يتفق خبراء اقتصاديّون من تيارات متناقضة على وجود أزمة حقيقيّة تتهدّد النموذج الاقتصادي اللبناني، كما يتفقون على غياب دور «الدولة» كمؤسّسة مسؤولة عن وضع السياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الضروريّة للحدّ من الظواهر الناتجة من هذه الأزمة التي وصفوها بالهدّامة.
هذا الوضع الخطير الذي يهدّد بانهيار النقد وماليّة الدولة، يستوجب بحسب هؤلاء، وضع أطر إنقاذيّة، ولو أنهم يختلفون في تصوّرها، سواء لناحية التركيز على سلّة إصلاحات إدارية وماليّة وتحفيزيّة للاستثمار أو القطاع الخاصّ، أو العمل على تصويب الخلل الكامن في بنية الاقتصاد اللبناني ومنع الانهيار المالي. هذه خلاصة جلسة الحوار التي نظّمها «المجلس الاقتصادي الاجتماعي»، بحضور ممثلين عن المنظّمات الاقتصاديّة والنقابات العماليّة والمجتمع المدني وخبراء اقتصاديين، بعنوان «أزمة الاقتصاد اللبناني والإصلاحات العاجلة».

الخطر الداهم

برأي الاقتصادي توفيق كسبار: «هناك خطر مالي داهم سيترافق مع انهيار نقدي، إضافة إلى وجود خلل بنيوي في الاقتصاد اللبناني سيحول دون نمو الاقتصاد بطريقة مستدامة». يرتكز كسبار في ذلك إلى «إنتاجية العامل التي تراجعت في شكل كبير من 100% في عام 1974 إلى 60% في عام 2016"، للإشارة إلى ضعف إنتاجية الاقتصاد، التي "تحول دون تحقيق نمو مستدام». ويعيد كسبار الأسباب إلى:
1- البنية التحتيّة الضعيفة والمتهالكة، وخصوصاً أن 8% فقط من إنفاق الدولة بين عامَي 1993 و2016، خُصّص للنفقات الاستثمارية، بما يدحض الفكرة الشائعة عن أن إعادة الإعمار هي وراء حجم الدين العام المتفاقم.
2- البنية التحتية البشريّة الضعيفة نتيجة انحدار مستوى التعليم بدرجات كبيرة.

سياسات الحكومات المتعاقبة لم تعط نتيحة، والوضع الاقتصادي يتدهور

3- خروج الطاقات البشريّة ودخول اللاطاقات منذ عام 1975.
4- تخلّف المؤسّسات السياسية والإدارة العامّة، ما حال دون إقرار سياسات إصلاحيّة لتطوير البلد السائر نحو الحائط.
يقترح كسبار مشروعين لإرساء قاعدة تدفع بالإنتاجيّة الاقتصاديّة إلى مستويات مختلفة تكمن في «التحسين النوعي للتعليم الرسمي، باعتباره مشروعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً يعطي المواطنين فرصاً متكافئة مع الآخرين، ويحسّن بنية الاقتصاد. إضافة إلى إنشاء شبكة مواصلات ونقل عام متطورة تربط الشمال بالجنوب بخط سكّة حديد سريع، وتربط الساحل بالجبل، ما يؤدي حكماً إلى توزّع السكان خارج بيروت ومحيطها، وارتفاع سعر الأراضي، وزيادة الاستثمارات، بما ينعكس على نمو الأرياف وتعزيز التواصل الاجتماعي والسياسي».
أمّا الخطر الأكبر، بحسب كسبار، فهو الذي يتهدّد بانهيار ماليّة الدولة والنقد «نتيجة العجز في ميزان المدفوعات الذي ارتفع من 3 مليارات دولار في عام 2014 إلى 5 مليارات في عام 2016، وبالتساوي مع ارتفاع الدين العام من 139% إلى 154%، فيما الإنفاق العامّ يذهب إلى النفقات الجارية. ويضاف إلى ذلك الخطر الأكبر الذي شكّلته الهندسات الماليّة الأخيرة لمصرف لبنان بكلفة نحو 10% من الناتج المحلي دون أي مقابل، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي، فيما لم يجرؤ أحد على نقدها، فضلاً عن ربط القاعدة المصرفيّة عضوياً بالدولة، نتيجة سياسة الفوائد السخية، بحيث أصبح 60% من أصولها للقطاع العام». ويتابع كسبار أن «الحلّ بسيط، يستوجب توفّر إرادة سياسيّة لوضع سقف انحداري للعجز في الموازنة، والالتزام به، بما يعيد الثقة للاقتصاد، ويبعد الانهيار المالي والنقد سنوات عدة، والذي يعدّ الخطر الداهم الواجب إطفاؤه قبل معالجة المشاكل البنيويّة».

وصفات للعلاج

يرى الاقتصادي سمير نصر أن «معظم السياسات التراكميّة للحكومات المتعاقبة لم تعط نتيحة، والوضع الاقتصادي يتدهور بسرعة»، يستند بذلك إلى كون «معظم المؤشرات الاقتصاديّة تميل إلى السوداويّة، وخصوصاً ميزان المدفوعات، وعجز الموازنة، وتدني النمو، وارتفاع مستوى الفقر (يطال ثلث اللبنانيين)، والهجرة (تطال 35% من الكفاءات)». يقترح نصر «وصفات علاج للخروج من الأزمة، والاقتناع ببناء اقتصاد»، ويعتبر أن «عدم انهيار الليرة ليس مؤشراً لعدم وجود المشكلات، والدليل نسبة البطالة والهجرة وانخفاض القدرة الشرائيّة والهدر واهتراء البنى التحتيّة وغيرها...».
تكمن الحلول بسلسلة مبادئ إصلاحيّة اقتصاديّة، بحسب نصر، تتمثّل بـ:
1- وضع سقف عام للعجز في الموازنة والالتزام به، وخصوصاً في المؤسسات العامّة مثل كهرباء لبنان.
2- إصلاح الإدارة وإعادة ترتيب موظّفي القطاع العام، وخصوصاً أن الأجور تحتل ثلث الموازنة، عبر وضع سقف للموظفين، ونقل الفائص في بعض الإدارات إلى إدارات أخرى تعاني نقصاً، وإلغاء العقود غير الضروريّة.
3- اتخاذ مجموعة من التدابير التحفيزيّة لجذب الاستثمارات والتدفقات الماليّة، أبرزها خفض الضرائب وتسهيل الإجراءات الإداريّة.
4- اتباع سياسة تحفز عمليّة جلب الأموال من المغتربين عبر إلغاء الضرائب على فوائد إيداعاتهم في حال توظيفها في مشاريع استثماريّة تخلق فرص عمل وتروي الاقتصاد.
يقترح نصر أن يترافق ذلك مع ورشتين أساسيتين هما «إحقاق الأمان الاجتماعي عبر إقرار قانونَي التغطية الصحيّة الشاملة وضمان الشيخوخة، وبالتوازي مع إطلاق عجلة المشاريع الإنشائيّة والاستفادة من أموال دعم اللاجئين لرفع مستوى البنى التحتيّة، وإطلاق إصلاحات تطال البيئة والزراعة والتربية والعمالة التكنولوجيّة، وإقرار اللامركزيّة».

رؤية الدولة القاصرة

يتعرّض الاقتصاد اللبناني لتحديات خارجيّة تفرض عليه العمل لزيادة قدرته التنافسيّة في الأسواق، كما تفرض عليه إصلاحاً يبدأ بوضع رؤية مستقبليّة واضحة تقوم على محاور استراتيجيّة تتناول المعوقات الهيكليّة وتطرح حلولاً وإصلاحات لمعالجتها. هذا ما عبّر عنه وزير الاقتصاد رائد خوري، الذي يشير تحديداً إلى «العمل على خطّة إصلاح اقتصادي للاستجابة لمتطلبات التنمية المستدامة تقوم على خلق مناخ محفّز للاستثمار وتوفير الفرص المتكافئة للجميع، وتحفيز مبادرات القطاع الخاص، والحفاظ على الشباب، والحدّ من العجز في الميزان التجاري عبر تعزيز الصادرات ومنع الاحتكار». ومن هنا، يستند رئيس «المجلس الاقتصادي الاجتماعي» روجيه نسناس إلى دور المجلس الذي يتمحور حول تنظيم مشاركة المجتمع المدنيّ في إعداد سياسة الدولة اقتصادياً واجتماعياً، وتنمية التعاون بين مختلف الهيئات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمهنيّة، لبلورة مجموعة من الملاحظات والاستنتاجات حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتقديمها كمسودة عمل للحكومة اللبنانيّة، ولمشاركتها في وضع السياسات المتعلّقة بها، بما يتماشى، بحسب نسناس، مع «الورشة التي أطلقها رئيس الجمهوريّة لتفعيل الاقتصاد وإرساء الأمان الاجتماعي وإشراك المجتمع المدني بالخطط، لتحقيق النهوض الاقتصادي المأمول».