من حقنا كلبنانيين، وهو واجبنا أيضاً، كمواطنين ننتمي إلى وطننا ونتبع كلنا للدولة التي تجمعنا، أو يُفترض أنها تجمعنا، أن تكون لدينا خياراتنا الوطنية المستقلة في السياسة الخارجية وفي الدبلوماسية، وأن تعبر هذه الخيارات عن اتجاهات الإرادة السياسية الوطنية، وتصب في خدمة المصلحة الوطنية العليا.
هكذا يجب أن ندرك، جميعنا، معنى السياسة الخارجية كاستراتيجية وكجزء من السياسة العامة للدولة اللبنانية أو لنقل الحكومة اللبنانية والدبلوماسية، كأداة تنفيذية لهذه السياسة الخارجية المرسومة أو المُفترضة، والمقصد منهما.
في لبنان هناك ثقافتان وحضارتان وسياستان ومعسكران.. وربما أكثر! هذه هي الحقيقة؛ وهي تحيلنا على ظاهرة الانفصام في الشخصية الوطنية، وبالتالي حالة التصدع في الوعي السياسي، كما واقع الترهل في الذاكرة الجماعية. هذا ما يفسر ضعف الشعور الوطني بوجود القواسم المشتركة، وتراجع العمل المشترك في مواجهة التحديات المشتركة والتهديدات الخارجية. هذا الازدواج، وربما التعدد، في الاتجاهات السياسية يحيلنا على مسألة الارتباطات الخارجية بالقوى الدولية والعربية والإقليمية لمجمل الأطراف أو المجموعات السياسية؛ وهو الأمر الذي يفسح المجال أمام التدخلات الخارجية من قبل العديد من الدول العربية والإقليمية والقوى الدولية في الشؤون الداخلية، وكل ذلك على حساب مبدأ السيادة الوطنية وقاعدة المصلحة الوطنية العليا.
إلا أن مقاربة السياسة الخارجية والقضايا التي تتناولها، يجب أن تكون مختلفة. الأمر هنا لا يحتمل المزايدات والمناكفات والسجالات العقيمة، بل إن المسألة تقتضي من الجميع وقفة وطنية، تكون صادقة وشجاعة، وعلى أساس الحس أو الشعور بالمسؤولية الوطنية التي لا تحتمل النقاش والتأويل والتحوير. لقد كانت فرنسا، على الرغم من كل الصعوبات التي تواجهها في العقود الأخيرة، لناحية تراجع دورها وحتى انحسار نفوذها، وبالتالي تغير طبيعة دورها وحضورها على الساحتين العالمية والأوروبية، سباقة في إعادة تكييف سياستها الخارجية ودبلوماسيتها مع هذه الظروف والأحوال والأوضاع المستجدة، الداخلية والخارجية، والسياسية وغير السياسية، حتى أنها أطلقت أفكاراً ومبادرات، وابتدعت نظريات وطروحات، بقصد المحافظة على مكانتها وصورتها، وتأمين مصالحها، وإن اقتضى ذلك إعادة صوغ وتحديد سياستها الخارجية، ورسم دبلوماسيتها الجديدة على هذا الأساس. فكانت من بين الدول أو «القوى المتوسطة»، وهي من المفاهيم الحديثة في العلوم السياسية، ولا سيما في السياسة الدولية المعاصرة، كما «القوى الناشئة» أو «الصاعدة»، التي نادت بالدبلوماسية الاقتصادية، وكذلك الدبلوماسية الإنسانية، أو دبلوماسية التدخل الإنساني، من أجل تشجيع وتحفيز نموذج وتجربة الديمقراطية، أو لنقل التحول أو التطور الديمقراطيين، وحماية حقوق الإنسان وحرياته العامة والأساسية ومنع انتهاكهما، بحيث يضمن ويكفل لها هذا المنهاج الجديد في السياسة الخارجية دوراً ما ووظيفة ما في إطار السياسة الدولية والجيوپوليتيك. وقد نجحت في ذلك، وانتصرت إرادة الحياة الفرنسية، بالرغم من كل العراقيل والمحاذير، في مقابل سيرورة التراجع والانحطاط، وربما التقهقر والاضمحلال، على طريقة أو شاكلة «طبائع العمران» لابن خلدون. فما الذي يمكن قوله بالنسبة إلى السياسة الخارجية اللبنانية؟ وكذلك، ما الذي يمكن فعله على هذا الصعيد؟ من المفيد محاولة الإجابة عن هذا التساؤل، أو أقله محاولة البحث عن الجواب على هذا السؤال. فنحن أيضاً في لبنان لدينا ما يمكن أن نقدمه للعالم، أو لنبدأ بطرحه على طاولة النقاش والبحث السياسيين والفكريين بين الناس، وفي الصالونات السياسية، وفي أوساط النخب المثقفة، وفي الكواليس أو الأقنية الدبلوماسية. فكثيرة هي المصطلحات والمفاهيم والنظريات التي أُطلقت من هنا وهناك، من مثل الحرب الناعمة، والحرب بالواسطة، أو الجيل الرابع من الحروب، والسياسة الخارجية أو الدبلوماسية التدخلية، وغيرها... فلما لا يكون لبنان، بمعنى السلطة السياسية ومن خلفها أو تحتها الخارجية اللبنانية، البلد الأول، وربما الوحيد، الذي يبادر إلى طرح وتجسيد نظرية الدبلوماسية المقاومة في العلاقات الدولية المعاصرة وفي القانون الدولي المعاصر؟ هذا السؤال يفرض نفسه على الجميع، من سياسيين ودبلوماسيين وخبراء عسكريين وباحثين أكاديميين ومثقفين ومواطنين، وذلك استناداً إلى حقنا، كما كل الشعوب والأمم، في مقاومة الاحتلال أو العدوان، أو أي شكل من أشكال التهديد الخارجي، وهو ما نص عليه وأشار إليه كل من ميثاق منظمة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وغيرهما من مصادر القانون الدولي ومواثيقه ووثائقه ومعاهداته، وقد أبرزه وكرسه، قبل كل ذلك، كل من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن وإعلان الاستقلال الأميركي.
إن اتخاذ مثل هذا الموقف قد يحتاج إلى بعض الجرأة السياسية والدبلوماسية، ولكنه يستلزم الكثير من الروح والمسؤولية الوطنيتين و«الإنسانيتين». فلماذا نعيب على أنفسنا، أو بعضنا يفعل ذلك، حقنا في المقاومة والدفاع عن عزتنا وكرامتنا وبلدنا وأرضنا ومائنا وثرواتنا؟ ولماذا لا نمتلك القدرة على المجاهرة والمبادرة؟ وهذه مشكلة لا يمكننا أن نتوانى عن ذكرها، وحالنا فيها، هنا بالتحديد، كحال الأعراب لا يملكون ولا يمتلكون! فكفانا مراوغة ومواربة، لاعتبارات سياسية وحسابات خاصة، وبخلفيات غير معلنة ونيات مضمرة، وإن كانت كلها معروفة ومكشوفة للجميع ومن قبل الجميع.
المقاومة لم تكن بالصدفة، منذ البداية، وليست حالة عابرة في تاريخ هذا البلد، بل هي اختيار واضح وصريح سلكه الناس وتمسكوا به، وذلك على غرار كل الشعوب والأمم في مواجهة الاحتلال الأجنبي أو التهديد الخارجي. هو خيار لا لبس فيه، ولا رجوع عنه، ولا مساومة عليه؛ وهو أيضاً واجب لا يمكن، ولا ينبغي، التنصل منه، أو التردد في أدائه وتحمله. والمقاومة ليست حكراً على المسلمين، وبخاصة الشيعة، أو لنقل العامليين، من دون المسيحيين من بقية اللبنانيين، في مواجهة الإسرائيليين الصهاينة، ومن معهم ومن خلفهم؛ كما أن المقاومة، في المقابل، لا يمكن أن تكون حكراً على المسيحيين وحدهم، حين يتهددهم الخطر، أو يطالهم العدوان، وأن يتنصل منها المسلمون. المقاومة ليست حالة أو فكرة خاصة، غير موحدة وفئوية، بمعنى طائفية أو مذهبية أو مناطقية؛ وإنما هي، على العكس من ذلك، حالة عامة ومشتركة وفكرة وطنية وإنسانية، لا يمكن أي أحد أن يتخلى عنها أو ينالها بسوء أو أذية. وإن تجرأ أحد منا على ذلك، فالمقاومة الوطنية، الجامعة والموحدة والمشتركة، لن تتخلى عنه ولن تتنصل منه ولن تتردد أبداً في الدفاع والذود عنه، والتاريخ الحديث والمعاصر، والقريب منه والبعيد، يشهد على ذلك، كحتمية طبيعية وقاعدة ثابتة، لا استثناء عليهما أو خروج عنهما.
المقاومة ليست مجرد أسلحة وذخيرة، والمقاومة ليست ميليشيا، بل هي ثقافة وعقيدة، وفعل إرادة وطنية وشعبية، وهي تجسيد لإرادة كريمة بالتمسك بالكرامة الإنسانية، وحفظها، ومنع النيل منها، أو المس بها، وكذلك العزة الوطنية. من هنا، المقاومة هي صورة نبيلة لمرحلة متقدمة من المواطنة الملتزمة بقضية البلد الأولى والمصلحة الوطنية العليا. المقاومة هي حقنا الذي لا نتخلى عنه، وواجبنا الذي لا نتردد حياله، وفخرنا الذي لا ينطفئ، كشعلة مضيئة، في سجل بلدنا ومنطقتنا وتاريخهما، وهي مجدنا الذي صنعناه بدماء كل شهدائنا وعزنا الذي صناه بتضحياتنا. المقاومة هي من أغلى ما لدينا، وربما هي ما تبقى من شرف أمتنا؛ وهي باقية لا محالة، في ذاكرتنا ونفوسنا وقلوبنا وعقولنا لا تغيب منا ولا نغيب عنها وندين لها كلنا، ولا تدين لأحد، أو تتبع له. إنها المقاومة الوطنية اللبنانية، المستمرة والمتجددة، ضد إسرائيل، وضد الإرهاب الدولي والتكفيري، وضد كل من يتربص ببلدنا وشعبنا. ربما لم تكن مخطئة السيدة فيروز، أيقونة لبنان، حين قيل عنها، إنها تحب السيد نصر الله؛ وهو في حقيقة الأمر مجرد خيار سياسي معين يعبر عن قناعة سياسية معينة، ويعكس أيضاً خلفية سياسية معينة أو لنقل خلفية أو رؤية وطنية بكل معنى الكلمة. فالمقاومة، كما هي فيروز، حالة وطنية وإنسانية، راقية ومتقدمة؛ وهما تعكسان وجه بلدنا الحضاري وتجسدان الإرادة اللبنانية الواعية والحقيقية في الحياة، كما في النجاح والانتصار فيها وترفعان الصوت للدفاع عن القضية اللبنانية.
ما بين هذين النموذجين الوطنيين والتقدميين، هناك الكثير من القيم والمفاهيم النبيلة والمشتركة. ثمة من يعتقد أو يقول إنهما على طرفي نقيض، ولكنه مخطئ بالتأكيد، ومشتبه لا محالة، وهو لم يفقه بعد حقيقة وجوهر وجود التجربة أو الصيغة اللبنانية. فهذا البلد الصغير، مساحته الجغرافية، وبوزنه أو تعداده الديمغرافي، يشكل، بتعدده وتنوعه، مختبراً للتفاعل وملتقى للحوار، بين الأديان والطوائف والمذاهب وغيرها؛ كل هذا هو صحيح؛ ولكنه أيضاً بؤرة متفجرة، أو ربما هو عرضة للسقوط والفشل، بفعل تصاعد التوتر والاضطراب، وحتى الصدام المحتمل، والمفتعل والمرجح في بعض الأوقات. وما بين هذين الوجهين أو المظهرين المختلفين، بل المتناقضين، للبلد، وواقع الحال السياسي فيه، ثمة ما يمكن أن يُقال. فهو يمكنه أن يحوي كل هذه التيارات والاتجاهات والخيارات، أو الاختيارات، السياسية والثقافية والفكرية لأنه، وكذلك شعبه، ممزوج و«مجبول» بالحرية التي تبقى المدماك الأساسي لنظامنا الديموقراطي والنواة الصلبة لعقيدتنا السياسية والوطنية. فما بين فيروز، الأيقونة التي نحب، ونصر الله، الرمز والقضية، الذي نحب أيضاً، قصة وحكاية لبلد نحبه طبعاً، وشعب يجب أن يحيا وأن يحكي هذه الحكاية!
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية