... وإذن أيّة ثقافة، في ليالي مشغره الثقافيّة، وأيّ وعدٍ تحمِلُه القريةُ لهوائها والهوى للقرية الراغبة في القيامة.إنّه التحدّي الذي لا يقبلُ الارتجالَ ولا الاسترجال، وجَنينُ حبٍّ، على المحبّين رعايتُه وحمايته بفجر من وعي.

فمفهومُ الثقافةِ أمامَ هجمةِ تنّينٍ متعدّدِ الرؤوس:
رأس استبداديّ مُطْلَقيّ يعتبر الثقافة حصريّة ويمعن في الانعزال وعقائد التفوّق والانغلاق، ضائع ما بين التجمّد والتمجيد.
ورأس ما بعد حداثويّ يعتبر كلّ زفرة أو عصرة أو حالة نفسيّة مأزومة رايةً ثقافيّة خفّاقة في زمن التواصل الاجتماعيّ القادر على نقل اللحظة إلى الملايين، والقادر أيضاً على محو تاريخ من الحضارات من ذاكرة أهلها بسَيل البوستات الأسرع من الثواني والسيلفيز الأكثر من الوجوه.
ورأس استعماريّ يعتبر الثقافةَ كلَّ ما ترميه شركات الدول الطاغية في السياسة والعسكر والاقتصاد من أغانٍ وموسيقى وأزياء وموضة وألعاب، وكلّ ما خفّ واستخفّ.
ورأس همجيّ، يستلّ هدّاماته ويمعن تحطيماً أو منعاً أو طغياناً، هنا على الآثار والنحت، وهنا على الأغنية والموسيقى، وهنا على الرقص والحركة المنظّمة والمعبّرة، جاهلاً أنّ ما يميّز الإنسان ثقافيّاً عن المستويات الأدنى ممّا طوّرته الطبيعة هو الفنّ. أن تكون إنساناً يعني أن تختزن بيولوجيّاً أوّلاً واجتماعيّاً ثانياً إمكانيّة تطوير وسائط التعبير عن الكون والحياة والفكر والشعور. الفنّ ميزة إنسانيّة، والذين يحاربون الفنّ، إنّما يسعون جهلاً أو معرفة، للعودة إلى ما قبل الإنسان.
وأمّا الرأس الأكثر خطورة على الثقافة، فهو ذاك الرأس المتلقّي المشدوه الجاهل، فاقد الثقة، منتظر الفرج، مستسهل التعبئة.

■ ■ ■


لا تُقاس الحضارات والأمم والدول والمدن والقرى إلّا بما فيها من فلسفة وعلم وفنّ وما أنتجته منها في ماضيها، والأهمّ ما تنتجه هي منها فعلاً مضارعاً نابضاً وخلّاقاً.
لا، لا أحمّل مشغره القريةَ فوق طاقتها، ولا أُدخِلها في معارك عالميّة ليس لها فيها رأيٌ أو مقال! أن تتراجع اليوم مشغره عن دورها في صياغة عالم أجمل هو الاستثناء المُملّ، أمّا أن ترفعَ رايةَ فعّاليّتها فهو الانسجام مع ذاتها وهويّتها ومعنى وجودها. فمسيرة هذه القرية - البلدة عبر مئات السنين هي في صميم الإنتاج الثقافيّ - الفنّيّ والثقافيّ - السياسيّ والثقافيّ - الاقتصاديّ، والشاهد أمواجٌ من فنّانين وأدباء وشعراء ومناضلين سياسيّين وعمّال مصانع وفلّاحين ومستثمرين واختصاصيّين وشهداء رجالاً ونساء.
غير أن ليس لأيّة قرية الحقّ بالافتخار بالأفراد وادّعائهم ما لم تكن هي البيئة الاجتماعيّة النفسيّة الجغرافيّة لتكوينهم وثمّ احتضانهم وإطلاق المدى. ليس رقمُ سجلّ النفوس دليل هويّة، بل إنّ الفضاء المنفتح والساحات المرحّبة والأندية العاملة والاجتماع الرحب والأفكار المتجادلة، على تناقضها، كلّها السجلّ الحقيقيّ للانتماء!
ليس لأيّ قرية أن تكون قرية طاردة ثمّ تستكثر الهجران! ليس لها أن تكون قرية مقفلة وتستهجن الغياب! وليس لها أن تستكين في النمط، ثمّ تستغرب السكون!
وبعد، فإنّ قيمة الشهداء الحقيقيّة هي في ما يقيمه الأحياء من ثقافة وإلاّ فهدراً تنسحب الدماء.
وما قلته عن القرية أقوله عن الوطن. فهذه هي المعادلة: إمّا أن ننتج نحن ثقافة نرفد بها ما تضجّ الأرض به من ألوان أو سينتج غيرُنا لنستهلكَ! يُنتِج غيرُنا الفكر فلسفةً فنستهلكُه بعد حين عقائد صنميّة موبوءة بالمُبهم والطلاسم والأوهام، وينتج الآخرون العلم عقليّة نقديّة حركيّة وطرق تفكير منطقيّة فنستهلكه مجرّد تكنولوجيا وأدواتٍ، وينتجون الفنّ إبداعاً وتجديداً فنستهلكه تقليداً غريباً! هذه هي المعادلة، والشعوب المنتجة عادة ما تكتب نجاتَها في صراع الحياة وحضورَها من خلال العمل والجهد والتجربة والخلق والربط والتغيير، وكثيراً ما تكتب الشعوب المكتفية بالاستهلاك هلاكَها!

■ ■ ■


ثلاث كلمات من ذهب...
«ليالي» ما إن تهبطَ حتى تفرّ الأحلامُ طليقةً من تنفّس الأطفال النيام إلى آفاق العشّاق. و«مشغره» الماء والخير والشواغير الجذلى بدفق لا يتعب، وناسها الذين قاوموا المحتلّ العثمانيّ والفرنسيّ واليهوديّ الصهيونيّ كما وظلم النظام اللبنانيّ الإقطاعيّ الطائفيّ الزبائنيّ، وأدراجها المنسدلة بين أسطح التلاقي والمرتفعة من وهج الجباه.
و«الثقافيّة» الكلمة الساحرة كلّما البدء كلمة.
تستحقّ مشغره ليالي ثقافيّة، بل تستحقّ على الأقلّ مهرجاناً ثقافيّاً سنويّاً يضخّ الحركة من جنوب البقاع في اتّجاهات الشمس، ويستقبل نداءَ الفيروز للقمر الشريد. مهرجان ثقافيّ سنويّ يمتدّ لأيّام ثلاثة على الأقلّ، فيه الفنّي، حيث يعيد بوصلة المهرجانات إلى اتّجاه أكثر إنسانيّة، فلا نكتفي بالمُسلّي والمنتشر، بل ننشر ما نجده جميلاً وخيّراً؛ وفيه الشعريّ والفكريّ والحواريّ في مواضيع كالوجود والعلم والدين والفلسفة والمقاومة؛ وفيه ما يبتدعه أطفالنا في المدارس والبيوت وشبابنا وشاباتنا من وهج وضوء. ومهرجان ثقافيّ على انبساط السنة لا يتجاهل، بل يُناظِر، فكلّ مدارس علم النفس الفرديّة والجَمعيّة على اختلافها تتّفق أنّ التجاهل ليس دواء، والنكران لا يشفي، وأنّ الوقت لا يمحو الجراح. وحده الحبّ الصريح الواضح يخترق الصمت ويرفع القرية راية من صفاء.
ومَن أنقى من زكي يجمعنا في جنينته وأسرار نغماته، هو الذي روى أنّه سمع من سعاده نصيحة في منزل اسكندر ونزهة نصرالله في الحدث في عام 1949 وعلى الشرفة المطلّة على سهل الزيتون الممتدّ بين اليد والبحر، أنْ يا زكي بلادُنا بحاجة إلى الفرح! فغنِّ الفرح. فكان أن غنّاه بكلّ أشكاله، حبّاً وعزّاً وشوقاً وأملاً وغزلاً وأرضاً ونصراً.
تستحقّ مشغره ليالي ثقافيّة تبرهن أنّ ما يتداوله السياسيّون والمحطّات التلفزيونيّة والألسن الببّغائيّة غير صحيح: ليس كلّ حيّ قرية أو زاروب مدينة ثقافة منفصلة في تراتبيّة طائفيّة ودينيّة، أو هرميّة حزبيّة وعائليّة، بل إنّ ثقافتنا كلّ أفقيّ اجتماعيّ متفاعل منفتح على عالم يسعى.
تستحقّ مشغره هذا الجمع الطيّب، وهذه الفكرة البنّاءة. عسى قريتنا توأم والألق! عسى مشغره دائماً تختزن شمساً على تواضع سفح.
(من افتتاح ليالي مشغره الثقافيّة في حديقة زكي ناصيف)