن المرامل وبعض الحشرات والصيد الذي سبّب انقراض بعض أنواع الطيور التي كانت تقتات على الحشرات، هي أيضاً مُسبِّبة لتراجع المساحات الخضراء عامة في لبنان إلى الحدود المهددة لشروط الحياة.
كذلك، إن استراتيجية إدارة حرائق الغابات لم تدرس كفاية أهمية وضع المبادئ الرئيسية واحترامها وربطها بالأهداف والبرامج والتطبيق، ولا سيما مبدأ الوقاية الذي يفترض أن يمنح الأولوية على أي مبدأ آخر، وقد اقترحنا منذ بداية التسعينيات المبدأ الآتي كأولوية لمكافحة حرائق الأحراج، ويقول: «الحريق إذا عرف في بدايته، سهل إطفاؤه»، انطلاقاً من التجارب التي دلّت على أنه كلما أسرعنا في السيطرة على الحرائق في بدايتها، وفّرنا أساطيل من سيارات الإطفاء والطوافات (في أول 30-40 دقيقة يحتاج الحريق إلى تدخل يدوي سريع، وبعد أكثر من خمسين دقيقة قد لا تكفي عشرات الطائرات). وهذا ما كان يفترض أن يترجم في إنشاء أبراج مراقبة بسيطة وتوظيف طلاب وشباب القرى في فصل الصيف للمراقبة والتدخل السريع. فالعشرون مليون دولار (وغيرها الكثير التي صرفت بحجة معالجة حرائق الأحراج) أُهدرت على شراء طائرات وسيارات إطفاء ودفاع مدني (مخصص لحرائق المدن لا الأحراج!)، واستفادت منها شركات وسماسرة...، كان يمكن أن توفِّر مداخيل لشباب القرى لسنوات طوال في كل المناطق الحساسة، وتفرغ العديد منهم وتدعم الاقتصاد الريفي المتروك.
بالإضافة إلى ذلك، لقد جرى تجاهل كل هذه المبادئ والأفكار التي طُرحَت في حينها، لمصلحة الحلول الاستعراضية والانتخابية والتنفيعية... ولمصلحة أفكار السماسرة. وهي لا تزال صالحة لمن ياتي ويحملها ويعيد صياغة وترتيب المبادئ والإجراءات التي يمكن أن تُسهم في حماية ما بقي من أحراج، مع التشدد في تطبيق القوانين على مسبِّبي الحرائق المفتعلة، مع تنظيم قطاع المقالع والكسارات والمرامل وإعادة النظر بالكثير من المشاريع الاستثمارية المصنفة «سياحية» التي باتت تغزو ما بقي من مناطق خضراء، والتي لم يكن آخرها مشروع بيت مري.

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]